سورة الذّاريات
«مكية» كما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهما- ولم يحك في ذلك خلاف- وهي ستون آية بالاتفاق كما في كتاب العدد، ومناسبتها لسورة «ق» أنهما لما ختمت بذكر البعث واشتملت على ذكر الجزاء والجنة والنار وغير ذلك افتتحت هذه بالإقسام على أن ما وعدوا من ذلك لصادق، وأن الجزاء لواقع، وأنه قد ذكر هناك إهلاك كثير من القرون على وجه الإجمال، وذكر هنا إهلاك بعضهم على سبيل التفصيل إلى غير ذلك مما يظهر للمتأمل.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالذَّارِياتِ ذَرْواً أي الرياح التي تذرو التراب وغيره من- ذرا- المعتل بمعنى فرق وبدد ما رفعه عن مكانه فَالْحامِلاتِ وِقْراً أي حملا وهي السحب الحاملة للمطر.
فَالْجارِياتِ يُسْراً أي جريا سهلا إلى حيث سيرت وهي السفن فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً هي الملائكة الذين يقسمون الأمور بين الخلق على ما أمروا به، وتفسير كل بما فسر به قد صح روايته من طرق عن علي كرم الله تعالى وجهه، وفي بعض الروايات أن ابن الكواء سأله عن ذلك وهو رضي الله تعالى عنه يخطب على المنبر فأجاب بما ذكر، وفي بعض الأخبار ما يدل على أنه تفسير مأثور عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. (١)
أخرج البزار والدارقطني في الافراد وابن مردويه وابن عساكر عن سعيد بن المسيب قال: «جاء صبيغ التميمي إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال: أخبرني عن الذَّارِياتِ ذَرْواً قال: هي الرياح، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: فأخبرني عن «الحاملات وقرا» قال: هي السحاب ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: فأخبرني عن «الجاريات يسرا» قال: هي السفن ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: فأخبرني عن «المقسمات أمرا» قال: هي الملائكة ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقوله ما قلته ثم أمر به فضرب مائة وجعل في بيت فلما برأ دعاه فضربه مائة أخرى وحمله على قتب وكتب إلى أبي موسى الأشعري امنع الناس من مجالسته فلم يزالوا كذلك حتى أتى أبا موسى فحلف له بالأيمان المغلظة ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئا فكتب إلى عمر رضي الله تعالى عنه ما أخاله إلا قد صدق فخلى بينه وبين مجالسة الناس».
ويدل هذا أن الرجل لم يكن سليم القلب وأن سؤاله لم يكن طلبا للعلم وإلا لم يصنع به عمر رضي الله تعالى عنه ما صنع.
وفي رواية عن ابن عباس أن- الحاملات- هي السفن الموقرة بالناس وأمتعتهم، وقيل: هي الحوامل من جميع الحيوانات، وقيل: الجاريات السحب تجري وتسير إلى حيث شاء الله عز وجل، وقيل: هي الكواكب التي تجري في منازلها وكلها لها حركة وإن اختلفت سرعة وبطأ كما بين في موضعه، وقيل: هي الكواكب السبعة الشهيرة وتسمى السيارة، وقيل: الذَّارِياتِ النساء الولود فإنهن يذرين الأولاد كأنه شبه تتابع الأولاد بما يتطاير من الرياح، وباقي المتعاطفات على ما سمعت أولا، وقيل: الذَّارِياتِ هي الأسباب التي تذري الخلائق على تشبيه الأسباب المعدة للبروز من العدم بالرياح المفرقة للحبوب ونحوها، وقيل: الحاملات الرياح الحاملة للسحاب، وقيل: هي الأسباب الحاملة لمسبباتها مجازا، وقيل: الجاريات الرياح تجري في مهابها، وقيل: المقسمات السحب يقسم الله تعالى بها أرزاق العباد، وقيل: هي الكواكب السبعة السيارة- وهو قول باطل- لا يقول به إلا من زعم أنها مدبرة لعالم الكون والفساد، وفي صحيح البخاري عن قتادة «خلق الله تعالى هذه النجوم لثلاث جعلها زينة للسماء ورجوما للشياطين.
وعلامات يهتدى بها فمن تأوّل فيها بغير ذلك فقد أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف ما لا يعلم» وزاد رزين «وما لا علم له به وما عجز عن علمه الأنبياء والملائكة» وعن الربيع مثله وزاد «والله ما جعل الله تعالى في نجم حياة أحد ولا رزقه ولا موته وإنما يفترون على الله تعالى الكذب ويتعللون بالنجوم» ذكره صاحب جامع الأصول، وقد مر الكلام في إبطال ما قاله المنجمون مفصلا فتذكر، ولعله سيأتي إن شاء الله تعالى شيء من ذلك، وجوز أن يراد بالجميع الرياح فإنها- كما تذر- وما تذروه تثير السحاب وتحمله، وتجري في الجوّ جريا سهلا- وتقسم الأمطار بتصريف السحاب في الأقطار- والمعول عليه ما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه سامعا له من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم- وقاله باب مدينة العلم كرم الله تعالى وجهه على المنبر- وإليه كما نقل عن الزجاج ذهب جميع المفسرين أي المعتبرين، وقول الإمام بعد نقله له عن الأمير: الأقرب أن تحمل هذه الصفات الأربع على الرياح جسارة عظيمة على ما لا يسلم له، وجهل منه بما رواه ابن المسيب من الخبر الدال على أن ذلك تفسير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأين منه الامام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.
وقول صاحب الكشف: إنه شديد الطباق للمقام ولذا آثره الإمام لا أسلمه له أيضا إذا صح الحديث ثم إذا حملت هذه الصفات على أمور مختلفة متغايرة بالذات كما في المعول عليه فالفاء للترتيب في الأقسام ذكرا ورتبة باعتبار تفاوت مراتبها في الدلالة على كمال قدرته عز وجل، وهذا التفاوت إما على الترقي أو التنزل لما في كل منها
من الصفات التي تجعلها أعلى من وجه وأدنى من آخر إذا نظر لها ذو نظر صحيح، وقيل: الترتيب بالنظر إلى الأقرب فالأقرب منا، وإن حملت على واحد وهو الرياح فهي لترتيب الأفعال والصفات إذ الريح تذر الأبخرة إلى الجو أولا حتى تنعقد سحابا فتحمله ثانيا وتجري به ثالثا ناشرة وسائقة له إلى حيث أمرها الله تعالى ثم تقسم أمطاره، وقيل: إذا حملت الذاريات والحاملات على النساء، فالظاهر أنها للتفاوت في الدلالة على كمال القدرة فتدبر.
ونصب ذَرْواً على أنه مفعول مطلق، ووِقْراً على أنه مفعول به، وجوز الإمام أن يكون من باب ضربته سوطا، ويُسْراً على أنه صفة مصدر محذوف بتقدير مضاف أي جريا ذا يسر، أو على أنه حال أي ميسرة كما نقل عن سيبويه، وأَمْراً على أنه مفعول به وهو واحد الأمور، وقد أريد به الجمع ولم يعبر به لأن الفرد أنسب برؤوس الآي مع ظهور الأمر، وقيل على أنه حال أي مأمورة، والمفعول به محذوف أو الوصف منزل منزلة اللازم أي تفعل التقسيم مأمورة، وقرأ أبو عمرو وحمزة وَالذَّارِياتِ ذَرْواً بإدغام التاء في الذال، وقرىء «وقرا» بفتح الواو على أنه مصدر وقره إذا حمله- كما أفاده كلام الزمخشري- وناهيك به إماما في اللغة، وعلى هذا هو منصوب على أنه مفعول به أيضا على تسمية المحمول بالمصدر أو على أنه مفعول مطلق- لحاملات- من معناها كأنه قيل:
فالحاملات حملا. وقوله تعالى شأنه: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ جواب للقسم، و (ما) موصولة والعائد محذوف أي إن الذي توعدونه، أو توعدون به، ويحتمل أن تكون مصدرية أي إن وعدكم، أو وعيدكم إذ توعدون يحتمل أن يكون مضارع وعد، وأن يكون مضارع أوعد، ولعل الثاني أنسب لقوله تعالى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق: ٤٥] ولأن المقصود التخويف والتهويل، وعن مجاهد أن الآية في الكفار وهو يؤيد الوعيد ومعنى صدقة تحقق وقوعه، وفي الكشاف وعد صادق- ك عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة: ٢١]- والدِّينَ الجزاء ووقوعه حصوله، والأكثرون على أن الموعود هو البعث، وفي تخصيص المذكورات بالإقسام بها رمز إلى شهادتها بتحقق الجملة المقسم عليها من حيث إنها أمور بديعة فمن قدر عليها فهو قادر على تحقيق البعث الموعود وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ أي الطرق جمع حبيكة كطريقة، أو حباك كمثال ومثل، ويقال: حبك الماء للتكسر الجاري فيه إذ مرت عليه الريح، وعليه قول زهير يصف غديرا:
مكلل بأصول النجم تنسجه | ريح خريق لضاحي مائه حبك (١) |
حبكت الشيء أحكمته وأحسنت عمله وحبكت العقدة أوثقتها، وفرس محبوك المعاقم- وهي المفاصل- أي محكمها، وفي الكشف أصل الحباكة الصفاقة وجودة الأثر، وعن الحسن- حبكها- نجومها، والظاهر أن إطلاق الحبك على النجوم مجاز لأنها تزين السماء كما يزين الثوب الموشى حبكه وطرائق وشيه فكأنه قيل: ذات النجوم التي هي كالحبك أي الطرائق في التزيين، واستظهر في السماء أنه جنس أريد به جميع السماوات وكون كل واحدة
منها ذات حبك بمعنى مستوية الخلق جيدته، أو متقنة البنيان أو صفيقة، أو ذات طرق معقولة ظاهر، وأما كون كل منها كذلك بمعنى ذات طرق محسوسة فباعتبار أن الكواكب في أي سماء كانت تسير مسامتة لسائر السماوات، فممراتها باعتبار المسامتة طرق، وبمعنى ذات النجوم فباعتبار أن النجوم في أي سماء كانت تشاهد في سائر السماوات بناء على أن السماوات شفافة لا يحجب كل منها إدراك ما وراءه،
وأخرج ابن منيع عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: هي السماء السابعة
، وعن عبد الله بن عمرو مثله فتدبر ولا تغفل.
وقرأ ابن عباس والحسن بخلاف عنه وأبو ممالك الغفاري وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو السمال ونعيم عن أبي عمرو «الحبك» بإسكان الباء على زنة القفل، وعكرمة بفتحها جمع حبكة مثل طرفة وطرف وبرقة (١) وبرق، وأبو مالك الغفاري والحسن بخلاف عنه أيضا بكسر الحاء والباء- كالإبل- وهو على ما ذكر الخفاجي اسم مفرد ورد على هذا الوزن شذوذا وليس جمعا، وأبو مالك والحسن وأبو حيوة أيضا بكسر الحاء وإسكان الباء- كالسلك- وهو تخفيف فعل مكسور الفاء والعين وهو اسم مفرد لا جمع لأن فعلا ليس من أبنية الجموع- قاله في البحر- وابن عباس وأبو مالك أيضا بفتحهما- كالجبل- قال أبو الفضل الرازي: فهو جمع حبكة مثل عقبة وعقب، والحسن أيضا بكسر الحاء وفتح الباء كالنعم، وأبو مالك أيضا بكسر الحاء وضم الباء وذكرها ابن عطية عن الحسن أيضا ثم قال: هي قراءة شاذة غير متوجهة وكأنه بعد أن كسر الحاء توهم قراءة الجمهور فضم التاء (٢) وهذا من تداخل اللغات وليس في كلام العرب هذا البناء أي لأن فيه الانتقال من خفة إلى ثقل على عكس ضرب مبنيا للمفعول، وقال صاحب اللوامح: هو عديم النظير في العربية في أبنيتها وأوزانها ولا أدري ما وراءه انتهى.
وعلى التداخل تأول النحاة هذه القراءة، وقال أبو حيان: الأحسن عندي أن يكون ذلك مما أتبع فيه حركة الحياء لحركة تاء ذاتِ في الكسر ولم يعتد باللام الساكنة لأن الساكن حاجز غير حصين.
إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ أي متخالف متناقض في أمر الله عز وجل حيث تقولون: إنه جل شأنه خالق السماوات والأرض وتقولون بصحة عبادة الأصنام معه سبحانه، وفي أمر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فتقولون تارة: إنه مجنون، وأخرى: إنه ساحر ولا يكون الساحر إلا عاقلا، وفي أمر الحشر فتقولون: تارة لا حشر ولا حياة بعد الموت أصلا، وتزعمون أخرى أن أصنامكم شفعاؤكم عند الله تعالى يوم القيامة إلى غير ذلك من الأقوال المتخالفة فيما كلفوا بالإيمان به، واقتصر بعضهم على كون القول المختلف في أمره صلى الله تعالى عليه وسلم، والجملة جواب القسم ولعل النكتة في ذلك القسم تشبيه أقوالهم في اختلافها وتنافي أغراضها بطرائق السماوات في تباعدها واختلاف هيئاتها، أو الإشارة إلى أنها ليست مستوية جيدة، أو ليست قوية محكمة، أو ليس فيها ما يزينها بل فيها ما يشينها من التناقض يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ أي يصرف عن الإيمان بما كلفوا الايمان به لدلالة الكلام السابق عليه، وقال الحسن وقتادة: عن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال غير واحد: عن القرآن، والكلام السابق مشعر بكل من صرف الصرف الذي لا أشد منه وأعظم، ووجه المبالغة من إسناد الفعل إلى من وصف به فلولا غرض المبالغة لكان من توضيح الواضح فكأنه أثبت للمصروف صرف آخر حيث قيل: يُصْرَفْ عَنْهُ [الأنعام: ١٦] المصروف فجاءت المبالغة من المضاعفة ثم الإطلاق في المقام الخطابي له مدخل في تقوية أمر المضاعفة وكذلك الإبهام الذي
(٢) هكذا بالتاء الفوقية والظاهر أنها بالباء الموحدة.
في الموصول، وهو قريب من قوله تعالى: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ [طه: ٧٨] وقيل: المراد يُصْرَفْ عَنْهُ في الوجود الخارجي من فَصَرَفَ عَنْهُ [يوسف: ٣٤] في علم الله تعالى وقضائه سبحانه، وتعقب بأنه ليس فيه كثير فائدة لأن كل ما هو كائن معلوم أنه ثابت في سابق علمه تعالى الأزلي وليس فيه المبالغة السابقة، وأجيب عن الأول بأن فيه الإشارة إلى أن الحجة البالغة لله عز وجل في صرفه وكفى بذلك فائدة وهو مبني أن العلم تابع للمعلوم فافهمه، وحكى الزهراوي أنه يجوز أن يكون الضمير لما تُوعَدُونَ أو- للدين- أقسم سبحانه- بالذاريات- على أن وقوع أمر القيامة حق ثم أقسم بالسماء على أنهم في قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ في وقوعه، فمنهم شاك، ومنهم جاحد ثم قال جل وعلا: يُؤْفَكُ عن الإقرار بأمر القيامة من هو المأفوك، وذكر ذلك الزمخشري ولم يعزه، وادعى صاحب الكشف أنه أوجه لتلاؤم الكلام، وقيل: يجوز أن يكون الضمير- لقول مختلف- وعن- للتعليل كما في قوله تعالى:
وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ [هود: ٥٣] وقوله:
ينهون عن أكل وعن شرب | مثل المها يرتعن في خصب (١) |
وفيه بحث وحقيقة- القتل- معروفة، والمراد- بقتل- الدعاء عليهم مع قطع النظر عن المعنى الحقيقي. وعن ابن عباس تفسيره باللعن قال ابن الأنباري: وإنما كان القتل بمعنى اللعن هنا لأن من لعنه الله تعالى بمنزلة المقتول الهالك، وقرىء «قتل الخراصين» أي قتل الله الخراصين الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ في جهل عظيم يغمرهم ويشملهم شمول الماء الغامر لما فيه ساهُونَ غافلون عما أمروا به، فالمراد بالسهو مطلق الغفلة.
يَسْئَلُونَ أي بطريق الاستعجال استهزاء أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ معمول ليسألون على أنه جار مجرى يقولون لما فيه من معنى القول، أو لقول مقدر- أي فيقولون متى وقوع يوم الجزاء- وقدر الوقوع ليكون السؤال عن الحدث كما هو المعروف في أَيَّانَ ولا ضير في جعل الزمان زمانيا فإن اليوم لما جعل موعودا ومنتظرا في نحو قوله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ [الدخان: ١٠] صار ملحقا بالزمانيات وكذلك- كل يوم له شأن مثل يوم العيد. والنيروز- وهذا جار في عرفي العرب والعجم على أنه يجوز عند الأشاعرة أن يكون للزمان زمان على ما فصل في مكانه، وقرىء «إيان» بكسر الهمزة وهي لغة يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ أي يحرقون، وأصل الفتن إذابة الجوهر ليظهر غشه ثم استعمل في الإحراق والتعذيب ونحو ذلك، ويَوْمَ نصب على الظرفية لمحذوف دل عليه وقوع الكلام جوابا للسؤال مضاف للجملة الاسمية بعده- أي يقع يوم الدين يوم هم على النار- إلخ، وقال الزجاج: ظرف لمحذوف وقع خبرا لمبتدأ كذلك أي هو واقع، أو كائن يوم إلخ، وجوز أن يكون هو نفسه خبر مبتدأ محذوف، والفتحة فتحة بناء لإضافته إلى غير، وهي الجملة الاسمية فإن الجمل بحسب الأصل كذلك على كلام فيه بين البصريين والكوفيين مفصل في شرح التسهيل- أي هو يوم هم- إلخ، والضمير قيل: راجع إلى وقت الوقوع فيكون هذا الكلام قائما مقام الجواب على نحو- سيقولون لله- في جواب مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الرعد: ١٦] لأن تقدير السؤال في أي وقت يقع، وجوابه الأصلي في يوم كذا، وإذا قلت: وقت وقوعه يوم كذا كان قائما مقامه.
ويجوز أن يكون الضمير لليوم والكلام جواب بحسب المعنى، فالتقدير يوم الجزاء- يوم تعذيب الكفار- ويؤيد- كونه مرفوع المحل خبرا لمبتدأ محذوف- قراءة ابن أبي عبلة. والزعفراني «يوم هم» بالرفع، وزعم بعض النحاة أن- يوم- بدل من يَوْمُ الدِّينِ وفتحته على قراءة الجمهور فتحة بناء، ويَوْمَ وما في حيزه من جملة كلام السائلين قالوه استهزاء، وحكي على المعنى، ولو حكي على اللفظ لقيل: يوم نحن على النار نفتن، وهو في غاية البعد كما لا يخفى، وقوله تعالى: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ بتقدير قول وقع حالا من ضمير يُفْتَنُونَ أي مقولا لهم ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ أي عذابكم المعدّ لكم، وقد يسمى ما يحصل عنه العذاب- كالكفر- فتنة، وجوز أن يكون منه ما هنا كأنه قيل: ذوقوا كفركم- أي جزاء كفركم- أو بجعل الكفر نفس العذاب مجازا وهو كما ترى هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ جملة من مبتدأ وخبر داخلة تحت القول المضمر- أي هذا العذاب الذي كنتم تستعجلون به بطريق الاستهزاء- وجوز أن يكون هذا بدلا من فِتْنَتَكُمْ بتأويل العذاب، وفيه بعد إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ لا يبلغ كنهها ولا يقادر قدرها آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ أي قابلين لكل ما أعطاهم عز وجل راضين به على معنى إن كل ما آتاهم حسن مرضي يتلقى بحسن القبول، والعموم مأخوذ من شيوع ما وإطلاقه في معرض المدح وإظهار منّه تعالى عليهم، واعتبار الرضا لأن الأخذ قبول عن قصد، ونصب آخِذِينَ على الحال من الضمير في الصرف إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ في الدنيا مُحْسِنِينَ أي لأعمالهم الصالحة آتين بها على ما ينبغي فلذلك استحقوا ما استحقوا من الفوز العظيم، وفسر إحسانهم بقوله تعالى كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ إلخ على أن الجملة في محل رفع بدل من قوله تعالى: كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ حصل بها تفسير، أو أنها جملة لا محل لها من الإعراب مفسرة كسائر الجمل التفسيرية، وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ من الفرائض إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ أي كانوا قبل تنزل الفرائض يعملون، ولا أظن صحة نسبته لذلك الخبر، ولا يكاد تجعل جملة كانُوا إلخ عليه تفسيرا إذا صح ما نقل عنه في تفسيرها، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
و الهجوع- النوم، وقيده الراغب بقوله: ليلا، وغيره بالقليل، وما إما مزيدة- فقليلا- معمول الفعل صفة لمصدر محذوف أي- هجوعا قليلا- ومِنَ اللَّيْلِ صفة، أو لغو متعلق- بيهجعون- ومِنَ للابتداء، وجملة يَهْجَعُونَ خير- كان- أو قَلِيلًا صفة لظرف محذوف- أي زمانا قليلا- ومِنَ اللَّيْلِ صفة على نحو- قليل من المال عندي- وإما موصولة عائدها محذوف فهي فاعل قَلِيلًا وهو خبر- كان- ومِنَ اللَّيْلِ حال من الموصول مقدم كأنه قيل: كانوا قد قل المقدار الذي يهجعون فيه كائنا ذلك المقدار مِنَ اللَّيْلِ وإما مصدرية فالمصدر فاعل قَلِيلًا وهو خبر كان أيضا، ومِنَ اللَّيْلِ بيان لا متعلق بما بعده لأن معمول المصدر لا يتقدم، أو حال من المصدر، ومِنَ الابتداء كذا في الكشف فهما من الكشاف، وذهب بعضهم إلى أن مِنَ على زيادة- ما- بمعنى في كما في قوله تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الجمعة: ٩] واعترض ابن المنير احتمال مصدريتها بأنه لا يجوز في مِنَ اللَّيْلِ كونه صفة، أو بيانا- للقليل- لأنه فيه واقع على الهجوع ولا صلة المصدر لتقدمه، وأجيب بأنه بيان للزمان المبهم وحكى الطيبي أنه إما منصوب على التبيين أو متعلق بفعل يفسره يَهْجَعُونَ وجوز أن يكون ما يَهْجَعُونَ على ذلك الاحتمال بدلا من اسم كان فكأنه قيل: كان هجوعهم قليلا وهو بعيد، وجوز في ما أن تكون نافية، وقَلِيلًا منصوب- بيهجعون- والمعنى- كانوا لا يهجعون من الليل قليلا ويحيونه كله- ورواه ابن أبي شيبة وأبو نصر عن مجاهد، ورده الزمخشري بأن ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها لأن لها صدر الكلام وليس فيها التصرف الذي في أخواتها كلا فإنها قد تكون كجزء مما دخلت عليه نحو- عوتب بلا جرم- ولم ولن- لاختصاصهما بالفعل كالجزء منه، وأنت تعلم أن منع العمل هو مذهب البصريين، وفي شرح الهادي أن بعض النحاة أجازه مطلقا، وبعضهم أجازه في الظرف خاصة للتوسع فيه، واستدل عليه
بقوله:
ونحن عن فضلك ما استغنينا نعم يرد على ذلك أن فيه كما في الانتصاف خللا من حيث المعنى فإن طلب قيام الليل غير مستثنى منه جزء للهجوع وإن قيل غير ثابت في الشرع ولا معهود اللهم إلا أن يدعي أن من ذهب إلى ذلك يقول: بأنه كان ثابتا في الشرع، فقد أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عطاء أنه قال في الآية: كان ذلك إذ أمروا بقيام الليل كله فكان أبو ذر يعتمد على العصا فمكثوا شهرين ثم نزلت الرخصة فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل: ٢٠] وقال الضحاك: كانُوا قَلِيلًا في عددهم، وتم الكلام عند قَلِيلًا ثم ابتدأ مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ على أن ما نافية وفيه ما تقدم مع زيادة تفكيك الكلام، ولعل أظهر الأوجه زيادة ما ونصب قَلِيلًا على الظرفية، ومِنَ اللَّيْلِ صفة قيل: وفي الكلام مبالغات لفظ الهجوع بناء على أنه القليل من النوم، وقوله تعالى: قَلِيلًا ومِنَ اللَّيْلِ لأن الليل وقت السبات والراحة وزيادة ما لأنها تؤكد مضمون الجملة فتؤكد القلة وتحققها باعتبار كونها قيدا فيها.
والغرض من الآية أنهم يكابدون العبادة في أوقات الراحة وسكون النفس ولا يستريحون من مشاق النهار إلا قليلا، قال الحسن: كابدوا قيام الليل لا ينامون منه إلا قليلا، وعن عبد الله بن رواحة هجعوا قليلا ثم قاموا، وفسر أنس ابن مالك الآية- كما رواه جماعة عنه وصححه الحاكم- فقال: كانوا يصلون بين المغرب والعشاء وهي لا تدل على الاقتصار على ذلك.