ولا تعارض إذ إن كلا من التشبيهين في وقت، فهم عند الخروج يكونون هائمين ليس لهم مقصد كالفراش، وعند نداء الداعي والتوجه إلى المحشر يكونون كالجراد المنتشر حالة كونهم مهطعين إلى الداعي ومسرعين نحوه لا يلوون على شيء! يا ويلهم في هذا الظرف! يقول الكافر: هذا يوم عسر شديد لما يشاهد من الأهوال، وما يرتقب من سوء المصير!!!
عاقبة المكذبين من قوم نوح وعاد وثمود وآل فرعون وقوم لوط [سورة القمر (٥٤) : الآيات ٩ الى ٤٢]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣)
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨)
إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣)
فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨)
فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣)
إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨)
فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢)
المفردات:
وَازْدُجِرَ أى: زجر عن دعوة النبوة، وأصل ازدجر: ازتجر، ثم قلبت التاء دالا لتناسب الزاى، وهذا أصل معروف في اللغة العربية. بِماءٍ مُنْهَمِرٍ أى: كثير متدفق. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً أصله: وجعلنا الأرض عيونا متفجرة. قَدْ قُدِرَ: على مقدار مقدر لم يزد أحدهما عن الآخر. ذاتِ أَلْواحٍ أى: على سفينة ذات ألواح. وَدُسُرٍ: هي المسامير التي تشد بها السفينة. مُدَّكِرٍ: متعظ، وأصله: مذتكر، ثم قلبت التاء دالا ثم قلبت الذال دالا وأدغمت في مثلها كل ذلك للتخفيف اللفظي. صَرْصَراً: شديد البرد أو الصوت. يَوْمِ نَحْسٍ: يوم شؤم كله. أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ الأعجاز: جمع عجز، وهو مؤخر الشيء، والمنقعر: المنقطع من أصله. وَسُعُرٍ أى: جنون، وعليه ناقة مسعورة كأنها من شدة نشاطها مجنونة. أَشِرٌ الأشر: هو المرح والتجبر والنشاط مع التعاظم.
شِرْبٍ الشرب: الحظ من الماء. مُحْتَضَرٌ أى: يحضره من هوله.
فَتَعاطى أى: تناول عقرها فعقرها. كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ المحتظر: الذي يعمل الحظيرة لغنمه بالشوك والشجر فما سقط من ذلك وداسته الغنم فهو الهشيم، والهشيم:
هو العصف، أى: التبن، وقرئ: المحتظر، أى: الاحتظار، أى: هو الشجر المتخذ منه الحظيرة.
حاصِباً أى: ريحا ترميهم بالحصباء. بِسَحَرٍ السحر: هو ما بين آخر الليل وطلوع الفجر. راوَدُوهُ: أرادوا تمكينهم ممن كان أتاهم ضيفا. فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ أى: صارت أعينهم مطموسة لا شق لها كما تطمس الريح الأعلام بما تسفى عليها من التراب.
وهذه قصص خمسة، فيها أنباء بعض الأمم الذين جاءتهم رسلهم بالبينات فكذبوهم وآذوهم، ثم كانت عاقبة أمرهم خسرا، ولم يكن كفار مكة بأقوى منهم أو أشد، فكان من الخير أن يعتبر المشركون بقصصهم ويزدجروا، ولكنهم ما اعتبروا وما أغنتهم النذر وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ، وهذا بيان وتفصيل لتلك الأنباء وتقرير لفحوى قوله: فما تغنى النذر.
ولقد بدأ القرآن بقصة نوح، ثم عاد، ثم ثمود، ثم ذكر قوم لوط، وختم بقصة فرعون.
المعنى:
كذبت قبل مشركي مكة قوم نوح فكذبوا «١» عبدنا نوحا، ويا ليتهم اقتصروا على ذلك بل قالوا له: هو مجنون، وكذبوه، ورموه بالجنون، وزجروه عن تبليغ الدعوة بالإيذاء والتخويف.
ولما اشتد عليه الإيذاء دعا ربه بأنى مغلوب على أمرى فانتصر لي، وانتقم من هؤلاء رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [سورة نوح آية ٢٦].
فاستجاب الله دعاء نوح، وحقت عليهم الكلمة، وفتح عليهم أبواب السماء بماء متدفق كثير «٢»، وفجر الله عيون الأرض، وفتحها لينساب الماء منها بتدفق غزير، فالتقى الماء النازل من السماء والماء النابع من الأرض حالة كونه على قدر قدره الله لم يتجاوز واحد منهما قدره.
وكان نوح قد أمر بصنع السفينة، وصنعها بين استهزاء قومه وسخريتهم، فلما ازداد الماء ركب نوح ومن معه السفينة ونجا من الغرق، فانظر إليه وقد حمله ربك على السفينة وصارت تجرى بعناية الله وتحت رعايته! حتى نجا وغرق من كفر به، فعل ذلك ربك إكراما لنوح- عليه السلام- وجزاء لمن كفر به وبرسالته من قومه، ولقد تركناها آية وعبرة لمن يأتى بعدها، فهل من معتبر؟! فانظر كيف كان عذاب ربك للعصاة الكافرين، وكيف كان إنذارهم؟! وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟ وهذه جملة ذكرت عقيب كل قصة تقريرا لمضمون ما سبق من قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ ولعلها كررت لبيان أن كل قصة كافية في الاعتبار والاتعاظ.
(٢) في الكلام استعارة تمثيلية حيث شية تدفق المطر من السحاب بانصباب أنهار انفتحت بها أبواب السماء، وبعضهم يرى أن الكلام على حقيقته وأن السماء تحت أبوابها بالماء بدون سحاب.
المعنى:
وبالله لقد يسرنا القرآن وسهلناه بأن أنزلناه بلسان عربي مبين، وملأناه بالحكم والمواعظ والقصص التي تفيد العبرة، فعلنا ذلك للذكر والاتعاظ فهل من مدكر؟!! وقيل المعنى: سهلنا القرآن للحفظ فهل من طالب للحفظ فيعان عليه؟ والمعنى الأول هو الأنسب بالمقام.
وهذه قصة عاد: لقد كذبت رسولها هودا فانظر كيف كان عذابي وإنذارى بهم؟! إنا أرسلنا «١» عليهم ريحا صرصرا عاتية، سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما لا خير فيها أبدا، وكان هلاكهم في يوم نحس وشؤم عليهم، يوم مستمر حتى أهلكهم، ولا شك أنه يوم مرّ كريه، وهذه الريح كانت تنزع الواحد منهم وتقلعه إذا دخل حفرة أو كهفا في جبل كأنهم والحالة هذه أعجاز نخل منقطع عن مغارسه ساقط على الأرض.
فانظر كيف كان عذابي للكفار المكذبين وإنذارى؟! ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر! وتلك قصة ثمود: لقد كذبت بالرسل جميعا إذ تكذيب صالح- وهو واحد منهم- تكذيب للكل، كذبت ثمود بالنذر، فقالوا منكرين رسالة نبيهم صالح: أبشرا منا واحدا منفردا لا تابع معه. وليس من الأشراف نتبعه؟! إن اتبعناه لنكونن في ضلال وجنون.
عجبا لهذا الرجل! أألقي عليه الذكر، وأنزل عليه الوحى من بيننا؟ وفينا من هو أحق منه لغناه وعلو شرفه وكثرة أتباعه! ليس الأمر كما يدعى صالح. بل هو كذاب شديد البطر كثير الفرح والمرح يتعاظم علينا بهذه الدعوة، والله سبحانه يرد عليهم بقوله لصالح: سيعلمون غدا- وإن غدا لناظره قريب- من هو الكذاب الأشر.
وكانوا قد طلبوا من صالح آية لهم، وأراد الله إبرازها فتنة لهم، فأخرج الناقة من الهضبة إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ إنا مخرجوها لهم فتنة وابتلاء وآية فانتظر يا صالح واصبر على أذى قومك، فقد قرب اليوم الموعود ونبئهم أن الماء قسمة بينهم، أى:
بين آل ثمود، وبين الناقة، لها يوم ولهم يوم لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ روى ابن عباس: كان يوم شربهم لا تشرب الناقة شيئا من الماء، وتسقيهم لبنا.
وإذا كان يوم الناقة شربت الماء كله فلم تبق لهم شيئا، ونبئهم يا صالح: أن الماء مقسوم بينهم: لها يوم، ولهم يوم، كل شرب ونصيب محتضر، أى: يحضره صاحبه في نوبته لا يتعداه كما روى عن ابن عباس.
ولكن ثمود ملوا هذه القسمة، وطغوا وبغوا، وعزموا على عقر الناقة فنادوا صاحبهم الجريء في الباطل، قيل: اسمه قدار بن سالف، فتعاطى هذا الفعل الشنيع واجترأ على قتل الناقة فعقرها، فاستحقوا غضب العزيز الجبار، فانظر كيف كان عذابهم وإنذارهم؟ إن ربك أرسل عليهم صيحة واحدة من جبريل، فصاروا بسببها كالشجر الجاف الذي يجمعه صاحب الغنم ليعمل حظيرة تمنع عن غنمه عوائد البرد والسباع.
ولقد يسرنا القرآن للذكرى والموعظة، فهل من متذكر أو متعظ بما حل بغيره؟
وأما قوم لوط فقد كذبوا بالنذر وعصوا أخاهم لوطا، وارتكبوا من الفواحش أحقرها- كما عرفنا سابقا عنهم- ولذا أرسل الله عليهم ريحا حاصبا أهلكتهم وأبادتهم جميعا إلا آل لوط الذين آمنوا به فقد نجاهم ربك بسحر، فعل بهم ذلك إنعاما من عند الغنى الحكيم، مثل ذلك يجزى ربك من شكر، ويعذب من كفر، ولا غرابة في ذلك فلقد أنذرهم لوط بطشتنا وشدتنا، فجادلوه وكذبوا بالنذر، ولقد راودوه عن ضيوفه، وما علموا أنهم من الملائكة وأنهم جاءوا لتنفيذ الوعيد بهم فطمس الله عيونهم، وقال لهم على لسان الملائكة: ذوقوا عذابي ونذر، ولقد نزل بهم العذاب في الصباح الباكر، فذاقوا عذاب البطش الشديد ونذره، ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر؟! ولقد جاء آل فرعون النذر الكثيرة والآيات المادية التسع، ولكنهم كذبوا بالآيات كلها، فأخذهم ربك أخذ عزيز مقتدر حيث أغرق فرعون وجنده، ونجى موسى ومن آمن معه، وكذلك ينجى ربك المؤمنين، ويعذب الكفار المكذبين فهل من مدكر؟!