آيات من القرآن الكريم

وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ
ﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘ ﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ

وختمت السورة ببيان ظاهرة التوازن في خلق الأشياء، وسرعة نفاذ أمر الله ومشيئته كلمح البصر، وضرورة العظمة والتذكر بهلاك الطغاة، ورصد جميع أعمال البشر في سجلات محفوظة، وتبشير المتقين بالجنات والكرامات عند ربهم المليك المقتدر.
والخلاصة: أن السورة حافلة بالوعد والوعيد، والعظات والعبر بأخبار الماضين، وتهديد الكفار بعقاب مماثل، وإكرام المتقين في جنات ونعيم.
فضل السورة:
تقدم في فضل سورة ق إيراد حديث أبي واقد الليثي فيما يرويه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة: «أن رسول الله ﷺ كان يقرأ بقاف واقتربت الساعة في الأضحى والفطر» وكان يقرأ بهما في المحافل الكبار كالجمع والعيد، لاشتمالها على ذكر الوعد والوعيد، وبدء الخلق وإعادته، والتوحيد وإثبات النبوات وغير ذلك من المقاصد العظيمة.
انشقاق القمر وموقف المشركين منه
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ١ الى ٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤)
حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨)

صفحة رقم 144

الإعراب:
ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ أصله «مزتجر» بوزن مفتعل من الزجر، وإنما أبدلت التاء دالا، لأن التاء مهموسة والزاي مجهورة، فأبدلوا من التاء دالا، لتوافق الزاي في الجهر. وهو اسم مصدر أو اسم مكان. وما اسم موصول أو نكرة موصوفة. والجار والمجرور: مِنَ الْأَنْباءِ متعلق بمحذوف حال مقدم من ما. حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ: حِكْمَةٌ: إما بدل مرفوع من ما في قوله تعالى: ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ وما: مرفوعة فاعل: «جاء»، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هي حكمة بالغة. وفَما في قوله: فَما تُغْنِ النُّذُرُ: إما استفهامية استفهام إنكاري، في موضع نصب ب تُغْنِ أي، أيّ شيء تغني النذر، أو نافية على تقدير حذف مفعول تُغْنِ وتقديره: فما تغني النذر سيئا. وحذفت ياء «تغني» وواو «يدعو» اتباعا لخط المصحف، لأنه كتب على لفظ الوصل، لا على لفظ الوقف. يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ ناصب يوم: يخرجون الآتي بعده.
خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ خُشَّعاً: حال منصوب من ضمير عَنْهُمْ في قوله تعالى:
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ وكذلك قوله تعالى: مُهْطِعِينَ حال منصوب من ضمير عَنْهُمْ.
البلاغة:
يَدْعُ الدَّاعِ بينهما جناس الاشتقاق.
المفردات اللغوية:
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ قربت القيامة ودنت. وَانْشَقَّ الْقَمَرُ روى الشيخان أن الكفار سألوا رسول الله ﷺ آية، فانشق القمر، أي انفلق فلقتين على أبي قبيس وقعيقعان. وَإِنْ يَرَوْا أي كفار قريش. آيَةً معجزة له ﷺ دالة على نبوته. وَيَقُولُوا: سِحْرٌ أي هذا سحر. مُسْتَمِرٌّ محكم قوي، من المرّة وهي القوة، أو دائم مطرد. وَكَذَّبُوا النّبي صلى الله عليه وسلم.
وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ما زيّن لهم الشيطان من الوساوس ورد الحق بعد ظهوره. وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ أي وكل أمر من الخير والشر منته إلى غاية من خذلان أو نصر في الدنيا، وشقاوة أو سعادة في الآخرة، وبعبارة أخرى: كل أمر لا بدّ أن يصير إلى غاية يستقر عليها، وقرئ بفتح القاف.
مُسْتَقِرٌّ أي ذو استقرار، أو له زمان استقرار أو موضع استقرار، فهو إما مصدر أو ظرف زمان أو مكان.
الْأَنْباءِ أخبار الأمم الماضية وما أصابهم من عذاب أو إهلاك لتكذيبهم الرسل.
مُزْدَجَرٌ ما يزجرهم ويكفيهم، يقال: زجرته وازدجرته: نهيته بغلظة، أو كففته فانكف.

صفحة رقم 145

حِكْمَةٌ بالِغَةٌ تامة، واصلة غاية الإحكام والإبداع، لا خلل فيها. تُغْنِ تفيد وتنفع.
النُّذُرُ المنذرون، جمع نذير بمعنى منذر، أو الأمور المنذرة لهم، جمع المنذر منه، أو مصدر بمعنى الإنذار.
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أعرض عنهم ولا تجادلهم، لعلمك أن الإنذار لا ينفع ولا يغني فيهم. يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ يوم ينادي إسرافيل. إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ إلى شيء شديد الهول تنكره النفوس إذ لا عهد لها مثله. خُشَّعاً أذلة، جمع خاشع، أي ذليل، ويقرأ خشعا بضم الخاء وفتح الشين، أي مشددة. الْأَجْداثِ القبور جمع جدث. كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ في الكثرة والتموج والانتشار في الأمكنة، والجراد: حيوان طائر معروف يأكل النبات، والمنتشر: الكثير.
مُهْطِعِينَ مسرعين، مادّين أعناقهم، منقادين. هذا يَوْمٌ عَسِرٌ يوم صعب شديد على الكافرين، كما في قوله تعالى: فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ، عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر ٧٤/ ٩- ١٠].
سبب النزول: نزول الآية (١- ٢) :
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ... : أخرج الشيخان والحاكم- واللفظ له- عن ابن مسعود قال: رأيت القمر منشقا شقين بمكة، قبل مخرج النّبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا:
سحر القمر، فنزلت: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ، وَانْشَقَّ الْقَمَرُ.
وأخرج الترمذي عن أنس قال: سأل أهل مكة النّبي ﷺ آية، فانشق القمر بمكة، مرتين، فنزلت: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ، وَانْشَقَّ الْقَمَرُ إلى قوله: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ.
وأخرج محمد بن جرير وأبو داود الطيالسي والبيهقي عن عبد الله بن مسعود قال: انشقّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة، سحركم، فاسألوا السّفّار، فسألوهم، فقالوا: نعم قد رأينا، فأنزل الله عزّ وجلّ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ.

صفحة رقم 146

التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن اقتراب القيامة وانتهاء الدنيا، فيقول:
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ أي قربت القيامة ودنت، واقترب موعد انقضاء الدنيا، أي قد صارت باعتبار نسبة ما بقي بعد النبوة المحمدية إلى ما مضى من الدنيا قريبة، كما قال تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل ١٦/ ١] وقال سبحانه: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء ٢١/ ١].
وروى أبو بكر البزّار عن أنس أن رسول الله ﷺ خطب أصحابه، وقد كادت الشمس أن تغرب، فلم يبق منها إلا سفّ يسير، فقال:
«والذي نفسي بيده، ما بقي من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا، فيما مضى منه، وما نرى من الشمس إلا يسيرا».
ويعضده ما أخرجه أحمد والشيخان عن سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «بعثت أنا والساعة هكذا»
وأشار بأصبعيه: السبابة والوسطى. وقيل: المراد تحقق وقوع الساعة.
ثم أخبر الله تعالى عن انشقاق القمر معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ أي وقد انشق القمر معجزة لرسول الله ﷺ وآية ظاهرة على قرب القيامة وإمكانها. قال ابن كثير: قد كان هذا في زمان رسول الله ﷺ كما ورد ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة، وهذا أمر متفق عليه بين العلماء، وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات «١». وقرب القيامة بالرغم من مضي أكثر من أربعة عشر قرنا باعتبار أن كل ما هو آت قريب.
أخرج أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن أنس أن أهل مكة سألوا

(١) تفسير ابن كثير: ٤/ ٢٦١

صفحة رقم 147

رسول الله ﷺ أن يريهم آية، فأراهم القمر شقتين، حتى رأوا حراء (جبل مشهور بمكة) بينهما.
وأخرجا أيضا عن ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله ﷺ فرقتين: فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشهدوا».
وقيل: المراد الإخبار عن أنه سينشق القمر.
ثم أخبر الله تعالى عن موقف الكفار وعنادهم أمام هذه المعجزة، فقال:
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا، وَيَقُولُوا: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ أي وإن ير المشركون علامة على النبوة ودليلا على صدق النّبي صلى الله عليه وسلم، يعرضوا عن التصديق والإيمان بها، ويولوا مكذبين بها قائلين: هذا سحر قوي شديد يعلو كل سحر، مأخوذ من قولهم: استمرّ الشيء: إذا قوي واستحكم، وقيل: مستمر، أي دائم مطرد.
وهذا ردّ على المشركين الذين طالبوا بآية، قال المفسرون: لما انشق القمر، قال المشركون: سحرنا محمد، فقال الله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يعني انشقاق القمر. ثم أكد تعالى موقفهم هذا بقوله:
وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ، وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ أي وكذبوا بالحق إذ جاءهم، واتبعوا ما أملته عليه أهواؤهم وآراؤهم في أن محمدا ﷺ ساحر أو كاهن، بسبب جهلهم وسخافة عقولهم. ثم هددهم تعالى وأخبرهم بأن كل أمر منته إلى غاية مماثلة له، فالخير يستقر بأهل الخير، والشر يستقر بأهل الشرّ، فقوله: وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ
استئناف للرد على الكفار في تكذيبهم، ببيان أنه لا فائدة لهم في ذلك، لأن كل أمر له غاية حتما، وسينتهي أمر النّبي ﷺ إلى غاية يظهر فيها أنه على حق، وهم على باطل.
وفي هذا أيضا تسلية لرسول الله ﷺ وتبشير له بأن النصر سيكون حليفه في الدنيا، وأن له ولأتباعه الدرجة العالية والجنة في الآخرة.

صفحة رقم 148

ثم وبخهم الله على إصرارهم على الكفر وعلى ضلالهم، فقال: وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ أي ولقد جاء كفار مكة وأمثالهم من أخبار الأمم المكذبة رسلها، وما حل بهم من العقاب والنكال في هذا القرآن ما فيه كفاية لكفهم عن السوء، وزجر وردع ووعظ عما هم فيه من الشرك والوثنية والعصيان والتمادي في التكذيب.
ووصف الله تعالى تلك الأنباء بقوله:
حِكْمَةٌ بالِغَةٌ، فَما تُغْنِ النُّذُرُ أي إن هذه الأنباء في القرآن وما تضمنته من عبرة وعظة وهداية حكمة بالغة كاملة قد بلغت منتهى البيان، ليس فيها نقص ولا خلل، ولا تفيد النذر أو الإنذارات شيئا للمعاندين، فإن عنادهم يصرفهم عن الحق، فتكون «ما» نافية، ويصح أن تكون استفهاما إنكاريا، بمعنى أي غناء أو شيء تغني النذر أي الإنذارات لهؤلاء الكفار الطغاة؟ فإنك أيها النّبي أتيت بما عليك من الإخبار بالنبوة مقرونة بالآية الباهرة، وأنذرتهم بأحوال الأقدمين، فلم يفدهم شيئا.
ونظير الآية قوله تعالى: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس ١٠/ ١٠١].
ثم أمر الله نبيه بالإعراض عن مجادلتهم بعدئذ، فقال:
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ، يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ أي أعرض عنهم يا محمد، ولا تتعب نفسك بدعوتهم، حيث لم يؤثر فيهم الإنذار، وانتظرهم واذكر يا محمد ذلك اليوم الذي يدعو فيه إسرافيل إلى شيء فظيع تنكره نفوسهم، استعظاما له، إذ لا عهد لهم بمثله أبدا، وهو موقف الحساب الرهيب وما فيه من البلاء والأهوال.

صفحة رقم 149

خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ أي يوم يكون أولئك الكفار في ذلك اليوم ذليلة أبصارهم من الذل والهوان، يخرجون من القبور على هذه الحال من الذل، كأنهم لكثرتهم واختلاطهم وانتشارهم وسرعة سيرهم إلى موقف الحساب إجابة للداعي جراد منتشر منبثّ في الآفاق، مختلط بعضه ببعض.
وهذا كقوله تعالى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة ١٠١/ ٤].
مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ، يَقُولُ الْكافِرُونَ: هذا يَوْمٌ عَسِرٌ أي مسرعين إلى الداعي، وهو إسرافيل دون تلكؤ ولا تأخر، يقول الكفار: هذا يوم صعب شديد الهول على الكفار، ولكنه ليس بشديد على المؤمنين.
ونظير الآية: فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ، عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر ٧٤/ ٩- ١٠]. وهذا يدل بطريق المفهوم على أنه يوم هيّن يسير على المؤمنين.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- اقتراب موعد يوم القيامة، فكل آت قريب، وإن مرور عشرات القرون بعد نزول هذه الآية وأمثالها لا يعد شيئا في حساب عمر الدنيا الذي قدّر بخمسة مليارات سنة.
٢- حدوث انشقاق القمر بمكة في عهد النّبي ﷺ معجزة له، قال القرطبي: وقد ثبت بنقل الآحاد العدول أن القمر انشق بمكة، وهو ظاهر التنزيل، ولا يلزم أن يستوي الناس فيها، لأنها كانت آية ليلية، وأنها كانت

صفحة رقم 150

باستدعاء النّبي ﷺ من الله تعالى عند التحدي «١».
وقال الرازي: وأما المؤرخون فتركوه، لأن التواريخ في أكثر الأمر يستعملها المنجم، وهو لما وقع الأمر قالوا بأنه مثل خسوف القمر، وظهور شيء في الجو على شكل نصف القمر في موضع آخر، فتركوا حكايته في تواريخهم، والقرآن أدل دليل، وأقوى مثبت له، وإمكانه لا يشك فيه، وقد أخبر عنه الصادق، فيجب اعتقاد وقوعه «٢».
والقائلون بأن الأخبار الواردة بشأن انشقاق القمر أخبار آحاد غير متواترة يرون أن منكر ذلك لا يكفر، لعدم التواتر في السنة، وكون الآية ليست نصا في ذلك.
٣- دلّ قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا على أن المشركين رأوا انشقاق القمر.
قال ابن عباس: اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا:
إن كنت صادقا فاشقق لنا القمر فرقتين، نصف على أبي قبيس ونصف على قعيقعان، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن فعلت تؤمنون؟» قالوا: نعم، وكانت ليلة بدر، فسأل رسول الله ﷺ ربّه أن يعطيه ما قالوا، فانشق القمر فرقتين، ورسول الله ﷺ ينادي المشركين: «يا فلان، يا فلان اشهدوا».
ويؤيده حديث ابن مسعود المتقدم في سبب النزول.
٤- لم يجد المشركون طريقا لتكذيب آية الانشقاق إلا بأن يصفوه بأنه سحر محكم قوي شديد، من المرّة وهي القوة، أو دائم نافذ مطرد، أو ذاهب، من قولهم: مرّ الشيء واستمر: إذا ذهب.

(١) تفسير القرطبي: ١٧/ ١٢٦
(٢) تفسير الرازي: ٢٩/ ٢٨

صفحة رقم 151

٥- لقد كذبوا نبيهم واتبعوا ضلالاتهم واختياراتهم وآراءهم الباطلة في أن انشقاق القمر خسوف عرضي للقمر.
٦- هددهم الله تعالى بأن كل أمر مستقر، أي يستقر بكل عامل عمله، فالخير مستقرّ بأهله في الجنة، والشرّ مستقرّ بأهله في النار، وكل أمر صائر إلى غاية، وأن أمر محمد ﷺ سيصير إلى حدّ يعرف منه حقيقته، وكذلك أمرهم مستقر على حالة البطلان والخذلان.
٧- لقد أعذر من أنذر، وجاء هؤلاء الكفار من أنباء الأمم الخالية ما يزجرهم عن الكفر لو قبلوه، وأخبرهم الرسول باقتراب القيامة، وأقام الدليل على صدقه، ووعظهم بأحوال القرون الخالية وأهوال الدار الآخرة.
٨- الأنباء التي في القرآن الكريم أو القرآن نفسه حكمة بالغة النهاية في الكمال والبيان.
٩- إذا كذّب الكفار وخالفوا وعاندوا وأصروا على كفرهم، فليست تغني عنهم النذر، فتكون «ما» نافية في قوله: فَما تُغْنِ النُّذُرُ. ويجوز أن تكون استفهاما بمعنى التوبيخ، أي فأي شيء تغني النذر عنهم، وهم معرضون عنها؟! والنذر بمعنى الإنذار، أو جمع نذير.
١٠- إذا كان هذا شأن الكفار، فأعرض يا محمد عن مجادلتهم ومحاجتهم، ولا تسأل عنهم وعن أحوالهم، واذكر يوم يدع الداعي: إسرافيل إلى شيء فظيع عظيم شديد تنكره نفوسهم لشدة أهواله، وهو موقف الحساب ويوم القيامة.
١١- في يوم القيامة يخرج الكفار من قبورهم ذليلة أبصارهم، كأنهم لكثرتهم واختلاطهم وتموجهم جراد منتشر مبثوث في كل مكان. وقال تعالى في آية أخرى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة ١٠١/ ٤]. قال القرطبي: فهما صفتان في وقتين مختلفين:

صفحة رقم 152
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية