وورد في الفردوس من حديث ابن مسعود- خلق الله تعالى الأمراض يوم الثلاثاء، وفيه أنزل إبليس إلى الأرض، وفيه خلق جهنم، وفيه سلط الله تعالى ملك الموت على أرواح بني آدم. وفيه قتل قابيل هابيل، وفيه توفي موسى وهارون عليهم السلام، وفيه ابتلي أيوب- الحديث
، وهو إن صح لا يدل على نحوسته غايته أنه وقع فيه ما وقع وقد وقع فيه غير ذلك مما هو خير،
ففي رواية مسلم- خلق المنفق أي ما يقوم به المعاش يوم الثلاثاء
- وإذا تتبعت التواريخ وقعت على حوادث عظيمة في سائر الأيام، ويكفي في هذا الباب أن حادثة عاد استوعبت أيام الأسبوع فقد قال سبحانه:
سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الحاقة: ٧] فإن كانت النحوسة لذلك فقل لي أي يوم من الأسبوع خلا منها؟! ومثل أمر النحوسة فيما أرى أمر تخصيص كل يوم بعمل كما يزعمه كثير من الناس، ويذكرون في ذلك
أبياتا نسبها الحافظ الدمياطي لعليّ كرم الله تعالى وجهه وهي:
فنعم اليوم يوم السبت حقا لصيد إن أردت بلا امتراء وفي الأحد البناء لأن فيه تبدى الله في خلق السماء وفي الاثنين إن سافرت فيه سترجع بالنجاح وبالثراء ومن يرد الحجامة فالثلاثا ففي ساعاته هرق الدماء وإن شرب امرؤ يوما دواء فنعم اليوم يوم الأربعاء وفي يوم الخميس قضاء حاج فإن الله يأذن بالقضاء وفي الجمعات تزويج وعرس ولذات الرجال مع النساء وهذا العلم لا يدريه إلا نبيّ أو وصيّ الأنبياء
ولا أظنها تصح، وقصارى ما أقول: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن لا دخل في ذلك لوقت ولا لغيره، لبعض الأوقات شرف لا ينكر كيوم الجمعة وشهر رمضان وغير ذلك، ولبعضها عكس ذلك كالأوقات التي تكره فيها الصلاة لكن هذا أمر ومحل النزاع أمر فاحفظ ذلك، والله تعالى يتولى هداك، وقوله تعالى: تَنْزِعُ النَّاسَ يجوز أن يكون صفة الريح وأن يكون حالا منها لأنها وصفت فقربت من المعرفة، وجوز أن يكون مستأنفا، وجيء- بالناس- دون ضمير عاد قيل: ليشمل ذكورهم وإناثهم- والنزاع- القلع، روي أنهم دخلوا الشعاب والحفر وتمسك بعضهم ببعض فقلعتهم الريح وصرعتهم موتى.
كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ أي منقلع عن مغارسه ساقط على الأرض، وقيل: شبهوا بأعجاز النخل وهي أصولها بلا فروع لأن الريح كانت تقلع رؤوسهم فتبقى أجسادا وجثثا بلا رؤوس، ويزيد هذا التشبيه حسنا أنهم كانوا ذوي جثث عظام طوال، والنخل اسم جنس يذكر نظرا للفظ كما هنا ويؤنث نظرا للمعنى كما في قوله تعالى:
أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ [الحاقة: ٧] واعتبار كل في كل من الموضعين للفاصلة، والجملة التشبيهية حال من الناس وهي حال مقدرة، وقال الطبري: في الكلام حذف والتقدير فتركتهم كأنهم إلخ، فالكاف على ما في البحر في موضع نصب بالمحذوف وليس بذاك، وقرأ أبو نهيك أعجز على وزن أفعل نحو ضبع وأضبع، وقوله تعالى: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ تهويل لهما وتعجيب من أمرهما بعد بيانهما فليس فيه شائبة تكرار مع ما تقدم، وقيل: إن الأول لما حاق بهم في الدنيا والثاني لما يحيق بهم في الآخرة، وكانَ للمشاكلة، أو للدلالة على تحققه على عادته سبحانه في إخباره، وتعقب بأنه يأباه ترتيب الثاني على العذاب الدنيوي.
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ الكلام فيه كالذي مرّ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ بالرسل عليهم الصلاة والسلام فإن تكذيب أحدهم وهو صالح عليه السلام هنا تكذيب للكل لاتفاقهم على أصول الشرائع، وجوز أن يكون مصدرا، أو جمعا له وأن يكون جمع نذير بمعنى المنذر منه فلا تغفل.
فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا أي كائنا من جنسنا على أن الجار والمجرور في موضع الصفة- لبشرا- وانتصابه بفعل يفسره- نتبع- بعد أي أنتبع بشرا واحِداً أي منفردا لا تبع له، أو واحدا من آحادهم لا من أشرافهم كما يفهم من التنكير الدال على عدم التعيين وهو صفة أخرى لبشر وتأخيره مع إفراده عن الصفة الأولى مع كونها شبه الجملة للتنبيه على أن كلا من الجنسية والوحدة مما يمنع الاتباع ولو قدم عليها لفات هذا التنبيه، وقرأ أبو السمال فيما ذكر الهذلي في كتابه الكامل وأبو عمرو الداني- أبشر منا واحد- برفعهما على أن- بشر- مبتدأ، وما بعد صفته، وقوله تعالى:
نَتَّبِعُهُ خبره. ونقل ابن خالويه وصاحب اللوامح وابن عطية عن أبي السمال رفع- بشر- ونصب واحِداً وخرج ذلك ابن عطية على أن رفع- بشر- إما على إضمار فعل مبني للمفعول والتقدير أينبأ بشر، وإما على الابتداء والخبر جملة نَتَّبِعُهُ، ونصب واحِداً على الحال إما من ضمير النصب في نَتَّبِعُهُ وإما من الضمير المستقر في
مِنَّا وخرج صاحب اللوامح نصب واحِداً على هذا أيضا، وأما رفع بشر فخرجه على الابتداء وإضمار الخبر أي أبشر منا يبعث إلينا أو يرسل أو نحوهما، وتقدم الاستفهام يرجع تقدير فعل يرفع به إِنَّا إِذاً أي إذا اتبعنا بشرا منا واحدا لَفِي ضَلالٍ عظيم عن الحق وَسُعُرٍ أي نيران جمع سعير.
وروي أن صالحا عليه السلام كان يقول لهم: إن لم تتبعوني كنتم في ضلال عن الحق وسعر فعكسوا عليه لغاية عتوهم فقالوا: إن اتبعناك كنا إذا كما تقول
، فالكلام من باب التعكيس والقول بالموجب، وجمع السعير باعتبار الدركات، أو للمبالغة، وروي عن ابن عباس ما يحتمل ما قلنا فإنه قال: أي لفي بعد عن الحق وعذاب، وفي رواية أخرى عنه تفسير السعر بالجنون على أنه اسم مفرد بمعنى ذلك يقال: ناقة مسعورة إذا كانت تفرط في سيرها كأنها مجنونة قال الشاعر:
كأن بها سعرا إذا العيس هزها | ذميل وإرخاء من السير متعب |
ألا عللاني قبل نوح النوائح | وقبل اضطراب النفس بين الجوانح |
وقبل غد يا لهف نفسي على غد | إذا راح أصحابي ولست برائح |
فلئن لقيتك خاليين لتعلمن | أيّي وأيّك فارس الأحزاب |
وحكى الكسائي عن مجاهد ضم الشين دون الهمزة فهو كندس، وقرأ أبو حيوة «الأشر» أفعل تفضيل أي الأبلغ في الشرارة وكذا قرأ قتادة وأبو قلابة أيضا وهو قليل الاستعمال وإن كان على الأصل كالأخير في قول رؤبة:
بلال خير الناس وابن الأخير وقال أبو حاتم: لا تكاد العرب تتكلم- بالأخير- والْأَشِرُ إلا في ضرورة الشعر وأنشد البيت، وقال الجوهري: لا يقال الْأَشِرُ إلا في لغة رديئة وقوله تعالى: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ إلخ استئناف مسوق لبيان مبادئ الموعود على ما هو الظاهر، وبه يتعين كون المراد بالغد وقت نزول العذاب الدنيوي بهم دون يوم القيامة، والإرسال حقيقة في البعث وقد جعل هنا كناية عن الإخراج، وأريد المعنى الحقيقي معه كما أومأ إليه بعض الأجلة أي إنا مخرجو الناقة التي سألوها من الهضبة وباعثوها فِتْنَةً لَهُمْ امتحانا، وجوز إبقاؤها على معناها المعروف فَارْتَقِبْهُمْ فانتظرهم وتبصر ما هم فاعلون وَاصْطَبِرْ على أذاهم ولا تعجل حتى يأتي أمر الله تعالى وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ وأخبرهم بأن ماء البئر التي لهم قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ مقسوم لها يوم ولهم يوم، وبَيْنَهُمْ لتغليب العقلاء، وقرأ معاذ عن أبي عمرو «قسمة» بفتح القاف كُلُّ شِرْبٍ نصيب وحصة منه مُحْتَضَرٌ يحضره صاحبه في نوبته فتحضر الناقة تارة ويحضرونه أخرى، وقيل: يتحول عنه غير صاحبه من حضر عن كذا تحول عنه وقيل: يمنع عنه غير صاحبه مجاز عن الحظر بالظاء بمعنى المنع بعلاقة السببية فإنه مسبب عن حضور صاحبه في نوبته وهو كما ترى، وقيل:
يحضرون الماء في نوبتهم واللبن في نوبتها، والمعنى كل شرب من الماء واللبن تحضرونه أنتم فَنادَوْا أي فأرسلنا الناقة وكانوا على هذه الوتيرة من القسمة فملوا ذلك وعزموا على عقر الناقة فَنادَوْا لعقرها صاحِبَهُمْ وهو قدار بن سالف أحيمر ثمود وكان أجرأهم فَتَعاطى العقر أي فاجترأ على تعاطيه مع عظمه غير مكترث به.
فَعَقَرَ فأحدث العقر بالناقة، وجوز أن يكون المراد فتعاطى الناقة فعقرها، أو فتعاطى السيف فقتلها، وعلى كل فمفعول تعاطى محذوف والتفريع لا غبار عليه، وقيل: تعاطى منزل منزلة اللازم على أن معناه أحدث ماهية التعاطي، وقوله تعالى: فَعَقَرَ تفسير له لا متفرع عليه ولا يخفى ركاكته، والتعاطي التناول مطلقا على ما يفهم من كلام غير واحد، وزاد بعضهم قيد بتكلف ونسبة العقر إليهم في قوله تعالى: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ [الأعراف: ٧٧] لأنهم كانوا راضين به فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ الكلام فيه كالذي تقدم إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً هي صيحة جبريل عليه السلام صاح صباح يوم الأحد كما حكى المناوي عن الزمخشري في طرف منازلهم فَكانُوا أي فصاروا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ أي كالشجر اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء.
وفي البحر الهشيم ما تفتت وتهشم من الشجر، والْمُحْتَظِرِ الذي يعمل الحظيرة فإنه يتفتت منه حالة العمل ويتساقط أجزاء مما يعمل به، أو يكون الهشيم ما يبس من الحظيرة بطول الزمان تطؤه البهائم فيتهشم، وتعقب هذا بأن الأظهر عليه كهشيم الحظيرة، والحظيرة الزريبة التي تصنعها العرب. وأهل البوادي للمواشي والسكنى من الأغصان والشجر المورق والقصب من الحظر وهو المنع.
وقرأ الحسن وأبو حيوة وأبو السمال وأبو رجاء وعمرو بن عبيد «المحتظر» بفتح الظاء على أنه اسم مكان والمراد به الحظيرة نفسها أو هو اسم مفعول قيل: ويقدر له موصوف أي كَهَشِيمِ الحائط الْمُحْتَظِرِ أو لا يقدر على أن الْمُحْتَظِرِ الزريبة نفسها كما سمعت. وجوز أن يكون مصدرا أي كهشيم الاحتظار أي ما تفتت حالة الاحتظار وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كما مر كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ على قياس النظير السابق إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً ملكا على ما قيل- يحصبهم أي يرميهم بالحصباء والحجارة أو هو اسم للريح
التي تحصب ولم يرد بها الحدوث كما في ناقة ضامر وهو وجه التذكير، وقال ابن عباس: هو ما حصبوا به من السماء من الحجارة في الريح، وعليه قول الفرزدق:
مستقبلين شمال الشام تضربنا | بحاصب كنديف القطن منثور |
السدس الأخير منه، وقال الراغب: السحر والسحرة اختلاط ظلام آخر الليل بصفاء النهار وجعل اسما لذلك الوقت، ويجوز كون الباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال أي ملتبسين بِسَحَرٍ داخلين فيه نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا أي إنعاما منا وهو علة لنجينا، ويجوز نصبه بفعل مقدر من لفظه، أو بنجينا لأن التنجية إنعام فهو كقعدت جلوسا كَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء العجيب نَجْزِي مَنْ شَكَرَ نعمتنا بالإيمان والطاعة وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ لوط عليه السلام بَطْشَتَنا أخذتنا الشديدة بالعذاب.
وجوز أن يراد بها نفس العذاب فَتَمارَوْا فكذبوا بِالنُّذُرِ متشاكين، فالفعل مضمن معنى التكذيب ولولاه تعدى بفي وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ صرفوه عن رأيه فيهم وطلبوا الفجور بهم وهذا من إسناد ما للبعض للجميع لرضاهم به فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ أي أزلنا أثرها وذلك بمسحها وتسويتها كسائر الوجه، وهو كما قال عبيدة، وروي أن جبريل عليه السلام استأذن ربه سبحانه في عقوبتهم ليلة جاؤوا وعالجوا الباب ليدخلوا عليهم فصفقتهم بجناحه فتركهم عميانا يترددون لا يهتدون إلى طريق خروجهم حتى أخرجهم لوط عليه السلام وقال ابن عباس والضحاك: إنما حجب إدراكهم فدخلوا المنزل ولم يروا شيئا فجعل ذلك كالطمس فعبر به عنه.
وقرأ ابن مقسم «فطمّسنا» بتشديد الميم للتكثير في المفعول فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ أي فقلنا لهم ذلك على ألسنة الملائكة عليهم السلام، فالقول في الحقيقة لهم وأسند إليه تعالى مجازا لأنه سبحانه الآمر أو القائل ظاهر الحال فلا قول وإنما هو تمثيل، والمراد بالعذاب الطمس وهو من جملة ما أنذروه.
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً أو النهار وهي أخص من الصباح فليس في ذكرها بعده زيادة وكان ذلك أول شروق الشمس، وقرأ زيد بن علي «بكرة» غير مصروفة للعلمية والتأنيث على أن المراد بها أول نهار مخصوص.
عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ يستقر بهم ويدوم حتى يسلمهم إلى النار، أو لا يدفع عنهم، أو يبلغ غايته.
فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ حكاية لما قيل لهم بعد التصحيح من جهته تعالى تشديدا للعذاب، أو هو تمثيل.
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ تقدم ما فيه من الكلام وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ صدرت قصتهم بالتوكيد القسمي الإبراز كمال الاعتناء- بشأنها لغاية عظم ما فيها من الآيات وكثرتها وهول ما لا قوه من العذاب وقوة إيجابها للاتعاظ والاكتفاء بذكر آل فرعون للعلم بأنه نفسه أولى بذلك فإنه رأس الطغيان ومدعي الألوهية، والقول: بأنه إشارة إلى إسلامه مما لا يلتفت إليه، والنُّذُرُ إن كان جمع نذير بمعنى الإنذار فالأمر ظاهر وكذا إن كان مصدرا، وأما إن كان جمع نذير بمعنى المنذر فالمراد به موسى وهارون وغيرهما لأنهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون أي وبالله تعالى لقد جاءهم المنذرون، أو الإنذرات، أو الإنذار، وقوله تعالى: كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية مجيء النذر كأنه قيل: فماذا فعل آل فرعون حينئذ؟ فقيل: كذبوا بجميع آياتنا وهي آيات الأنبياء كلهم عليهم السلام فإن تكذيب البعض تكذيب للكل، أو هي الآيات التسع، وجوز الواحدي أن يراد بالنذر نفس الآيات فقوله سبحانه: بِآياتِنا من إقامة الظاهر مقام الضمير والأصل كذبوا بها، وزعم بعض غلاة الشيعة صفحة رقم 90
وهم المسلمون بالكشفية في زماننا أن المراد- بالآيات كلها- علي كرم الله تعالى وجهه فإنه الإمام المبين المذكور في قوله تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ [يس: ١٢] وأنه كرم الله تعالى وجهه ظهر مع موسى عليه السلام لفرعون وقومه فلم يؤمنوا- وهذا من الهذيان بمكان- نسأل الله تعالى العفو والعافية فَأَخَذْناهُمْ أي آل فرعون، وزعم بعض أن ضمير كَذَّبُوا وضمير أخذناهم عائدان على جميع من تقدم ذكره من الأمم وتم الكلام عند قوله تعالى: النُّذُرُ وليس بشيء، والفاء للتفريع أي فَأَخَذْناهُمْ وقهرناهم لأجل تكذيبهم أَخْذَ عَزِيزٍ لا يغالب مُقْتَدِرٍ لا يعجزه شيء، ونصب أخذ على المصدرية لا على قصد التشبيه أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أي الكفار المعدودين قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون، والمراد الخيرية باعتبار الدنيا وزينتها ككثرة القوة والشدة ووفور العدد والعدة، أو باعتبار لين الشكيمة في الكفر بأن يكون الكفار المحدث عنهم بالخيرية أقل عنادا وأقرب طاعة وانقيادا، وظاهر كلام كثير أن الخطاب هنا عام للمسلمين وغيرهم حيث قالوا: أَكُفَّارُكُمْ يا معشر العرب خَيْرٌ إلخ والاستفهام إنكاري في معنى النفي فكأنه قيل: ما كفاركم خير من أولئكم الكفار المعدودين بأن يكونوا أكثر منهم قوة وشدة وأوفر عددا وعدة، أو بأن يكونوا ألين شكيمة في الكفر والعصيان والضلال والطغيان بل هم دونهم في القوة وما أشبهها من زينة الدنيا، أو أسوأ حالا منهم في الكفر، وقد أصاب من هو خير ما أصاب فكيف يطمعون هم في أن لا يصيبهم نحو ذلك، وكذا قيل: في الخطاب في قوله تعالى: أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ وجعل بتقدير أم لكفاركم وهو إضراب وانتقال إلى تنكيت آخر فكأنه قيل: بل ألكفار كم براءة وأمن من تبعات ما يعملون من الكفر والمعاصي وغوائلها في الكتب السماوية فلذلك يصرون على ما هم عليه ولا يخافون، واختار بعضهم في هذا أنه خاص بالكفار، وقالوا في قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ إنه إضراب من التبكيت المذكور إلى تبكيت آخر بطريق الالتفات للإيذان بإفضاء حالهم إلى الإعراض عنهم وإسقاطهم عن رتبة الخطاب وحكاية قبائحهم لغيرهم.
أي بل أيقولون واثقين بشوكتهم نحن جماعة أمرنا مجتمع لا يرام ولا يضام، أو مُنْتَصِرٌ من الأعداء لا يغلب، أو متناصر ينصر بعضنا بعضا.
والذي يترجح في نظر الفقير أن الخطاب في الموضعين خاص على ما يقتضيه السياق بكفار أهل مكة أو العرب وهو ظهر في الموضع الثاني لا يحتاج إلى شيء، وأما في الموضع الأول فوجهه أن تكون الإضافة مثلها في الدراهم كلها كذا، وطور سيناء، ويوم الأحد ولم يقل أأنتم للتنصيص على كفرهم المقتضي لهلاكهم، ويجوز أن يعتبر في أَكُفَّارُكُمْ ضرب من التجريد الذي ذكروه في نحو لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ [فصلت: ٢٨] فكأنه جرد منهم كفار وأضيفوا إليهم، وفي ذلك من المبالغة ما فيه، ويجوز أن يكون هذا وجها للعدول عن أأنتم، وربما يترجح به كون الخيرية المنفية باعتبار لين الشكيمة في الكفر وكأنه لما خوف سبحانه الكفار الذين كذبوا الآيات وأعرضوا عنها، وقالوا هي سحر مستمر بذكر ما حل بالأمم السالفة مما تبرق وترعد منه أسارير الوعيد قال عز وجل لهم: لم لا تخافون أن يحل بكم مثل ما حل بهم أأنتم أقل كفرا وعنادا منهم ليكون ذلك سببا للأمن من حلول نحو عذابهم بكم أن أعطاكم الله عز وجل براءة من عذابه أم أنتم أعز منهم منتصرون على جنود الله تعالى وعدل سبحانه عن أم أنتم جميع منتصر إلى ما في النظم الجليل للإشارة إلى أن ذلك مما لا تحقق له أصلا إلا باللفظ ومحض الدعوى التي لا يوافق عليها فتأمل، فأسرار كلام الله تعالى لا تتناهى، ثم لا تعجل بالاعتراض على ما قلناه وإن لم يكن لنا سلف فيه حسبما تتبعنا، ثم إن جَمِيعٌ على ما أشير إليه بمعنى الجماعة التي أمرها مجتمع وليس من التأكيد في شيء بل هو خبر نَحْنُ، وجوز أن يكون بمعنى مجتمع خبر مبتدأ محذوف وهو (أمرنا) والجملة خبر نَحْنُ وأن يكون هو
الخبر والإسناد مجازي، ومُنْتَصِرٌ على ما سمعت إما بمعنى ممتنع يقال: نصره فانتصر إذا منعه فامتنع.
والمراد بالامتناع عدم المغلوبية أو هو بمعنى منتقم من الأعداء أو هو من النصر بمعنى العون والافتعال بمعنى التفاعل كالاختصام والتخاصم وكان الظاهر منتصرون إلا أنه أفرد باعتبار لفظ الجميع فإنه مفرد لفظا جمع معنى ورجح هنا جانب اللفظ عكس بل أنتم قوم تجهلون لخفة الإفراد مع رعاية الفاصلة وليس في الآية رعاية جانب المعنى أولا، ثم رعاية جانب اللفظ ثانيا على عكس المشهور، وإن كان ذلك جائزا على الصحيح كما لا يخفى على الخبير، وقرأ أبو حيوة وموسى الأسواري وأبو البرهسم- أم تقولون- بتاء الخطاب، وقوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ رد لقولهم ذلك والسين للتأكيد أي يهزم جمعهم البتة وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ أي الإدبار، وقد قرىء كذلك، والإفراد لإرادة الجنس الصادق على الكثير مع رعاية الفواصل ومشاكلة القرائن، أو لأنه في تأويل يولي كل واحد منهم دبره على حدّ: كسانا الأمير حلة مع الرعاية المذكورة أيضا وقد كان هذا يوم بدر وهو من دلائل النبوة لأن الآية مكية، وقد نزلت حيث لم يفرض جهاد ولا كان قتال ولذا قال عمر رضي الله تعالى عنه: يوم نزلت أي جمع يهزم أي من جموع الكفار؟ ولم يتعرض لقتال أحد منهم، وقد تقدم الخبر.
ومما أشرنا إليه يعلم أن قول الطيبي في هذه الرواية نظر لأن همزة الإنكار في أَمْ يَقُولُونَ إلخ دلت على أن المنهزمين من هم ناشىء عن الغفلة عن مراد عمر رضي الله تعالى عنه، وقرأ أبو حيوة وموسى الأسواري وأبو البرهسم- ستهزم الجمع- بفتح التاء وكسر الزاي خطابا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ونصب الجمع على المفعولية، وقرأ أبو حيوة أيضا ويعقوب- سنهزم- بالنون مفتوحة وكسر الزاي على إسناد الفعل إلى ضمير العظمة، وعن أبي حيوة وابن أبي عبلة «سيهزم الجمع» بفتح الياء مبنيا للفاعل ونصب الجمع أي سيهزم الله تعالى الجمع، وقرأ أبو حيوة وداود ابن أبي سالم عن أبي عمرو- وتولون- بتاء الخطاب بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ أي ليس هذا تمام عقوبتهم بل الساعة موعد عذابهم وهذا من طلائعه وَالسَّاعَةُ أَدْهى أي أعظم داهية وهي الأمر المنكر الفظيع الذي لا يهتدى إلى الخلاص عنه وَأَمَرُّ وأشد مرارة في الذوق وهو استعارة لصعوبتها على النفس: وقيل: أقوى وليس بذاك وإظهار الساعة في موضع إضمارها لتربية تهويلها إِنَّ الْمُجْرِمِينَ من الأولين والآخرين فِي ضَلالٍ في هلاك وَسُعُرٍ ونيران مسعرة أو في ضلال عن الحق ونيران في الآخرة، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: في خسران وجنون، وقوله تعالى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ أي يجرون فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ متعلق بقول مقدر بعده أي يوم يسحبون يقال لهم ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ وجوز أن يكون متعلقا بمقدار يفهم مما قبل أي يعذبون، أو يهانون، أو نحوه، وجملة القول عليه حال من ضمير يُسْحَبُونَ وجوز كونه متعلقا- بذوقوا- على أن الخطاب للمكذبين المخاطبين في قوله تعالى: أَكُفَّارُكُمْ إلخ أي ذوقوا أيها المكذبون محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم يوم يسحب المجرمون المتقدمون، والمراد حشرهم معهم والتسوية بينهم في الآخرة كما ساؤوهم في الدنيا وهو كما ترى، والمراد- بمس سقر- ألمها على أنه مجاز مرسل عنه بعلاقة السببية فإن مسها سبب للتألم بها وتعلق الذوق بمثل ذلك شائع في الاستعمال، وفي الكشاف مَسَّ سَقَرَ كقولك وجد مس الحمى وذاق طعم الضرب لأن النار إذا أصابتهم بحرّها ولحقتهم بإيلامها فكأنها تمسهم مسا بذلك كما يمس الحيوان ويباشر بما يؤذي ويؤلم، وهو مشعر بأن في الكلام استعارة مكنية نحو يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ [الرعد: ٢٥] ويحتمل غير ذلك، وسَقَرَ علم لجهنم- أعاذنا الله تعالى منها ببركة كلامه العظيم وحرمة حبيبه عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم- من سقرته للنار وصقرته بإبدال السين صادا لأجل القاف إذا لوحته وغيرت لونه قال ذو الرمة يصف ثور الوحش:
إذا ذابت الشمس اتقى صقراتها | بأفنان مربوع الصريمة معبل |
وروى الإمام أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة قال: «جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في القدر فنزلت يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ»
وأخرج البخاري في تاريخه والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن عدي وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب المرجئة والقدرية» أنزلت فيهم آية في كتاب الله إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ
إلى آخر الآيات، وكان ابن عباس يكره القدرية جدا، أخرج عبد بن حميد عن أبي يحيى الأعرج قال سمعت ابن عباس- وقد ذكر القدرية- يقول: لو أدركت بعضهم لفعلت به كذا وكذا ثم قال: الزنا بقدر والسرقة بقدر وشرب الخمر بقدر.
وأخرج عن مجاهد أنه قال: قلت لابن عباس: ما تقول فيمن يكذب بالقدر؟ قال: اجمع بيني وبينه قال: ما تصنع به؟ قال: أخنقه حتى أقتله، وقد جاء ذمهم في أحاديث كثيرة، منها ما
أخرجه أحمد وأبو داود والطبراني عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «لكل أمه مجوس ومجوس أمتي الذين يقولون لا قدر إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم».
وجوز كون المعنى إنا كل شيء خلقناه مقدرا محكما مستوفي فيه مقتضي الحكمة التي يدور عليها أمر التكوين، فالآية من باب وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان: ٢] ونصب كُلَّ بفعل يفسره ما بعده أي إنا خلقنا كل شيء خلقناه، وقرأ أبو السمال قال ابن عطية وقوم من أهل السنة برفع كل وهو على الابتداء، وجملة خَلَقْناهُ هو الخبر، وبِقَدَرٍ متعلق به كما في القراءة المتواترة، فتدل الآية أيضا على أن كل شيء مخلوق بقدر ولا ينبغي أن تجعل جملة خلقناه صفة، ويجعل الخبر بِقَدَرٍ لاختلاف القراءتين معنى حينئذ، والأصل توافق القراءات، وقال الرضي: لا يتفاوت المعنى لأن مراده تعالى بكل شيء كل مخلوق سواء نصبت كُلَّ أو رفعته وسواء جعلت خَلَقْناهُ صفة مع الرفع، أو خبرا عنه، وذلك إن خلقنا كل شيء بقدر لا يريد سبحانه به خلقنا كل ما يقع عليه اسم شيء لأنه تعالى لم يخلق جميع الممكنات غير المتناهية واسم الشيء يقع على كل منها، وحينئذ نقول: إن معنى كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ على أن خلقناه هو الخبر كُلَّ مخلوق مخلوق بِقَدَرٍ وعلى أن خَلَقْناهُ صفة كُلَّ شَيْءٍ مخلوق كائن بِقَدَرٍ والمعنيان واحد إذ لفظ كُلَّ في الآية مختص بالمخلوقات سواء كان خَلَقْناهُ صفة له أو خبرا، وتعقبه السيد السند قدس سره بأنه لقائل أن يقول:
إذ جعلنا خَلَقْناهُ صفة كان المعنى كُلَّ مخلوق متصف بأنه مخلوقنا كائن بقدر، وعلى هذا لا يمتنع نظرا إلى هذا المعنى أن يكون هناك مخلوقات غير متصفة بتلك الصفة فلا تندرج تحت الحكم، وأما إذا جعلناه خبرا أو نصبنا كُلَّ شَيْءٍ فلا مجال لهذا الاحتمال نظرا إلى نفس المعنى المفهوم من الكلام فقد اختلف المعنيان قطعا ولا يجديه نفعا أن كل مخلوق متصف بتلك الصفة في الواقع لأنه إنما يفهم من خارج الكلام ولا شك أن المقصود ذلك المعنى الذي لا احتمال فيه، وذكر نحوه الشهاب الخفاجي ولكون النصب نصا في المقصود اتفقت القراءات المتواترة عليه مع احتياجه إلى التقدير وبذلك يترجح على الرفع الموهم لخلافه وإن لم يحتج إليه. صفحة رقم 93
وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ أي ما شأننا إلا فعلة واحدة على نهج لا يختلف ووتيرة لا تتعدد وهي الإيجاد بلا معالجة ومشقة، أو ما أمرنا إلا كلمة واحدة، وهي قوله تعالى: كُنْ [البقرة: ١١٧] وغيرها فالأمر مقابل النهي وواحد الأمور، فإذا أراد عز وجل شيئا قال له: كُنْ فَيَكُونُ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ أي في السير والسرعة، وقيل: هذا في قيام الساعة فهو كقوله تعالى: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ [النحل: ٧٧] وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ أي أشباهكم في الكفر من الأمم السالفة، وأصله جمع شيعة وهم من يتقوى بهم المرء من الأتباع ولما كانوا في الغالب من جنس واحد أريد به ما ذكر إما باستعماله في لازمه، أو بطريق الاستعارة، والحال قرينة على ذلك، وقيل: هو باق على حقيقته أي أتباعكم فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ متعظ بذلك وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ من الكفر والمعاصي، والضمير المرفوع للأشياع كما روي عن ابن عباس والضحاك وقتادة وابن زيد، وجملة فَعَلُوهُ صفة شَيْءٍ والرابط ضمير النصب، وقوله تعالى: فِي الزُّبُرِ متعلق بكون خاص خبر المبتدأ أي كل شيء فعلوه في الدنيا مكتوب في كتب الحفظة غير مغفول عنه، وتفسير الزُّبُرِ باللوح المحفوظ كما حكاه الطبرسي ليس بشيء، ولم يختلف القراء في رفع كُلُّ وليست الآية من باب الاشتغال فلا يجوز النصب لعدم بقاء المعنى الحاصل بالرفع لو عمل المشتغل بالضمير في الاسم السابق كما هو اللازم في ذلك الباب إذ يصير المعنى هاهنا حينئذ فعلوا فِي الزُّبُرِ كل شيء إن علقنا الجار- يفعلوا وهم لم يفعلوا شيئا من أفعالهم في الكتب بل فعلوها في أماكنهم والملائكة عليهم السلام كتبوها عليهم في الكتب، أو فعلوا كل شيء مكتوب فِي الزُّبُرِ إن جعلنا الجار نعتا لكل شيء، وهذا وإن كان معنى مستقيما إلا أنه خلاف المعنى المقصود حالة الرفع وهو ما تقدم آنفا وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ من الأعمال كما روي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما، وقيل: منها ومن كل ما هو كائن إلى يوم القيامة مُسْتَطَرٌ مسطور مكتتب في اللوح بتفاصيله وهو من السطر بمعنى الكتب، ويقال: سطرت واستطرت بمعنى، وقرأ الأعمش وعمران وعصمة عن أبي بكر عن عاصم «مستطرّ» بتشديد الراء، قال صاحب اللوامع: يجوز أن يكون من- طر- النبات والشارب إذا ظهر، والمعنى كل صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ظاهر في اللوح مثبت فيه ويجوز أن يكون من الاستطار لكن شدد الراء للوقف على لغة من يقول. جعفرّ ويفعلّ- بالتشديد وقفا أي ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ووزنه على التوجيه الأول مستفعل وعلى الثاني مفتعل، ولما كان بيان حال سوء الكفرة بقوله تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ إلخ مما يستدعي بيان حسن حال المؤمنين ليتكافأ الترهيب والترغيب بين سبحانه ما لهم من حسن الحال بطريق الإجمال فقال عز قائلا: إِنَّ الْمُتَّقِينَ أي من الكفر والمعاصي، وقيل: من الكفر.
فِي جَنَّاتٍ عظيمة الشأن وَنَهَرٍ أي أنهار كذلك، والإفراد للاكتفاء باسم الجنس مراعاة للفواصل، وعن ابن عباس تفسيره بالسعة، وأنشد عليه قول لبيد بن ربيعة- كما في الدر المنثور- أو قيس بن الخطيب- كما في البحر- يصف طعنة:
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها | يرى قائم من دونها ما وراءها |
المفتوح أو الساكن- كأسد وأسد، ورهن ورهن- وقيل: جمع نهار، والمراد أنهم لا ظلمة ولا ليل عندهم كما حكي فيما، وقيل: قرىء بضم النون وسكون الهاء فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ في مكان مرضي على أن الصدق مجاز مرسل في لازمه أو استعارة، وقيل: المراد صدق المبشر به وهو الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، أو المراد أنه ناله من ناله بصدقه وتصديقه للرسل عليهم السلام، فالإضافة لأدنى ملابسة
وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: مدح المكان بالصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق
، وهو المقعد الذي يصدق الله تعالى فيه مواعيد أوليائه بأنه يبيح عز وجل لهم النظر إلى وجهه الكريم، وإفراد المقعد على إرادة الجنس.
وقرأ عثمان البتي- في مقاعد- على الجمع وهي توضح أن المراد بالمقعد المقاعد عِنْدَ مَلِيكٍ أي ملك عظيم الملك، وهو صيغة مبالغة وليست الياء من الإشباع مُقْتَدِرٍ قادر عظيم القدرة، والظرف في موضع الحال من الضمير المستقر في الجار والمجرور، أو خبر بعد خبر، أو صفة لمقعد صدق، أو بدل منه، والعندية للقرب الرتبي، وذكر بعضهم أنه سبحانه أبهم العندية والقرب ونكر- مليكا، ومقتدرا- للإشارة إلى أن ملكه تعالى وقدرته عز وجل لا تدري الأفهام كنههما وأن قربهم منه سبحانه بمنزلة من السعادة والكرامة بحيث لا عين رأت ولا أذن سمعت مما يجل عن البيان وتكلّ دونه الأذهان.
وأخرج الحكيم الترمذي عن بريدة- عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ إلخ قال: إن أهل الجنة يدخلون على الجبار كل يوم مرتين فيقرأ عليهم القرآن وقد جلس كل امرئ منهم مجلسه الذي هو مجلسه على منابر الدر والياقوت والزمرد والذهب والفضة بالأعمال فلا تقرّ أعينهم قط كما تقرّ بذلك ولم يسمعوا شيئا أعظم منه ولا أحسن منه ثم ينصرفون إلى رحالهم قريرة أعينهم ناعمين إلى مثلها من الغد
- وإذا صح هذا فهو من المتشابه كالآية فلا تغفل، ولهذين الاسمين الجليلين شأن في استجابة الدعاء على ما في بعض الآثار.
أخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب قال: دخلت المسجد وأنا أرى أني أصبحت فإذا علي ليل طويل وليس فيه أحد غيري فنمت فسمعت حركة خلفي ففزعت فقال: أيها الممتلئ قلبه فرقا لا تفرق أو لا تفزع وقل اللهم إنك مليك مقتدر ما تشاء من أمر يكون ثم سل ما بدا لك قال: فما سألت الله تعالى شيئا إلا استجاب لي وأنا أقول:
اللهم إنك مليك مقتدر ما تشاء من أمر يكون فأسعدني في الدارين وكن لي ولا تكن علي وانصرني على من بغى علي وأعذني من هم الدين وقهر الرجال وشماتة الأعداء، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.
سورة الرّحمن
وسميت
في حديث أخرجه البيهقي عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا «عروس القرآن» ورواه موسى بن جعفر رضي الله تعالى عنهما عن آبائه الأطهار كذلك
«وهي مكية» في قول الجمهور، وأخرج ذلك ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير وعائشة رضي الله تعالى عنهم وابن النحاس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عنه أنها نزلت بالمدينة، وحكي ذلك عن مقاتل، وحكاه في البحر عن ابن مسعود أيضا، وحكي أيضا قولا آخر عن ابن عباس وهو أنها مدنية سوى قوله تعالى: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الرحمن: ٢٩] الآية، وحكي الاستثناء المذكور في جمال القراء عن بعضهم ولم يعينه، وعدد آياتها ثمان وسبعون آية في الكوفي والشامي، وسبع وسبعون في الحجازي، وست وسبعون في البصري.
ووجه مناسبتها لما قبلها على ما قال الجلال السيوطي: أنه لما قال سبحانه في آخر ما قيل بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ [القمر: ٤٦] ثم وصف عز وجل حال المجرمين فِي سَقَرَ [القمر: ٤٨] وحال المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ [القمر: ٥٤] فصل هذا الإجمال في هذه السورة أتم تفصيل على الترتيب الوارد في الإجمال فبدأ بوصف مرارة الساعة، والإشارة إلى شدّتها، ثم وصف النار وأهلها، ولذا قال سبحانه: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ [الرحمن: ٤١] ولم يقل الكافرون، أو نحوه لاتصاله معنى بقوله تعالى هناك: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ [القمر:
٤٧] ثم وصف الجنة وأهلها ولذا قال تعالى فيهم: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ وذلك هو عين التقوى ولم يقل ولمن آمن، أو أطاع، أو نحوه لتتوافق الألفاظ في التفصيل والمفصل ويعرف بما ذكر أن هذه السورة كالشرح لآخر السورة قبلها، وقال أبو حيان في ذلك: إنه تعالى لما ذكر هناك مقر المجرمين في سعر، ومقر المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: ٥٤] ذكر سبحانه هنا شيئا من آيات الملك وآثار القدرة، ثم ذكر جل وعلا مقر الفريقين على جهة الإسهاب إذ كان ذكره هناك على جهة الاختصار، ولما أبرز قوله سبحانه: عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ بصورة التنكير فكأن سائلا يسأل ويقول من المتصف بهاتين الصفتين الجليلتين؟ فقيل: «الرحمن» إلخ، والأولى عندي أن يعتبر في وجه المناسبة أيضا ما في الإرشاد وهو أنه تعالى لما عدد في السورة السابقة ما نزل بالأمم السالفة من ضروب نقم الله عز وجل، وبيّن عقيب كل ضرب منها أن القرآن قد يسر لتذكر الناس واتعاظهم ونعى عليهم إعراضهم عن ذلك عدد في هذه السورة الكريمة ما أفاض على كافة الأنام من فنون نعمه الدينية والدنيوية والأنفسية والآفاقية وأنكر عليهم أثر كل فن منها إخلالهم بمواجب شكرها، وهذا التكرار أحلى من السكر إذ تكرر، وفي الدرر والغرر لعلم الهدى السيد المرتضى التكرار في سورة «الرحمن» إنما حسن للتقرير بالنعم المختلفة المعددة، فكلما ذكر سبحانه نعمة أنعم بها وبخ على التكذيب بها كما يقول الرجل لغيره ألم أحسن إليك بأن خولتك في الأموال؟ ألم أحسن إليك بأن فعلت بك