آيات من القرآن الكريم

نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ ۖ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ۖ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭ ﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖ ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ ﮡﮢﮣﮤﮥﮦ ﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ ﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ

تهديد منكري البعث وإثباته لهم مرة أخرى وأوامر للرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم
[سورة ق (٥٠) : الآيات ٣٦ الى ٤٥]
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠)
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥)
الإعراب:
يَوْمَ يَسْمَعُونَ يَوْمَ: بدل من يوم في قوله: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ.
يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً يَوْمَ: منصوب من وجهين:
أحدهما: أنه منصوب على البدل من يَوْمَ في قوله تعالى: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ.. أي واستمع حديث يوم ينادي المنادي، فحذف المضاف، وهو مفعول به.
والثاني: أنه منصوب لتعلقه بقوله تعالى: وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ وتقديره: وإلينا يصيرون في يوم تشقق.
وسِراعاً: حال من الهاء والميم في عَنْهُمْ وعوامله: إما تَشَقَّقُ أو فعل مقدر، أي فيخرجون سراعا.

صفحة رقم 310

المفردات اللغوية:
وَكَمْ أَهْلَكْنا أي كثيرا ما أهلكنا. قَبْلَهُمْ قبل قومك كفار قريش. مِنْ قَرْنٍ القرن: الأمة والجماعة والجيل من الناس، أي أهلكنا قبل كفار قريش أمما وقرونا وجماعات كثيرة من الكفار. هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً قوة، كعاد وفرعون. فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ بحثوا وفتشوا وساروا في الأرض يطلبون الرزق والمكسب. هَلْ مِنْ مَحِيصٍ مهرب لهم من اللَّه أو من الموت.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى أي إن فيما ذكر في هذه السورة لتذكرة وعظة وعبرة لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ عقل يعي به ويتفكر في الحقائق. أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ أصغى بسمعه للوعظ. وَهُوَ شَهِيدٌ حاضر الذهن ليفهم المعاني. وفي تنكير كلمة قَلْبٌ وإبهامه إشعار بأن كل قلب لا يتفكر ولا يتدبر كأنه غير موجود.
فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أولها الأحد وآخرها الجمعة. لُغُوبٍ تعب وإعياء، وهو رد لما زعمت اليهود من أنه تعالى بدأ خلق العالم يوم الأحد، وفرغ منه يوم الجمعة، واستراح يوم السبت، واستلقى على العرش، فالله منزه عن صفات المخلوقين، لا يتعرض لتعب حتى يستريح منه، وإذا أراد شيئا قال له: كُنْ فَيَكُونُ.
فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي اصبر أيها النبي على ما يقول المشركون من إنكارهم البعث، فإن من قدر على خلق العالم بلا إعياء، قادر على بعثهم والانتقام منهم، واصبر أيضا على ما يقول اليهود وغيرهم من التشبيه للخالق والتكذيب لك، والكفر. وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي نزهه عن العجز وعن كل نقص، مصحوبا بالحمد والشكر. قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ أي صلاة الفجر والعصر والظهر.
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ أي سبحه بعض الليل، وصل العشاءين. وَأَدْبارَ السُّجُودِ أعقاب الصلوات، جمع دبر، وقرئ بالكسر: وَأَدْبارَ مصدر أدبر، أي صل النوافل المسنونة عقب الصلوات الفرائض المكتوبة، وسبح التسبيح المعروف في هذه الأوقات مع الحمد.
وَاسْتَمِعْ أيها المخاطب لما أخبرك به من أحوال القيامة، وفي هذا تهويل وتعظيم للمخبر به. يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ هو إسرافيل، فيقول: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، واللحوم المتمزقة، والشعور المتفرقة، إن اللَّه يأمركنّ أن تجتمعن لفصل القضاء مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ أي كما ذكر الزمخشري: من صخرة بيت المقدس «١»، وهي أقرب الأرض من السماء، وهي وسط الأرض، أو من أقرب الأماكن إلى الناس بحيث يصل نداؤه إلى الكل على السواء.

(١) هذا- كما قال قتادة- منقول عن كعب الأحبار. وفي تقديري كما ذكر الرازي أن المراد ظهور النداء لكل مخلوق، وليس المراد من المكان القريب المكان نفسه.

صفحة رقم 311

يَوْمَ يَسْمَعُونَ يسمع الخلق كلهم. الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ صيحة البعث وهي النفخة الثانية من إسرافيل بالبعث والحشر للجزاء. ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ أي ذلك يوم النداء والسماع هو يوم الخروج من القبور. الْمَصِيرُ المرجع والمآب للجزاء في الآخرة.
تَشَقَّقُ تتشقق، وقرئ بتشديد الشين، أي تشقّقّ. سِراعاً مسرعين، جمع سريع.
ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ أي ذلك بعث وجمع هيّن علينا، وتقديم الظرف: عَلَيْنا للاختصاص، لأن الإحياء بعد الإفناء، والجمع للعرض والحساب لا يتيسر إلا على العالم القادر لذاته، الذي لا يشغله شأن عن شأن، كما قال سبحانه: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان ٣١/ ٢٨].
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ أي كفار قريش، وهو تسلية لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتهديد لهم.
وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ بمسلط عليهم تقسرهم أو تجبرهم على الإيمان، أو تفعل بهم ما تريد، وإنما أنت داع. فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ أي يخاف وعيدي، وهم المؤمنون، فإنه لا ينتفع بالقرآن غيرهم.
سبب النزول: نزول الآية (٣٨) :
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ..:
أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس: أن اليهود أتت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فسألته عن خلق السموات والأرض، فقال: خلق اللَّه الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء وما فيهن من منافع، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب، وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر إلى ثلاث ساعات بقين منه، فخلق أول ساعة الآجال حتى يموت من مات، وفي الثانية ألقى الآفة عن كل شيء مما ينتفع به الناس، وفي الثالثة خلق آدم وأسكنه الجنة، وأمر إبليس بالسجود له، وأخرجه منها في آخر ساعة.
قالت اليهود: ثم ماذا يا محمد؟ قال: ثم استوى على العرش، قالوا: قد أصبت لو أتممت، قالوا: استراح، فغضب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم غضبا شديدا، فنزل:

صفحة رقم 312

وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ، فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ...
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: قالوا: يا رسول اللَّه، لو خوفتنا؟
فنزلت: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ.
وقال الحسن وقتادة: قالت اليهود: إن اللَّه خلق الخلق في ستة أيام، واستراح يوم السابع، وهو يوم السبت، يسمونه يوم الراحة، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.
المناسبة:
بعد أن أنذر اللَّه تعالى منكري البعث بالعذاب الأليم في الآخرة، عاد إلى التهديد والإنذار بعذاب الدنيا المهلك والدمار الشامل، وتوسط الإنذارين بيان حال المتقين في الجنان للجمع بين الترهيب والترغيب كما تقدم، ثم أبان تعالى أن الإهلاك عظة وتذكير وعبرة لكل ذي عقل واع، مفكر بالربط بين الأسباب والنتائج.
ثم أعاد اللَّه تعالى دليل إمكان البعث من خلق السموات والأرض مرة أخرى مع تنزيه نفسه عن العناء والتعب في الخلق، ثم أمر تعالى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم بالصبر على ما يقولون من إنكار البعث ومن حديث التعب بالاستلقاء، وبتنزيه اللَّه عن كل نقص منتظرا المنادي، ولا تكن من الغافلين حتى لا تصعق يوم الصيحة، فقد اقترب يوم البعث، وسمع صوت الداعي إليه، فالله هو المحيي والمميت وإليه المصير، يوم تتشقق الأرض سراعا ويخرج الناس من القبور، ثم أخبر سبحانه رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم بعلمه بما يقول المشركون في البعث، فلست عليهم بجبار مصيطر، وتابع مهمتك في الإنذار وتبليغ الدعوة بالتوحيد، وذكّر بهذا القرآن من يخاف عقابي ويخشى وعيدي.

صفحة رقم 313

التفسير والبيان:
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً، فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ، هَلْ مِنْ مَحِيصٍ؟ أي وكثيرا ما أهلكنا قبل هؤلاء المكذبين من قريش ومن وافقهم، من أمم وجماعات، كانوا أكثر منهم، وأشد قوة، وآثارا في الأرض، كعاد وثمود وقوم تبّع وغيرهم، وقد أثروا في البلاد، فساروا فيها يبتغون الأرزاق والمتاجر والمكاسب، أكثر مما طفتم بها، فهل لهم من مفر أو مهرب يهربون إليه، يتخلصون به من العذاب، ومن قضاء اللَّه وقدره، وهل نفعهم ما جمعوه من أموال، وردّ عنهم عذاب اللَّه لما جاءهم لتكذيبهم الرسل، فأنتم أيضا لا مفر لكم، ولا محيد، ولا مناص، ولا مهرب.
ثم ذكر اللَّه تعالى أن تلك الإنذارات والتهديدات والزواجر لا ينتفع بها إلا المفكرون، فقال:
إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ، وَهُوَ شَهِيدٌ أي إن فيما ذكر من قصة هؤلاء الأمم، وما ذكر في هذه السورة وما قبلها من الآداب والمواعظ، سواء بين الأفراد أو بين الجماعات، لتذكرة وموعظة وعبرة لمن يعتبر بها، من كل ذي عقل واع، يتأمل به، ويتدبر الحقائق والأسباب والنتائج.
ثم أعاد اللَّه تعالى دليل إمكان البعث مرة أخرى، فقال:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ أي وتالله لقد أوجدنا من غير مثال سبق السموات والأرض وما بينهما من عجائب المخلوقات، في أيام ستة، وما أصابنا أي إعياء ولا تعب ولا نصب.
وهذا رد على اليهود، فإنهم- كما قال قتادة- قالوا: خلق اللَّه السموات والأرض في ستة أيام أولها الأحد، وآخرها الجمعة، ثم استراح في اليوم السابع، وهو يوم السبت، وهم يسمونه يوم الراحة، فأنزل اللَّه تعالى تكذيبهم فيما قالوه وتأولوه.

صفحة رقم 314

والآية تقرير للمعاد، لأن من قدر على خلق السموات والأرض، ولم يتعب بخلقها، قادر على أن يحيي الموتى بطريق الأولى والأحرى، كما قال تعالى في آية أخرى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ، بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى، بَلى، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف ٤٦/ ٣٣] وكما قال عز وجل: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر ٤٠/ ٥٧].
ذكر الرازي أن المراد بقوله فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ستة أطوار، لا الأيام المعروفة في وضع اللغة، لأن اليوم عبارة عن زمان مكث الشمس فوق الأرض من الطلوع إلى الغروب، وقبل خلق السموات لم يكن شمس ولا قمر، لكن اليوم يطلق ويراد به الوقت أو الحين «١».
ثم أوضح اللَّه تعالى لنبيه الموقف الذي يتخذه في مواجهة منكري البعث واليهود المشبّهة للخالق بالمخلوق، فقال آمرا له بعدة أوامر هي:
١- فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي اصبر أيها الرسول على ما يقوله المشركون المكذبون بالبعث، وعلى ما يقوله اليهود من حديث التعب والاستلقاء، فتلك أقوال باطلة لا دليل عليها.
٢- وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ أي ونزّه دائما اللَّه ربك عن كل عجز ونقص، واحمده دائما، قائلا: سبحان اللَّه وبحمده، وقت الفجر ووقت العصر، وبعض الليل، وفي أعقاب الصلوات.
وقال ابن عباس: المراد بالتسبيح والتحميد قبل طلوع الشمس: صلاة الفجر، وقبل الغروب: الظهر والعصر، ومن الليل: العشاءان، وأدبار

(١) تفسير الرازي: ٢٨/ ١٨٣- ١٨٤

صفحة رقم 315

السجود: النوافل بعد الفرائض أو التسبيح بعد الصلاة. ومن قال: إن المراد بالتسبيح الصلاة، فلأن الصلاة تسمى تسبيحا، لما فيها من تسبيح اللَّه تعالى.
وقد جاء الأمر بالتسبيح بعد الصلاة في أحاديث كثيرة منها: ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أنه قال: «جاء فقراء المهاجرين، فقالوا: يا رسول اللَّه، ذهب أهل الدّثور «١» بالدرجات العلى والنعيم المقيم، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: وما ذاك، قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون كما نتصدق، ويعتقون كما نعتق، قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: أفلا أعلمكم شيئا إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من فعل مثل ما فعلتم؟ تسبّحون وتحمّدون وتكبّرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، فقالوا:
يا رسول اللَّه، سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم:
ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ» [المائدة ٥/ ٥٤].
وجاء في صحيح الحديث: أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كان يقول في دبر الصلاة المكتوبة: «لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ»
أي لا ينفع ذا الغنى منك غناه، وإنما ينفعه الإيمان والطاعة.
٣- وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ أي واستمع أيها الرسول صيحة القيامة وهي النفخة الثانية في الصور من إسرافيل عليه السلام، يوم ينادي نداء يسمعه كل فرد من أفراد المحشر، قائلا: هلموا إلى الحساب، فيخرجون من قبورهم.
ولا مانع من عطف وَاسْتَمِعْ على فَاصْبِرْ وَسَبِّحْ مع أن الصبر والتسبيح يكون في الدنيا، والاستماع يكون يوم القيامة، لأن المراد كما في

(١) المراد بهم: الأغنياء أصحاب الثراء، من الدّثار: وهي الثياب الخارجية.

صفحة رقم 316

قولهم: صل وادخل الجنة، أي صل في الدنيا، وادخل الجنة في العقبى. ويحتمل أن يقال: بأنّ اسْتَمِعْ بمعنى انتظر.
قال الرازي: وقوله تعالى: مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ إشارة إلى أن الصوت لا يخفى على أحد، بل يستوي في استماعه كل أحد، وعلى هذا فلا يبعد حمل المنادي على اللَّه تعالى إذ ليس المراد من المكان القريب المكان نفسه، بل ظهور النداء، وهو من اللَّه تعالى أقرب «١».
يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ، ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ يعني أن صيحة البعث كائنة حقا، وهي يوم سماع النفخة الثانية في الصور التي تنذر بالبعث والحشر والجزاء على الأعمال، وذلك اليوم يوم الخروج من القبور.
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ، وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ أي إننا نحن نحيي في الدنيا والآخرة، ونميت في الدنيا حين انقضاء الآجال، لا يشاركنا في ذلك مشارك، وإلينا المرجع في الآخرة للحساب والجزاء، فنجازي كل عامل بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وهذا تقرير القدرة الإلهية على الإحياء ابتداء وإعادة، وعلى الإماتة، وإجراء الحساب، وأكد ذلك بقوله:
يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً، ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ أي وإلينا المصير وقت أن تتصدع الأرض عنهم، فيخرجون من القبور، ويساقون إلى المحشّر، مسرعين إلى المنادي الذي ناداهم، ذلك بعث وجمع هيّن لدينا وعلينا، لا مشقة فيه ولا عسر، كما قال تعالى: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر ٥٤/ ٥٠] وقال سبحانه: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [لقمان ٣١/ ٢٨].

(١) تفسير الرازي: ٢٨/ ١٨٨.

صفحة رقم 317

ثم هدد المشركين بقوله:
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ أي نحن نعلم علما محيطا بما يقول لك المشركون، من التكذيب فيما جئت به، ومن إنكار البعث والتوحيد، وما أنت عليهم بمسلّط يجبرهم، ويقسرهم على الإيمان، إنما أنت مبلّغ، كقوله تعالى: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ، وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرعد ١٣/ ٤٠] وقوله سبحانه:
فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية ٨٨/ ٢١- ٢٢].
٤- فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ أي فذكّر أيها الرسول بهذا القرآن العظيم، وبلّغ أنت رسالة ربك، فإنما يتذكر به من يخاف اللَّه ويخشى عقابه ووعيده للعصاة بالعذاب، ويرجو وعده وفضله ورحمته، وأما من عداهم فلا تشتغل بهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات تعبر عن التحدي لدعوة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وكيفية مواجهة التحدي والصمود أمامه، أو ما يعبر عنه اليوم الفعل ورد الفعل. ويفهم منها ما يأتي:
١- هدد اللَّه المشركين من كفار قريش وأمثالهم وأنذرهم وحذرهم بعذاب الآخرة الأليم، وبعذاب الدنيا المدمر الذي أوقعه بمن قبلهم من الأمم والشعوب المكذبة رسلها، مع أنهم كانوا أقوى وأصلب وأغنى وأكثر مالا وأرقى مدنية وحضارة من أهل مكة.
فلم يجدوا مهربا ولا مفرا من الإهلاك والتدمير، وكذلك لا يجد أمثالهم ملجأ ولا محيدا من إيقاع العذاب المماثل بهم.
٢- إن في هذا الإنذار والتهديد والتخويف والمذكور في هذه السورة تذكرة وموعظة لكل ذي قلب أي عقل يتدبر به، فكنى بالقلب عن العقل، لأنه

صفحة رقم 318

موضعه في رأي القرطبي وغيره من المتقدمين.
٣- بالرغم من هذا التذكير العام بما سبق، أعاد اللَّه تعالى دليل إمكان البعث مرة أخرى للرد على منكريه، وللرد على اليهود الذين زعموا أن اللَّه تعالى بعد خلق السموات والأرض في ستة أيام استراح في اليوم السابع وهو يوم السبت، فأكذبهم اللَّه تعالى في ذلك.
٤- علّم اللَّه نبيه محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم في مواجهة هذه التحديات لرسالته بأربعة أوامر: هي الصبر على ما يقولون، والاستعانة على ذلك بالتسبيح والصلاة، لتقوية الإرادة والعزيمة بالصبر، وتقوية الروح بالتسبيح والصلاة، ففي ذلك لقاء مع خالق الوجود، وتفويض له، واستلهام منه، واستعانة واستغاثة به وبقدرته الفائقة الباهرة.
والأمر الثالث: الاشتغال بتنزيه اللَّه تعالى مدى الدهر، كقوله سبحانه:
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر ١٥/ ٩٩] أي الموت، والاستماع لما يخبره اللَّه به من أهوال القيامة، وتحذيره أن يكون مثل هؤلاء المعرضين.
والأمر الرابع: التذكير بالقرآن، ومتابعة تبليغ الرسالة ودعوة اللَّه، لمن يخاف عقاب اللَّه ويخشى وعيده. كان قتادة يقول: اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك، ويرجو موعودك يا بارّ يا رحيم. ونحن نقول معه ذلك إلى الأبد.
وتخلل هذه الأوامر الأربعة إخبار بأمور أربعة تساعد على امتثال الأوامر واستهلاك طاقات التحدي واستيعابها وإنهائها: وهي التذكير بسماع صيحة القيامة وصيحة البعث والحشر للجزاء والحساب يوم خروج الناس من القبور، وإعلان حقيقة كون اللَّه هو المحيي والمميت وإليه مصير الخلائق للحساب والجزاء، وإظهار كيفية تصدع الأرض وتشققها لخروج الناس الموتى منها أحياء مسرعين لإجابة نداء المنادي إلى المحشر، علما بأن ذلك الحشر والجمع هيّن يسير على اللَّه،

صفحة رقم 319

وإعلام الكفار وغيرهم بأن علم اللَّه محيط شامل لكل ما يقولون، وما يعملون من تكذيب وشتم.
وهذه الأمور الأربعة في غاية التهويل والتفخيم والتهديد لأهل التحدي ودعاة التحدي وأعوانهم وسلالاتهم وأشياعهم في كل عصر.
انتهى الجزء فلله الحمد والمنة

صفحة رقم 320

[الجزء السابع والعشرون]

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الذاريات
مكيّة، وهي ستون آية.
تسميتها:
سميت (سورة الذاريات) لافتتاحها بالقسم بالذاريات، وهي الرياح التي نذر والتراب وغيره، أي تفرقه وتنقله من مكان إلى آخر. والقسم بها دليل على خطورتها، وأنها من جند الله تعالى.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجهين:
١- ختمت سورة ق بذكر البعث والجزاء والجنة والنار في قوله تعالى:
ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ وافتتحت هذه السورة بالقسم بالرياح والسحب والسفن والملائكة على أن ما وعد به الناس من ذلك صادق، وأن الجزاء واقع.
٢- ذكر في سورة ق إجمالا إهلاك الأمم المكذبة، كقوم نوح، وعاد وثمود، ولوط وشعيب، وتبّع، وفي هذه السورة تفصيل ذلك في قصص إبراهيم ولوط وموسى وهود وصالح ونوح عليهم السلام.
ما اشتملت عليه السورة:
موضوع هذه السورة كسائر السور المكية إثبات أصول العقيدة والإيمان وهي

صفحة رقم 5

التوحيد والرسالة والبعث، ونفي أضدادها وهي الشرك، وتكذيب النبوة، وإنكار المعاد.
وقد افتتحت ببيان دلائل البعث ووقوع المعاد من عجائب الكون، بالقسم على حدوثه حتما بأربعة أمور هي الرياح المحركة للأشياء، والسحب التي تحمل الأمطار، والسفن الجارية بسهولة في البحار والأنهار الكبرى، والملائكة التي تقسّم المقدرات الربانية، وتدبّر أمر الخلق.
ثم ذكرت السورة أحوال كفار مكة وغيرهم الذين كذبوا بالقرآن وبالآخرة وما يلقونه من العذاب الشديد في نار جهنم، كما ذكرت أحوال المؤمنين المتقين وما أعد لهم من جنات ونعيم في اليوم الآخر، ليدرك العاقل الفرق بينهما، ويقترن الترهيب بالترغيب للعظة والعبرة.
وتأكيدا لتلك الغاية أشارت الآيات إلى أدلة القدرة الإلهية والوحدانية في الأرض والسماء والأنفس وضمان الأرزاق للعباد، وأوردت أخبار الأمم السالفة التي كذبت رسلها، فكان مصيرهم الدمار والهلاك، وهم قوم إبراهيم ولوط وموسى، وعاد وثمود، وقوم نوح. وكان في الحديث عن قصص هؤلاء الرسل مع أقوامهم تسلية للنبي ﷺ عما يلقاه من أذى قومه.
ثم عادت إلى التذكير ببناء السماء وفرش الأرض وإيجاد الزوجين لبقاء النوع الإنساني والحيواني، وأعقبت ذلك بالتزهيد في الدنيا، والفرار إلى الله من مخاطرها، والنهي عن الشرك بالله، والإخبار عن تكذيب الرسل باستمرار، وأمر النبي ﷺ بالإعراض عن قومه، وتذكير من تنفعه الذكرى من المؤمنين.
وختمت السورة ببيان الهدف من خلق الجن والإنس وهو معرفة الله تعالى وعبادته والإخلاص له، وأخبرت بكفالة الرزق لكل مخلوق، وأوعدت الكفار والمشركين الظالمي أنفسهم بعذاب شديد يوم القيامة، وهددتهم بعذاب في الدنيا مماثل لعذاب أمثالهم ونظرائهم من المكذبين السابقين.

صفحة رقم 6
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية