فليراجع، وقيل: معنى- لا تزكوا أنفسكم- لا يزكي بعضكم بعضا، والمراد النهي عن تزكية السمعة أو المدح للدنيا، أو تزكية على سبيل القطع، وأما التزكية لإثبات الحقوق ونحوه فهي جائزة، وذهب بعضهم إلى أن الآية نزلت في اليهود.
أخرج الواحدي وابن المنذر وغيرهما عن ثابت بن الحارث الأنصاري قال: «كانت اليهود إذا هلك لهم صبي صغير قالوا: هو صديق فبلغ ذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: كذبت يهود ما من نسمة يخلقها الله تعالى في بطن أمها إلا يعلم سعادتها أو شقاوتها» فأنزل الله سبحانه عند ذلك هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ الآية.
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى أي عن اتباع الحق والثبات عليه وَأَعْطى قَلِيلًا أي شيئا قليلا، أو إعطاء قليلا وَأَكْدى أي قطع العطاء من قولهم حفر فأكدى إذا بلغ إلى كدية أي صلابة في الأرض فلم يمكنه الحفر، قال مجاهد وابن زيد: نزلت في الوليد بن المغيرة كان قد سمع قراءة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وجلس إليه ووعظه فقرب من الإسلام وطمع فيه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم إنه عاتبه رجل من المشركين، وقال له:
أتترك ملة آبائك؟! ارجع إلى دينك واثبت عليه وأنا أتحمل عنك كل شيء تخافه في الآخرة لكن على أن تعطيني كذا وكذا من المال فوافقه الوليد على ذلك ورجع عما همّ به من الإسلام وضل ضلالا بعيدا، وأعطى بعض المال لذلك الرجل ثم أمسك عنه وشح، وقال الضحاك: هو النضر بن الحارث أعطى خمس قلائص لفقير من المهاجرين حتى ارتد عن دينه وضمن له أن يحمل عنه مأثم رجوعه، وقال السدي: نزلت في العاص بن وائل السهمي كان يوافق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض الأمور، وقال محمد بن كعب: في أبي جهل قال: والله ما يأمر محمد إلا بمكارم الأخلاق، والأول هو الأشهر الأنسب لما بعده من قوله سبحانه: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ إلى آخره، وأما ما في الكشاف من أنها نزلت في عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه كان يعطي ماله في الخير فقال له عبد الله بن سعيد بن أبي سرح: يوشك أن لا يبقى لك شيء فقال عثمان: إن لي ذنوبا وخطايا وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه فقال عبد الله: أعطني ناقتك برحلها وأنا أحمل عنك ذنوبك كلها فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن العطاء فباطل- كما قال ابن عطية- ولا أصل له، وعثمان رضي الله تعالى عنه منزه عن مثل ذلك، وأَ فَرَأَيْتَ هنا على ما في البحر بمعنى أخبرني ومفعولها الأول الموصول، والثاني الجملة الاستفهامية، والفاء في قوله تعالى: فَهُوَ يَرى للتسبب
عما قبله أي عنده علم بالأمور الغيبية فهو بسبب ذلك يعلم أن صاحبه يتحمل عنه يوم القيامة ما يخافه، وقيل: يرى أن ما سمعه من القرآن باطل: وقال الكلبي: المعنى أأنزل عليه قرآن فرأى أن ما صنعه حق، وأيا ما كان- فيرى- من الرؤية القلبية، وجوز أن تكون من الرؤية البصرية أي فهو يبصر ما خفي عن غيره مما هو غيب أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ أي بل ألم يخبر.
بِما فِي صُحُفِ مُوسى وهي التوراة وَإِبْراهِيمَ وبما في صحف إبراهيم التي نزلت عليه الَّذِي وَفَّى أي وفر وأتم ما أمر به، أو بالغ في الوفاء بما عاهد عليه الله تعالى، وقال ابن عباس: وفى بسهام الإسلام كلها ولم يوفها أحد غيره وهي ثلاثون سهما منها عشرة في براءة إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ [التوبة:
١١١] الآيات، وعشرة في الأحزاب إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ [الأحزاب: ٣٥] الآيات، وست في- قد أفلح المؤمنون- الآيات التي في أولها، وأربع في سأل سائل وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ [المعارج: ٢٦] الآيات، وفي حديث ضعيف عن أبي أمامة يرفعه، وفّى بأربع ركعات كان يصليهن في كل يوم، وفي رواية يصليهن أول النهار.
وأخرج أحمد من حديث معاذ بن أنس مرفوعا أيضا «ألا أخبركم لم سمى الله تعالى إبراهيم خليله الذي وفى لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون الآية»
وقال عكرمة: وَفَّى بتبليغ هذه العشرة أن لا تزر إلى آخره «وقيل، وقيل:» والأولى العموم وهو مروي عن الحسن قال: ما أمره الله تعالى بشيء إلا وفى به وتخصيصه عليه السلام بهذا الوصف لاحتماله ما لا يحتمله غيره، وفي قصة الذبح ما فيه كفاية وخص هذان النبيان عليهما السلام بالذكر قيل: لأنه فيما بين نوح وإبراهيم كانوا يأخذون الرجل بابنه وبأبيه وعمه وخاله، والزوج بامرأته، والعبد بسيده فأول من خالفهم إبراهيم وقرر ذلك موسى ولم يأت قبله مقرر مثله عليه السلام، وتقديمه لما أن صحفه أشهر عندهم وأكثر، وقرأ أبو أمامة الباهلي وسعيد بن جبير وأبو مالك الغفاري وابن السميفع وزيد بن علي «وفى» بتخفيف الفاء أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى
أي إنه لا تحمل نفس من شأنها الحمل حمل نفس أخرى على أن (أن) هي المخففة من الثقيلة وضمير الشأن الذي هو اسمها محذوف، والجملة المنفية خبرها ومحل الجملة الجر على أنها بدل مما في صحف موسى، أو الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والاستئناف بياني كأنه قيل: ما في صحفهما؟ فقيل: هو أَلَّا تَزِرُ إلخ، والمعنى أنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره ليتخلص الثاني عن عقابه، ولا يقدح في ذلك
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من علم بها إلى يوم القيامة»
فإن ذلك وزر الإضلال الذي هو وزره لا وزر غيره، وقوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى بيان لعدم إثابة الإنسان بعمل غيره إثر بيان عدم مؤاخذته بذنب غيره وَأَنْ كأختها السابقة، وما مصدرية وجوز كونها موصولة أي ليس له إلا سعيه، أو إلا الذي سعى به وفعله، واستشكل بأنه وردت أخبار صحيحة بنفع الصدقة عن الميت، منها ما
أخرجه مسلم والبخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة «أن رجلا قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن أمي افتلتت نفسها وأظنها لو تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم»
وكذا بنفع الحج.
أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن ابن عباس قال: «أتى رجل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: إن أختي نذرت لأن تحج وأنها ماتت فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم قال:
فحق الله أحق بالقضاء»
وأجيب بأن الغير لما نوى ذلك الفعل له صار بمنزلة الوكيل عنه القائم مقامه شرعا فكأنه بسعيه، وهذا لا يتأتى إلا بطريق عموم المجاز، أو الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يجوزه، وأجيب أيضا بأن سعي غيره لما لم ينفعه إلا مبنيا على سعي نفسه من الإيمان فكأنه سعيه، ودل على بنائه على ذلك ما
أخرجه أحمد عن
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة وأن هشاما ابنه نحو حصته خمسين وأن عمرا سأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك فقال: «وأما أبوك فلو كان أقرّ بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك»
وأجيب بهذا عما قيل: إن تضعيف الثواب الوارد في الآيات ينافي أيضا القصر على سعيه وحده، وأنت تعلم ما في الجواب من النظر، وقال بعض أجلة المحققين إنه ورد في الكتاب والسنة ما هو قطعي في حصول الانتفاع بعمل الغير وهو ينافي ظاهر الآية فتقيد بما لا يهبه العامل، وسأل والي خراسان عبد الله بن طاهر الحسين بن الفضل عن هذه الآية مع قوله تعالى: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [البقرة: ٢٦١] فقال: ليس له بالعدل إلا ما سعى وله بالفضل ما شاء الله تعالى فقبل عبد الله رأس الحسين وقال عكرمة: كان هذا الحكم في قوم إبراهيم وموسى عليهما السلام، وأما هذه الأمة فللإنسان منها سعي غيره يدل عليه
حديث سعد بن عبادة «هل لأمي إذا تطوعت عنها؟ قال صلى الله تعالى عليه وسلم: نعم»
وقال الربيع: الإنسان هنا الكافر، وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له غيره، وعن ابن عباس أن الآية منسوخة بقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور: ٢١] وقد أخرج عنه ما يشعر به أبو داود والنحاس كلاهما في الناسخ، وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه، وتعقب أبو حيان رواية النسخ بأنها لا تصح لأن الآية خبر لم تتضمن تكليفا ولا نسخ في الأخبار. وما يتوهم جوابا من أنه تعالى أخبر في شريعة موسى وإبراهيم عليهما السلام أن لا يجعل الثواب لغير العامل ثم جعله لمن بعدهم من أهل شريعتنا مرجعه إلى تقييد الأخبار لا إلى النسخ إذ حقيقته أن يراد المعنى، ثم من بعد ذلك ترتفع إرادته، وهذا تخصيص الإرادة بالنسبة إلى أهل الشرائع فافهمه، وقيل: اللام بمعنى على أي ليس على الإنسان غير سعيه، وهو بعيد من ظاهرها ومن سياق الآية أيضا فإنها وعظ للذي تولى وأعطى قليلا وأكدا، والذي أميل إليه كلام الحسين، ونحوه كلام ابن عطية قال: والتحرير عندي في هذا الآية أن ملاك المعنى هو اللام من قوله سبحانه: لِلْإِنْسانِ فإذا حققت الشيء الذي حق الإنسان أن يقول فيه لي كذا لم تجده إلا سعيه وما يكون من رحمة بشفاعة، أو رعاية أب صالح، أو أبن صالح، أو تضعيف حسنات، أو نحو ذلك فليس هو للإنسان ولا يسعه أن يقول لي كذا وكذا إلا على تجوّز، وإلحاق بما هو حقيقة انتهى.
ويعلم من مجموع ما تقدم أن استدلال المعتزلة بالآية على أن العبد إذا جعل ثواب عمله أي عمل كان لغيره لا ينجعل ويلغو جعله غير تام وكذا استدلال الإمام الشافعي بها على أن ثواب القراءة لا تلحق الأموات- وهو مذهب الإمام مالك- بل قال الامام ابن الهمام: إن مالكا والشافعي لا يقولان بوصول العبادات البدنية المحضة كالصلاة والتلاوة بل غيرها كالصدقة والحج، وفي الإذكار للنووي عليه الرحمة المشهور من مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وجماعة أنها لا تصل، وذهب أحمد بن حنبل وجماعة من العلماء ومن أصحاب الشافعي إلى أنه تصل، فالاختيار أن يقول القارئ بعد فراغه اللهم أوصل ثواب ما قرأته إلى فلان، والظاهر أنه إذا قال ذلك ونحوه كوهبت ثواب ما قرأته لفلان بقلبه كفى، وعن بعضهم اشتراط نية النيابة أول القراءة وفي القلب منه شيء، ثم الظاهر أن ذلك إذا لم تكن القراءة بأجرة أما إذا كانت بها كما يفعله أكثر الناس اليوم فإنهم يعطون حفظة القرآن أجرة ليقرؤوا لموتاهم فيقرؤون لتلك الأجرة فلا يصل ثوابها إذ لا ثواب لها ليصل لحرمة أخذ الاجرة على قراءة القرآن وإن لم يحرم على تعليمه كما حققه خاتمة الفقهاء المحققين الشيخ محمد الأمين بن عابدين الدمشقي رحمه الله تعالى، وفي الهداية من كتاب الحج عن الغير إطلاق صحة جعل الإنسان عمله لغيره ولو صلاة وصوما عند أهل السنة والجماعة، وفيه ما علمت ما مرّ آنفا.
وقال الخفاجي: هو محتاج إلى التحرير وتحريره أن محل الخلاف العبادة البدنية هل تقبل النيابة فتسقط عمن لزمته فعل غيره سواء كان بإذنه أو لا بعد حياته أم لا فهذا وقع في الحج كما ورد في الأحاديث الصحيحة، أما الصوم فلا، وما
ورد في حديث «من مات وعليه صيام صام عنه وليه»
وكذا غيره من العبادات فقال الطحاوي: إنه كان في صدر الإسلام ثم نسخ وليس الكلام في الفدية وإطعام الطعام فإنه بدل وكذا إهداء الثواب سواء كان بعينه أو مثله فإنه دعاء وقبوله بفضله عز وجل كالصدقة عن الغير فأعرفه انتهى فلا تغفل.
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى أي يعرض عليه ويكشف له يوم القيامة في صحيفته وميزانه من أريته الشيء، وفي البحر يراه حاضرو القيامة ويطلعون عليه تشريفا للمحسن وتوبيخا للمسيء ثُمَّ يُجْزاهُ أي يجزى الإنسان سعيه، يقال: جزاه الله عز وجل بعمله وجزاه على عمله وجزاه عمله بحذف الجار وإيصال الفعل، وقوله تعالى: الْجَزاءَ الْأَوْفى مصدر مبين للنوع وإذا جاز وصف المجزي به بالأوفى جاز وصف الحدث عن الجزاء لملابسته له، وجوز كونه مفعولا به بمعنى المجزي به وحينئذ يكون الفعل في حكم المتعدي إلى ثلاثة مفاعيل. ولا بأس لأن الثاني بالحذف والإيصال لا التوسع فيجيء فيه الخلاف، وبعضهم يجعل الجزاء منصوبا بنزع الخافض، وجوز أن يكون الضمير المنصوب في يُجْزاهُ للجزاء لا للسعي، والْجَزاءَ الْأَوْفى عليه عطف بيان، أو بدل كما في قوله تعالى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [الأنبياء: ٣] وتعقبه أبو حيان بأن فيه إبدال الظاهر من الضمير وهي مسألة خلافية والصحيح المنع وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى أي إن انتهاء الخلق ورجوعهم إليه تعالى لا إلى غيره سبحانه استقلالا ولا اشتراكا، والمراد بذلك رجوعهم إليه سبحانه يوم القيامة حين يحشرون ولهذا قال غير واحد: أي إلى حساب ربك أو إلى ثوابه تعالى من الجنة وعقابه من النار الانتهاء، وقيل: المعنى أنه عز وجل منتهى الأفكار فلا تزال الأفكار تسير في بيداء حقائق الأشياء وماهياتها والإحاطة بما فيها حتى إذا وجهت إلى حرم ذات الله عز وجل وحقائق صفاته سبحانه وقفت وحرنت وانتهى سيرها، وأيد بما
أخرجه البغوي عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال في الآية: «لا فكرة في الرب» وأخرجه أبو الشيخ في العظمة عن سفيان الثوري
وروي عنه عليه الصلاة والسلام «إذا ذكر الرب فانتهوا»
وأخرج ابن ماجة عن ابن عباس قال: «مر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على قوم يتفكرون في الله فقال: تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنكم لن تقدروه»
وأخرج أبو الشيخ عن أبي ذر قال:
«قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فتهلكوا».
واستدل بذلك من قال باستحالة معرفته عز وجل بالكنه، والبحث في ذلك طويل، وأكثر الأدلة النقلية على عدم الوقوع، وقرأ أبو السمال، وإن بالكسر هنا وفيما بعد على أن الجمل منقطعة عما قبلها فلا تكون مما في الصحف وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى خلق فعلي الضحك والبكاء، وقال الزمخشري: خلق قوتي الضحك والبكاء، وفيه دسيسة اعتزال، وقال الطيبي: المراد خلق السرور والحزن أو ما يسر ويحزن من الأعمال الصالحة والطالحة، ولذا قرن بقوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا وعليه فهو مجاز ولا يخفى أن الحقيقة أيضا تناسب الإماتة والإحياء لا سيما والموت يعقبه البكاء غالبا والإحياء عند الولادة الضحك وما أحسن قوله:
ولدتك أمك يا ابن آدم باكيا | والناس حولك يضحكون سرورا |
فاجهد لنفسك أن تكون إذا بكوا | في يوم موتك ضاحكا مسرورا |
أنه هُوَ أَماتَ وَأَحْيا فلا يقدر على الإماتة والإحياء غير عز وجل، والقاتل إنما ينقض البنية الإنسانية ويفرق أجزاءها والموت الحاصل بذلك فعل الله تعالى على سبيل العادة في مثله فلا إشكال في الحصر وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى من نوع الإنسان وغيره من أنواع الحيوانات ولم يذكر الضمير على طرز ما تقدم لأنه لا يتوهم نسبة خلق الزوجين إلى غيره عز وجل مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى أي تدفق في الرحم يقال: أمنى الرجل ومنى بمعنى، وقال الأخفش:
أي تقدر يقال منى لك الماني أي قدر لك المقدر، ومنه المنا الذي يوزن به فيما قبل، والمنية وهي الأجل المقدر للحيوان وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى أي الإحياء بعد الإماتة وفاء بوعده جل شأنه: وفي البحر لما كانت هذه النشأة ينكرها الكفار بولغ بقوله تعالى عليه كأنه تعالى أوجب ذلك على نفسه، وفي الكشاف قال سبحانه: عَلَيْهِ لأنها واجبة في الحكمة ليجازي على الإحسان والإساءة وفيه مع كونه على طريق الاعتزال نظر، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو- النشاءة- بالمد وهي أيضا مصدر نشأة الثلاثي وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى
وأعطى القنية وهو ما يبقى ويدوم من الأموال ببقاء نفسه أو أصله كالرياض والحيوان والبناء، وإفراد ذلك بالذكر مع دخوله في قوله تعالى: أَغْنى لأن القنية أنفس الأموال وأشرفها، وفي البحر يقال: قنيت المال أي كسبته ويعدى أيضا بالهمزة والتضعيف فيقال: أقناه الله تعالى مالا وقناه الله تعالى مالا، وقال الشاعر:
كم من غني أصاب الدهر ثروته | ومن فقير يقني بعد إقلال |
هل هي إلا مدة وتنقضي | ما يغلب الأيام إلا من رضي |
إنهما جعلا أَقْنى بمعنى جعل له الرضا والصبر قنية كناية عن ذلك ليظهر فيه الطباق كما في أَماتَ وَأَحْيا وأَضْحَكَ وَأَبْكى وفسره بأفقر أيضا الحضرمي إلا أنه كما أخرج عنه ابن جرير وأبو الشيخ قال أَغْنى نفسه سبحانه و «أفقر» الخلائق إليه عز وجل، والظاهر على تقدير اعتبار المفعول في جميع الأفعال المتقدمة أن يكون من المحدثات الصالحة لتعلق الفعل، وعندي أن أَغْنى سبحانه نفسه كأوجد جل شأنه نفسه لا يخلو عن سماجة وإيهام محذور، وإنما لم يذكر مفعول لأن القصد إلى الفعل نفسه وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى هي الشِّعْرى العبور بفتح العين المهملة والباء الموحدة والراء المهملة بعد الواو، وتقال الشِّعْرى أيضا على الغميصاء بغين معجمة مضمومة وميم مفتوحة بعدها ياء مثناء تحتية وصاد مهملة ومد، والأولى في الجوزاء، وإنما قيل لها العبور لأنها عبرت المجرة فلقيت سهيلا ولأنها تراه إذا طلع كأنها ستعبر وتسمى أيضا كلب الجبار لأنها تتبع الجوزاء المسماة بالجبار كما تتبع الكلب الصائد أو الصيد، والثانية في ذراع الأسد المبسوطة، وإنما قيل لها الغميصاء لانها بكت من فراق سهيل فغمصت عينها، والغمص ما سال من الرمص وهو وسخ أبيض يجتمع في الموق، وذلك من زعم العرب أنهما أختا سهيل، وفي القاموس من أحاديثهم أن الشعرى العبور قطعت المجرة فسميت عبورا وبكت الأخرى على أثرها حتى غمصت ويقال لها الغموص أيضا، وقيل: زعموا أن سهيلا والشِّعْرى كانا زوجين فانحدر سهيل وصار يمانيا فاتبعه الشعرى فعبرت المجرة فسميت العبور وأقامت الغميصاء وسميت بذلك لأنها دون الأولى ضياء، وكل ذلك من تخيلاتهم الكاذبة التي لا حقيقة لها، والمتبادر عند الإطلاق وعدم الوصف العبور لأنها أكبر جرما وأكثر ضياء وهي التي عبدت من دون الله سبحانه في الجاهلية. صفحة رقم 68
قال السدي: عبدتها حمير وخزاعة، وقال غيره: أول من عبدها أبو كبشة رجل من خزاعة، أو هو سيدهم واسمه وخز بن غالب وكان المشركون يقولون للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم: ابن أبي كبشه شبهوه به لمخالفته قومه في عبادة الأصنام، وذكر بعضهم أنه أحد أجداده عليه الصلاة والسلام من قبل أمه وأنهم كانوا يزعمون أن كل صفة في المرء تسري إليه من أحد أصوله فيقولون نزع إليه عرق كذا، وعرق الخال نزاع، وقيل: هو كنية وهب بن عبد مناف جده صلى الله تعالى عليه وسلم من قبل أمه، وقولهم له عليه الصلاة والسلام ذلك على ما يقتضيه ظاهر القاموس لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم في الشبه الخلقي دون المخالفة، وقيل: كنية زوج حليمة السعدية مرضعته عليه الصلاة والسلام، وقيل: كنية عم ولدها ولكونها عبدت من دونه عز وجل خصت بالذكر ليكون ذلك تجهيلا لهم بجعل المربوب ربا، ولمزيد الاعتناء بذلك جيء بالجملة على ما نطق به النظم الجليل.
ومن العرب من كان يعظمها ويعتقد تأثيرها في العالم ويزعمون أنها تقطع السماء عرضا وسائر النجوم تقطعها طولا ويتكلمون على المغيبات عند طلوعها ففي قوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى إشارة إلى نفي تأثيرها.
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى أي القدماء لأنهم أولى الأمم هلاكا بعد قوم نوح كما قاله ابن زيد والجمهور، وقال الطبري: وصفت الأولى لأن في القبائل عاداً أخرى وهي قبيلة كانت بمكة مع العماليق وهم بنو لقيم بن هزال، وقال المبرد: عاد الأخرى هي ثمود، وقيل: الجبارون، وقيل: عاد الأولى ولد عاد بن إرم بن عوف بن سام بن نوح، وعاد الأخرى من ولد عاد الأولى، وفي الكشاف الْأُولى قوم هود والأخرى إرم والله تعالى أعلم.
وجوز أن يراد بالأولى المتقدمون الأشراف: وقرأ قوم عاد الولي بحذف الهمزة ونقل ضمها إلى اللام قبلها، وقرأ نافع وأبو عمرو عاد الولي بإدغام التنوين في اللام المنقول إليها حركة الهمزة المحذوفة، وعاب هذه القراء المازني والمبرد، وقالت العرب: في الابتداء بعد النقل- الحمر، ولحمر- فهده القراءة جاءت على لحمر فلا عيب فيها، وأتى قالون بعد ضمة اللام بهمزة ساكنة في موضع الواو كما في قوله:
أحب الموقدين إليّ مؤسى وكما قرأ بعضهم- على سؤقه- وفيه شذوذ، وفي حرف أبيّ عاد غير مصروف للعلمية والتأنيث ومن صرفه فباعتبار الحي، أو عامله معاملة هند لكونه ثلاثيا ساكن الوسط وَثَمُودَ عطف على عاداً ولا يجوز أن يكون مفعولا- لأبقى- في قوله تعالى: فَما أَبْقى لأن- ما- النافيه لها صدر الكلام والفاء على ما قيل: مانعة أيضا فلا يتقدم معمول ما بعدها، وقيل: هو معمول- لأهلك- مقدر ولا حاجة إليه، وقرأ عاصم وحمزة- ثمود- بلا تنوين ويقفان بغير ألف والباقون بالتنوين ويقفون بالألف، والظاهر أن متعلق أَبْقى يرجع إلى عاد وثمود معا أي فما أبقى عليهم، أي أخذهم بذنوبهم، وقيل: أي ما أبقى منهم أحدا، والمراد ما أبقى من كفارهم وَقَوْمَ نُوحٍ عطف على عاداً أيضا مِنْ قَبْلُ أي من قبل إهلاك عاد وثمود، وصرح بالقبلية لأن نوحا عليه السلام آدم الثاني وقومه أول الطاغين والهالكين إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى أي من الفريقين حيث كانوا يؤذونه ويضربونه حتى لا يكاد يتحرك وكان الرجل منهم يأخذ بيد ابنه يتمشى به إليه يحذره منه ويقول: يا بني إن أبي مشى بي إلى هذا وأنا مثلك يومئذ فإياك أن تصدقه فيموت الكبير على الكفر وينشأ الصغير على وصية أبيه ولم يتأثروا من دعائه وقد دعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما، وقيل: ضمير إِنَّهُمْ يعود على جميع من تقدم عاد وثمود وقوم نوح أي كانوا أظلم من قريش وأطغى منهم، وفيه من التسلية للنبي عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى، وهُمْ يجوز أن يكون تأكيدا للضمير المنصوب ويجوز أن يكون فصلا لأنه واقع بين معرفة وأفعل التفضيل، وحذف المفضول مع الواقع خبرا لكان لأنه جار مجرى خبر المبتدأ
وحذفه فصيح فيه فكذلك في خبر كان وَالْمُؤْتَفِكَةَ هي قرى قوم لوط سميت بذلك لأنها ائتفكت بأهلها أي انقلبت بهم، ومنه الإفك لأنه قلب الحق، وجوز أن يراد بالمؤتفكة كل ما انقلبت مساكنه ودثرت أماكنه.
وقرأ الحسن «والمؤتفكات» جمعا أَهْوى أي أسقطها إلى الأرض بعد أن رفعها على جناح جبريل عليه السلام إلى السماء، وقال المبرد: جعلها تهوي.
والظاهر أن أهوى ناصب للمؤتفكة وأخر العامل لكونه فاصلة، وجوز أن يكون- المؤتفكة- معطوفا على ما قبله وأَهْوى مع فاعله جملة في موضع الحال بتقدير قد، أو بدونه توضح كيفية إهلاكهم.
فَغَشَّاها ما غَشَّى فيه تهويل للعذاب وتعميم لما أصابهم منه لأن الموصول من صيغ العموم والتضعيف في غشاها يحتمل أن يكون للتعدية فيكون ما مفعولا ثانيا والفاعل ضميره تعالى: ويحتمل أن يكون للتكثير والمبالغة ف ما هي الفاعل فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى تتشكك والتفاعل هنا مجرد عن التعدد في الفاعل والمفعول للمبالغة في الفعل، وقيل: إن فعل التماري للواحد باعتبار تعدد متعلقه وهو الآلاء المتمارى فيها، والخطاب قيل:
لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أنه من باب الإلهاب والتعريض بالغير، وقيل: للإنسان على الإطلاق وهو أظهر والاستفهام للإنكار، والآلاء جمع إلى النعم، والمراد بها ما عد في الآيات قبل وسمي الكل بذلك مع أن منه نقما لما في النقم من العبر والمواعظ للمعتبرين والانتفاع للأنبياء والمؤمنين فهي نعم بذلك الاعتبار أيضا، وقيل: التعبير بالآلاء للتغليب وتعقب بأن المقام غير مناسب له، وقرأ يعقوب وابن محيصن- ربك تمارى- بتاء مشددة هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى الإشارة إلى القرآن. وقال أبو مالك: إلى الأخبار عن الأمم، أو الإشارة إلى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم. والنذير يجيء مصدرا ووصفا، والنذر جمعه مطلقا وكل من الامرين محتمل هنا، ووصف النُّذُرِ جمعا للوصف بالأولى على تأويل الفرقة، أو الجماعة، واختير على غيره رعاية للفاصلة، وأيا ما كان فالمراد هذا نَذِيرٌ مِنَ جنس النُّذُرِ الْأُولى.
وفي الكشف أن قوله تعالى: هذا نَذِيرٌ إلخ فذلكة للكلام إما لما عدد من المشتمل عليه الصحف وإما لجميع الكلام من مفتتح السورة فتدبر ولا تغفل أَزِفَتِ الْآزِفَةُ أي قربت الساعة الموصوفة بالقرب في غير آية من القرآن، فأل في الْآزِفَةُ كاللعهد لا للجنس، وقيل: الْآزِفَةُ علم بالغلبة للساعة هنا، وقيل: لا بأس بإرادة الجنس ووصف القريب بالقرب للمبالغة لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غير الله تعالى أو إلا الله عز وجل كاشِفَةٌ نفس قادرة على كشفها إذا وقعت لكنه سبحانه لا يكشفها والمراد بالكشف الإزالة، وقريب من هذا ما روي عن قتادة وعطاء والضحاك أي إذا غشيت الخلق أهوالها وشدائدها لم يكشفها ولم يردها عنهم أحد، أو ليس لها الآن نفس كاشفة أي مزيلة للخوف منها فإنه باق إلى أن يأتي الله سبحانه بها وهو مراد الزمخشري بقوله: أو ليس لها الآن نفس كاشفة بالتأخير، وقيل: معناه لو وقعت الآن لم يردّها إلى وقتها أحد إلا الله تعالى، فالكشف بمعنى التأخير وهو إزالة مخصوصة، وقال الطبري والزجاج: المعنى ليس لها من دون الله تعالى نفس كاشفة تكشف وقت وقوعها وتبينه لأنها من أخفى المغيبات، فالكشف بمعنى التبيين والآية كقوله تعالى: لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الأعراف: ١٨٧] والتاء في كاشِفَةٌ على جميع الأوجه للتأنيث، وهو لتأنيث الموصوف المحذوف كما سمعت، وبعضهم يقدر الموصوف حالا، والأول أولى وجوز أن تكون للمبالغة مثلها في علامة، وتعقب بأن المقام يأباه لإيهامه ثبوت أصل الكشف لغيره عز وجل وفيه نظر، وقال الرماني وجماعة: يحتمل أن يكون كاشِفَةٌ مصدرا كالعافية، وخائنة الأعين أي ليس لها كشف من دون الله تعالى أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ أي القرآن تَعْجَبُونَ إنكارا وَتَضْحَكُونَ
استهزاء مع كونه أبعد شيء من ذلك وَلا تَبْكُونَ حزنا على ما فرطتم في شأنه وخوفا من أن يحيق بكم ما حاق بالأمم المذكورة وَأَنْتُمْ سامِدُونَ أي لاهون كما روي عن ابن عباس جوابا لنافع بن الأزرق، وأنشد عليه قول هزيلة بنت بكر وهي تبكي قوم عاد:
ليت عادا قبلوا الحق... ولم يبدوا جحودا
قيل: قم فانظر إليهم... ثم دع عنك السمودا
وفي رواية أنه رضي الله تعالى عنه سئل عن السمود، فقال: البرطمة وهي رفع الرأس تكبرا أي وأنتم رافعون رؤوسكم تكبرا، وروي تفسيره بالبرطمة عن مجاهد أيضا، وقال الراغب: السامد اللاهي الرافع رأسه- من سمد البعير في سيره- إذا رفع رأسه، وقال أبو عبيدة: السمود الغناء بلغة حمير يقولون: يا جارية اسمدي لنا أي غني لنا، وروي نحوه عن عكرمة، وأخرج عبد الرازق. والبزار وابن جرير والبيهقي في سننه. وجماعة عن ابن عباس أنه قال: هو الغناء باليمانية وكانوا إذا سمعوا القرآن غنوا تشاغلا عنه، وقيل: يفعلون ذلك ليشغلوا الناس عن استماعه، والجملة الاسمية على جميع ذلك حال من فاعل- لا تبكون- ومضمونها قيد للنفي والإنكار متوجه إلى نفي البكاء ووجود السمود، وقال المبرد: السمود الجمود والخشوع كما في قوله:
رمى الحدثان نسوة آل سعد... بمقدار سمدن له سمودا
فرد شعورهن السود بيضا... ورد وجوههن البيض سودا
والجملة عليه حال من فاعل- تبكون- أيضا إلا أن مضمونها قيد للمنفى، والإنكار وارد على نفي البكاء والسمود معا فلا تغفل، وفي حرف أبيّ وعبد الله- تضحكون- بغير واو، وقرأ الحسن- تعجبون تضحكون- بغير واو وضم التاءين وكسر الجيم والحاء، واستدل بالآية كما
في أحكام القرآن على استحباب البكاء عند سماع بكى أصحاب الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم فلما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم حنينهم بكى معهم فبكينا ببكائه فقال عليه الصلاة والسلام: لا يلج النار من بكى من خشية الله تعالى ولا يدخل الجنة مصرّ على معصيته ولو لم تذنبوا لجاء الله تعالى بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم»
وأخرج أحمد في الزهد وابن أبي شيبة وهناد وغيرهم بمن صالح أبي الخليل قال: «لما نزلت هذه الآية أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ ما ضحك النبي صلّى الله عليه وسلم بعد ذلك إلا أن يتبسم»
ولفظ عبد بن حميد «فما رئي النبي عليه الصلاة والسلام ضاحكا ولا مبتسما حتى ذهب من الدنيا»
وفيه سد باب الضحك عند قراء القرآن ولو لم يكن استهزاء والعياذ بالله عز وجل.
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا الفاء لترتيب الأمر أو موجبه على ما تقرر من بطلان مقابلة القرآن بالتعجب والضحك وحقية مقابلته بما يليق به، ويدل على عظم شأنه أي وإذا كان الأمر كذلك فاسجدوا لله تعالى الذي أنزله واعبدوه جل جلاله، وهذه آية سجدة عند أكثر أهل العلم، وقد سجد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عندها.
أخرج الشيخان وأبو داود والنسائي وابن مردويه عن ابن مسعود قال: «أول سورة أنزلت فيها سجدة وَالنَّجْمِ فسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وسجد الناس كلهم إلا رجلا» الحديث.
وأخرج ابن مردويه والبيهقي في السنن عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما «قال: صلى بنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقرأ النجم فسجد بنا فأطال السجود»
وكذا عمر رضي الله تعالى عنه، أخرج سعيد بن منصور عن سبرة قال: صلى بنا عمر بن الخطاب الفجر فقرأ في الركعة الأولى سورة يوسف، ثم قرأ في الثانية سورة النجم فسجد، ثم قام فقرأ إذا زلزلت ثم ركع، ولا يرى مالك السجود هنا، واستدل له بما أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي
والنسائي والطبراني وغيرهم عن زيد بن ثابت قال: قرأت النجم عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فلم يسجد فيها، وأجيب بأن الترك إنما ينافي وجوب السجود وليس بمجمع عليه وهو عند القائل به على التراخي في مثل ذلك على المختار وليس في الحديث ما يدل على نفيه بالكلية فيحتمل أنه عليه الصلاة والسلام سجد بعد، وكذا زيد رضي الله تعالى عنه، نعم التأخير مكروه تنزيها ولعله فعل لبيان الجواز، أو لعذر لم نطلع عليه، وما
أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس من قوله: «إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة»
ناف وضعيف، وكذا
قوله فيما رواه أيضا عنه «كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يسجد في النجم بمكة فلما هاجر إلى المدينة تركها»
على أن الترك إنما ينافي- كما سمعت- الوجوب، والله تعالى أعلم.