
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الذّارياتوهي مكية بإجماع من المفسرين.
قوله عز وجل:
[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ١ الى ١٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤)إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩)
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦)
أقسم الله تعالى بهذه المخلوقات تنبيها عليها وتشريفا لها ودلالة على الاعتبار فيها حتى يصير الناظر فيها إلى توحيد الله تعالى.
وَالذَّارِياتِ الرياح بإجماع من المتأولين، يقال: ذرت الريح وأذرت بمعنى: وفي الرياح معتبر من شدتها حينا، ولينها حينا وكونها مرة رحمة ومرة عذابا إلى غير ذلك.
وذَرْواً نصب على المصدر. و: الحاملات وِقْراً قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه هي السحاب الموقرة بالماء. وقال ابن عباس وغيره هي السفن الموقرة بالناس وأمتاعهم. وقال جماعة من العلماء هي أيضا مع هذا جميع الحيوان الحامل، وفي جميع ذلك معتبر. و: وِقْراً مفعول صريح، و: الجاريات يُسْراً قال علي بن أبي طالب وغيره: هي السفن في البحر وقال آخرون: هي السحاب بالريح وقال آخرون: هي الجواري من الكواكب، واللفظ يقتضي جميع هذا. ويُسْراً نعت لمصدر محذوف وصفات المصادر المحذوفة تعود أحوالا، و: يُسْراً معناه: بسهولة وقلة تكلف، و: المقسمات أَمْراً الملائكة والأمر هنا اسم الجنس، فكأنه قال: والجماعات التي تقسم أمور الملكوت من الأرزاق والآجال والخلق في الأرحام وأمر الرياح والجبال وغير ذلك، لأن كل هذا إنما هو بملائكة تخدمه، فالآية تتضمن جميع الملائكة لأنهم كلهم في أمور مختلفة، وأنث «المقسمات» من صفحة رقم 171

وقال أبو طفيل عامر بن واثلة كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه على المنبر فقال: لا تسألوني عن آية من كتاب الله أو سنة ماضية إلا قلت، فقام إليه ابن الكواء فسأله عن هذه، فقال: الذَّارِياتِ الرياح.
و «الحاملات» السحاب، و «الجاريات» السفن، و «المقسمات» الملائكة. ثم قال له سل سؤال تعلم ولا تسأل سؤال تعنت وهذا القسم واقع على قوله: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ، وتُوعَدُونَ يحتمل أن يكون من الإيعاد، ويحتمل أن يكون من الوعد، وأيها كان فالوصف له بالصدق صحيح و: (صادق) هنا موضوع بدل صدق، ووضع الاسم موضع المصدر. و: الدِّينَ الجزاء. وقال مجاهد الحساب، والأظهر في الآية أنها للكفار وأنها وعيد محض بيوم القيامة.
ثم أقسم تعالى بمخلوق آخر فقال: وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ فظاهر لفظة السَّماءِ أنها لجميع السماوات، وقال عبد الله بن عمرو بن العاصي: هي السماء السابعة. و: الْحُبُكِ بضم الحاء والباء:
الطرائق التي هي على نظام في الأجرام، فحبك الرمان والماء: الطرائق التي تصنع فيها الريح الهابة عليها، ومنه قول زهير:
مكلل بعميم النبت تنسجه | ريح خريف لضاحي مائه حبك |
كأنما جللها الحواك، | طنفسة في وشيها حباك |
وقرأ الحسن أيضا وأبو مالك الغفاري: «الحبك» بكسر الحاء والباء على أنها لغة كإبل وإطل.
وقرأ الحسن أيضا فيما روي عنه: «الحبك» بكسر الحاء وسكون الباء كما قالوا على جهة التخفيف:
إبل وإطل بسكون الباء والطاء. وقرأ ابن عباس: «الحبك» بفتح الحاء والباء. وقرأ الحسن أيضا فيما روي عنه «الحبك» بكسر الحاء وضم الباء وهي لغة شاذة غير متوجهة، وكأنه أراد كسرهما ثم توهم «الحبك» قراءة الضم بعد أن كسر الحاء فضم الباء، وهذا على تداخل اللغات وليس في كلام العرب هذا البناء. وقرأ صفحة رقم 172

عكرمة «الحبك» بضم الحاء وفتح الباء جمع حبكة، وهذه كلها لغات والمعنى ما ذكرناه. والفرس المحبوك الشديد الخلقة الذي له حبك في مواضع من منابت شعره، وذلك دليل على حسن بنيته.
وقوله تعالى إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ، يحتمل أن يكون خطابا لجميع الناس مؤمن وكافر، أي اختلفتم بأن قال فريق منكم: آمنا بمحمد وكتابه، وقال فريق آخر: كفرنا، وهذا قول قتادة. ويحتمل أن يكون خطابا للكفرة فقط، أي: أنتم في جنس من الأقوال مختلف في نفسه، قوم منكم يقولون: ساحر، وقوم: كاهن، وقوم:
شاعر، وقوم: مجنون إلى غير ذلك، وهذا قول ابن زيد والضمير في: عَنْهُ قال الحسن وقتادة: هو عائد على محمد أو كتابه وشرعه. و: يُؤْفَكُ معناه: يصرف، فالمعنى: يصرف عن كتاب الله من صرف ممن غلبت شقاوته، وكان قتادة يقول: المأفوك منا اليوم عن كتاب الله كثيرا، ويحتمل أن يعود الضمير على القول، أي: يصرف بسببه من أراد الإسلام، بأن يقال له هو سحر، هو كهانة وهذا حكاه الزهراوي.
ويحتمل أن يعود الضمير في عَنْهُ على القول، أي يصرف عنه بتوفيق الله إلى الإسلام من غلبت سعادته، وهذا على أن يكون قوله: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ للكفار فقط.
قال القاضي أبو محمد: وهذا وجه حسن لا يخلّ به، إلا أن عرف الاستعمال في «أفك»، إنما هو في الصرف من خير إلى شر، وتأمل ذلك تجدها أبدا في المصروفين المذمومين، وحكى أبو عمرو عن قتادة أنه قرأ «من أفك» بفتح الهمزة والفاء.
وقوله تعالى: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ دعاء عليهم، كما تقول: قاتلك الله وقتلك الله، وعقرى حلقى ونحوه، وقال بعض المفسرين معناه: لعن الخراصون، وهذا تفسير لا تعطيه اللفظة. والخراص: المخمن القائل بظنه فتحته الكاهن والمرتاب وغيره ممن لا يقين له، والإشارة إلى مكذبي محمد على كل جهة من طروقهم. والغمرة: ما يغشى الإنسان ويغطيه كغمرة الماء، والمعنى في غمرة من الجهالة.
و: ساهُونَ معناه عن أنهم فِي غَمْرَةٍ وعن غير ذلك من وجوه النظر.
وقوله تعالى: يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ معناه: يقولون متى يوم الدين؟ على معنى التكذيب، وجائز أن يقترن بذلك من بعضهم هزء وأن لا يقترن.
وقرأ السلمي والأعمش: «إيان» بكسر الهمزة وفتح الياء المخففة.
وقوله تعالى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ قال الزجاج: نصبوا يَوْمَ على الظرف من مقدر تقديره: هو كائن يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ ونحو هذا، وقال الخليل وسيبويه: نصبه على البناء لما أضيف إلى غير متمكن. قال بعض النحاة: وهو في موضع رفع على البدل من يَوْمُ الدِّينِ. و: يُفْتَنُونَ معناه:
يحرقون ويعذبون في النار، قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والجميع، ومنه قيل للحرة: فتين، كأن الشمس أحرقت حجارتها.
ومنه قول كعب بن مالك:
معاطي تهوى إليها الحقو | ق يحسبها من وراءها الفتينا |