
وطال عليهم الأمد ولم يرتدعوا حتى دعا عليهم نبيهم بقوله: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً».
وقد كان الرجل منهم يأخذ بيد ابنه ويمشى إلى نوح يحذره منه ويقول يا بنى إن أبى مشى بي إلى هذا وأنا مثلك يومئذ، فإياك أن تصدّقه، فيموت الكبير على الكفر، وينشأ الصغير على وصية أبيه، لا يتأثر من دعائه له.
(١٥) (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى، فَغَشَّاها ما غَشَّى) أي وأهلك قوم لوط بانقلاب قريتهم عليهم وجعل عاليها سافلها ثم أمطر عليهم حجارة من سجيل منضود كما قال:
«وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ» وهذا ما عناه سبحانه بقوله:
فغشاها ما غشى.
وفى هذا الأسلوب تهويل للأمر الذي غشاها به، وتعظيم له.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٥٥ الى ٦٢]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩)
وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢)
تفسير المفردات
الآلاء: النعم واحدها ألى (بالفتح والكسر) وتتمارى: تمترى وتشك، والخطاب للانسان، هذا نذير من النذر: أي إن محمدا بعض من أنذر، أزفت: قربت، والآزفة:
الساعة، وسميت بذلك لقرب قيامها، أو لدنوها من الناس كما جاء فى قوله: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ» من دون الله: أي من غيره، كاشفة: أي نفس تكشف وقت وقوعها

وتبينه، لأنها من أخفى المغيبات، والحديث: القرآن، سامدون: أي لاهون غافلون من سمد البعير فى سيره إذا رفع رأسه، فاسجدوا: أي اشكروا على الهداية، واعبدوا:
أي اشتغلوا بالعبادة والطاعة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قبل ما جاء فى صحف موسى وإبراهيم، من أن الإحياء والإماتة بيد الله، وأنه هو الذي يصرّف أمور العالم خلقا وتدبيرا وملكا، فيفقر قوما ويغنى آخرين، وأن أمر المعاد تحت قبضته، وأن الخلق إذ ذاك يرجعون إليه، وأن بعض الأمم كذبت رسلها وأنكرت الخالق فأصابها ما أصابها- قفى على هذا بالتعجيب من أمر الإنسان، وأنه كيف يتشكك فى هذا ويجادل فيه منكرا له، وقد جاء النذير به، فعليكم أن تصدّقوه وتؤمنوا به قبل أن يحل بكم عذاب يوم عظيم قد أزف، ولا يقدر على كشفه أحد إلا هو، فلا تعجبوا من القرآن منكرين، ولا تضحكوا منه مستهزئين، وابكوا حزنا على ما فرّطتم فى جنب الله، وعلى غفلتكم عن مواعظه وحكمه التي فيها سعادتكم فى دنياكم وآخرتكم، واسجدوا شكرا لبارئ النسم، الذي أوجدها من العدم، واعبدوه بكرة وعشيا شكرا على آلائه، وتقلبكم فى نعمائه.
الإيضاح
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) أي فبأى نعم ربك عليك أيها الإنسان تمترى وتشك؟
ونحو الآية قوله: «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ؟» وقوله: «وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا» وقوله: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ».

والمراد بالنعم ما عدده من قبل، وجعلت كلها نعما، وبعضها نقم، لما فى النقم من المواعظ والعبر للمعتبرين، من الأنبياء والمؤمنين.
والخلاصة- إنها كلها دالة على وحدانية ربك وربوبيته، ففى أيها تتشكك على وضوحها للناظرين، ووجوه دلالتها للمعتبرين؟.
(هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) أي إن محمدا صلّى الله عليه وسلّم منذر من حاد عن طريق الهدى، وسلك طريق الضلال والهوى، بسىء العواقب، فى العاجل والآجل، وهو كمن قبله من الرسل الذين أرسلهم ربهم لهداية خلقه، فكذبوهم فأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وحل بهم البوار والنكال، كفاء تكذيبهم وجحودهم آلاء ربهم، ونعمه التي تترى عليهم.
ونحو الآية قوله: «إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ» وقوله صلّى الله عليه وسلم «أنا النذير العريان» أي الذي أعجله شدة ما عاين من الشر عن أن يلبس شيئا، وبادر إلى إنذار قومه وجاءهم مسرعا.
(أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) أي اقتربت الساعة، ونصب الميزان، وستجازى كل نفس بما عملت من خير أو شر، فاحذروا أن تكونوا من الهالكين، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون.
ونحو الآية قوله: «إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ، لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ»
وفى الحديث «مثلى ومثل الساعة كهاتين»
وفرق بين إصبعيه الوسطى والتي تلى الإبهام.
(لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ) أي ليس هناك من يعرف وقت حلول الآزفة إلا هو، فاستعدوا لهذا اليوم قبل أن تأخذكم الساعة بغتة وأنتم لا تشعرون، فتندموا ولات ساعة مندم، وجدّوا للعمل قبل حلول الأجل.
وقد أشار فى هذه الآيات إلى أصول الدين الثلاثة.
(١) وحدانية الله بقوله: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى؟).

(٢) إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم بقوله: (هذا نذير) (٣) إثبات الحشر والبعث بقوله: (أزفت الآزفة).
ثم أنكر على المشركين تعجبهم من القرآن واستهزاءهم به وإعراضهم عنه فقال:
(أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ. وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ. وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) أي أفينبغي لكم بعد ذلك أن تعجبوا من هذا القرآن وقد جاءكم بما فيه هدايتكم إلى سواء السبيل، وإرشادكم إلى الطريق المستقيم، وكيف تسخرون منه وتستهزئون به، ولا تكونوا كالموقنين الذين وصفهم الله بقوله: «وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً» وكيف تلهون عن استماع عبره، وتغفلون عن مواعظه، وتتلقونها تلقى اللاهي الساهي المعرض عما يسمع، غير المكترث بما يلقى إليه.
أخرج البيهقي فى شعب الإيمان عن أبى هريرة قال: لما نزلت «أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ» الآية بكى أصحاب الصّفّة حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حنينهم بكى معهم، فبكينا ببكائه، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا يلج النار من بكى من خشية الله تعالى، ولا يدخل الجنة مصرّ على معصية، ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم»
ثم بيّن ما يجب عند سماع القرآن من الإجلال والتعظيم فقال:
(فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) أي فاخضعوا وأخلصوا له العمل حنفاء غير مشركين به، فهو الذي أنزله على عبده ورسوله هاديا وبشيرا لكم لعلكم ترحمون، ودعوا ما أنتم فيه من عبادة الأوثان والأصنام التي لا تغنى عنكم شيئا، فلا تدفع عنكم ضرّا، ولا تجديكم نفعا كما قال آمرا رسوله أن يقول لهم: «قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ؟».

ما تضمنته السورة الكريمة من الأسرار والأحكام
(١) إنزال الوحى على رسوله.
(٢) إن الذي علمه إياه هو جبريل شديد القوى.
(٣) قرب رسوله من ربه.
(٤) إن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى جبريل على صورته الملكية مرتين.
(٥) تقريع المشركين على عبادتهم للأصنام.
(٦) توبيخهم على جعل الملائكة إناثا وتسميتهم إياهم بنات الله.
(٧) مجازاة كل من المحسن والمسيء بعمله.
(٨) أوصاف المحسنين.
(٩) إحاطة علمه تعالى بما فى السموات والأرض.
(١٠) النهى عن تزكية المرء نفسه.
(١١) الوصايا التي جاءت فى صحف إبراهيم وموسى.
(١٢) النعي على المشركين فى إنكارهم الوحدانية والرسالة والبعث والنشور.
(١٣) التعجب من استهزاء المشركين بالقرآن حين سماعه، وغفلتهم عن مواعظه.
(١٤) أمر المؤمنين بالخضوع لله والإخلاص له فى العمل.