
فَالْمُرَادُ بِالِاسْتِقْرَارِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: مُسْتَقِرٌّ الِاسْتِقْرَارُ فِي الدُّنْيَا.
وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِالْإِيمَاءِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ أَمْرَ دَعْوَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيَرْسَخُ وَيَسْتَقِرُّ بَعْدَ تَقَلْقُلِهِ.
وَمُسْتَقِرٌّ: بِكَسْرِ الْقَافِ اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ اسْتَقَرَّ، أَيْ قَرَّ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلُ السِّينِ وَالتَّاءِ فِي اسْتَجَابَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِرَفْعِ الرَّاءِ مِنْ مُسْتَقِرٌّ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِخَفْضِ الرَّاءِ عَلَى جَعْلِ كُلُّ أَمْرٍ عَطْفًا على السَّاعَةُ [الْقَمَر: ١]. وَالتَّقْدِيرُ: وَاقْتَرَبَ كُلُّ أَمْرٍ. وَجَعْلِ مُسْتَقِرٌّ صِفَةَ أَمْرٍ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ إِعْرَاضَهُمْ عَنِ الْآيَاتِ وَافْتِرَاءَهُمْ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا سِحْرٌ وَنَحْوُهُ وَتَكْذِيبُهُمُ الصَّادِقَ وَتَمَالُؤُهُمْ عَلَى ذَلِكَ لَا يُوهِنُ وَقْعَهَا فِي النُّفُوسِ وَلَا يَعُوقُ إِنْتَاجَهَا. فَأَمْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَائِرٌ إِلَى مَصِيرِ أَمْثَالِهِ الْحَقِّ مِنَ الِانْتِصَارِ وَالتَّمَامِ وَاقْتِنَاعِ النَّاسِ بِهِ وَتَزَايُدِ أَتْبَاعِهِ، وَأَنَّ اتِّبَاعَهُمْ أَهْوَاءَهُمْ وَاخْتِلَاقَ مَعَاذِيرِهِمْ صَائِرٌ إِلَى مَصِيرِ أَمْثَالِهِ الْبَاطِلَةِ مِنَ الِانْخِذَالِ وَالِافْتِضَاحِ وَانْتِقَاصِ الْأَتْبَاعِ.
وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا التَّذْيِيلُ بِإِجْمَالِهِ تَسْلِيَةً لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَهْدِيدًا لِلْمُشْرِكِينَ وَاسْتِدْعَاءً لنظر المترددين.
[٤، ٥]
[سُورَة الْقَمَر (٥٤) : الْآيَات ٤ إِلَى ٥]
وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥)
عَطَفَ عَلَى جُمْلَةِ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ [الْقَمَر: ٣] أَيْ جَاءَهُمْ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَنْبَاءِ الْأُمَمِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ لِهَؤُلَاءِ، أَوْ أُرِيدَ بِالْأَنَبَاءِ الْحُجَجُ الْوَارِدَةُ فِي الْقُرْآنِ، أَيْ جَاءَهُمْ مَا هُوَ أَشَدُّ فِي الْحُجَّةِ مِنَ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ. ومِنَ الْأَنْباءِ بَيَانُ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ قُدِّمَ عَلَى الْمُبَيَّنِ ومِنَ بَيَانِيَّةٌ.
وَالْمُزْدَجَرُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، وَهُوَ مُصَاغٌ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ الَّذِي فِعْلُهُ زَائِدٌ عَلَى

ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ. ازدجره بِمَعْنَى زَجَرَهُ، وَمَادَّةُ الِافْتِعَالِ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَالدَّالُ بَدَلٌ مِنْ تَاءِ الِافْتِعَالِ الَّتِي تُبْدَلُ بَعْدَ الزَّايِ إِلَّا مِثْلَ ازْدَادَ، أَيْ مَا فِيهِ مَانِعٌ لَهُمْ مِنَ ارْتِكَابِ مَا ارْتَكَبُوهُ.
وَالْمَعْنَى: مَا هُوَ زَاجِرٌ لَهُمْ فَجَعَلَ الِازْدِجَارَ مَظْرُوفًا فِيهِ مَجَازًا لِلْمُبَالَغَةِ فِي مُلَازَمَتِهِ لَهُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّجْرِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الْأَحْزَاب: ٢١] أَيْ هُوَ أُسْوَةٌ.
وحِكْمَةٌ بالِغَةٌ بَدَلٌ مِنْ مَا، أَيْ جَاءَهُمْ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ.
وَالْحِكْمَةُ: إِتْقَانُ الْفَهْمِ وَإِصَابَةُ الْعَقْلِ. وَالْمُرَادُ هُنَا الْكَلَام الَّذِي تضمن الْحِكْمَةَ وَيُفِيدُ سَامِعَهُ حِكْمَةً، فَوَصْفُ الْكَلَامِ بِالْحِكْمَةِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ كَثِيرُ الِاسْتِعْمَالِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
[٢٦٩]، وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً.
وَالْبَالِغَةُ: الْوَاصِلَةُ، أَيْ وَاصِلَةٌ إِلَى الْمَقْصُودِ مُفِيدَةٌ لِصَاحِبِهَا.
وَفَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْله: فَما تُغْنِ النُّذُرُ، أَيْ جَاءَهُمْ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ فَلَمْ يُغْنِ ذَلِكَ، أَيْ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ الْإِقْلَاعُ عَنْ ضَلَالِهِمْ.
وَمَا تَحْتَمِلُ النَّفْيَ، أَيْ لَا تُغْنِي عَنْهُمُ النُّذُرُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَهَذَا تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ [الْقَمَر: ٦]، فَالْمُضَارِعُ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، أَيْ مَا هِيَ مُغْنِيَةٌ، وَيُفِيدُ بِالْفَحْوَى أَنَّ تِلْكَ الْأَنْبَاءَ لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ فِيمَا مَضَى بِطَرِيقِ الْأَحْرَى، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَا جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ الِانْزِجَارِ شَيْئًا فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ فَهُوَ لَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ فِيمَا مَضَى إِذْ لَوْ أغْنى عَنْهُم لَا رتفع اللَّوْمُ عَلَيْهِمْ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامِيَّةً لِلْإِنْكَارِ، أَيْ مَاذَا تُفِيدُ النُّذُرُ فِي أَمْثَالِهِمُ الْمُكَابِرِينَ الْمُصِرِّينَ، أَيْ لَا غِنَاءَ لَهُمْ فِي تِلْكَ الأنباء، فَمَا عَلَى هَذَا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُول الْمُطلق ل تُغْنِ، وَحُذِفَ مَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ مَا. وَالتَّقْدِيرُ: فَأَيُّ غِنَاءٍ تُغْنِي النُّذُرُ وَهُوَ الْمُخْبِرُ بِمَا يَسُوءُ، فَإِنَّ الْأَنْبَاءَ تَتَضَمَّنُ إِرْسَالَ الرُّسُلِ مِنَ اللَّهِ مُنْذِرِينَ لِقَوْمِهِمْ فَمَا أَغْنَوْهُمْ وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِمْ وَلِأَنَّ الْأَنْبَاءَ فِيهَا الْمَوْعِظَةُ وَالتَّحْذِيرُ مِنْ مِثْلِ صَنِيعِهِمْ فَيَكُونُ