آيات من القرآن الكريم

أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ ۚ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ
ﭑﭒﭓﭔ ﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠ ﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋ ﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ ﮙﮚﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ ﮪﮫﮬﮭﮮ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ ﯤﯥﯦﯧ ﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾ

سورة ق
مكّية، وهي ألف وأربعمائة وأربع وتسعون حرفا، وثلاثمائة وسبع وخمسون كلمة، وخمسة وأربعون آية
أخبرنا أبو الحسين محمد بن القاسم بن أحمد الماوردي، قال: أخبرنا أبو الحسين محمد ابن محمد بن سادة الكرابيسي، قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن الحسين، قال: حدّثنا محمد بن يحيى، قال: حدّثنا مسلم بن قتيبة، عن سعيد، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حش، عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة ق، هوّن الله عليه تارات الموت، وسكراته» [٨٤] «١».

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة ق (٥٠) : الآيات ١ الى ١٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤)
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩)
وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤)
أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥)
ق قال ابن عبّاس: هو اسم من أسماء الله سبحانه، أقسم به. قتادة: اسم من أسماء القرآن، القرظي: افتتاح أسماء الله، قدير، وقادر، وقاهر، وقاضي، وقابض. الشعبي: فاتحة السّورة. بريد، وعكرمة، والضحّاك: هو جبل محيط بالأرض من زمردة خضراء، خضرة السماء منه، وعليه كتفا السماء، وما أصاب الناس من زمرد، فهو ما يسقط من الجبل، وهي رواية أبي
(١) تفسير مجمع البيان: ٩/ ٢٣٣.

صفحة رقم 92

الحوراء، عن ابن عبّاس. قال وهب بن منبه: إنّ ذا القرنين أتى على جبل قاف، فرأى حوله جبالا صغارا، فقال له: ما أنت؟ قال: أنا قاف، قال: وما هذه الجبال حولك؟ قال: هي عروقي، وليست مدينة من المدائن إلّا وفيها عرق منها، فإذا أراد الله أن يزلزل تلك الأرض أمرني، فحرّكت عرقي ذلك، فتزلزلت تلك الأرض، فقال له: يا قاف، فأخبرني بشيء من عظمة الله، قال: إنّ شأن ربّنا لعظيم، تقصر عنه الصفات، وتنقضي دونه الأوهام.
قال: فأخبرني بأدنى ما يوصف منها. قال: إنّ ورائي لأرضا مسيرة خمسمائة عام في عرض خمسمائة عام من جبال ثلج يحطم بعضه بعضا، لولا ذاك الثلج لاحترقت من حرّ جهنّم.
قال: زدني، قال: إنّ جبريل عليه السّلام واقف بين يدي الله سبحانه ترعد فرائصه، يخلق الله من كلّ رعدة مائة ألف ملك، وأولئك الملائكة صفوف بين يدي الله سبحانه، منكّسو رؤوسهم، فإذا أذن الله لهم في الكلام، قالوا: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، وهو قوله: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ، وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً «١» يعني لا إله إلّا الله.
وقال الفرّاء: وسمعت من يقول: (ق) : قضي ما هو كائن، وقال أبو بكر الورّاق: معناه قف عند أمرنا، ونهينا، ولا تعدهما. وقيل: معناه قل يا محمّد.
أحمد بن عاصم الأنطاكي، هو قرب الله سبحانه من عباده، بيانه وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ «٢» وقال ابن عطاء: أقسم بقوّة قلب حبيبه محمّد صلّى الله عليه وسلّم حيث حمل الخطاب، ولم يؤثر ذلك فيه لعلوّ حاله. وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ الشريف، الكريم على الله الكبير، الخبير.
واختلف العلماء في جواب هذا القسم، فقال أهل الكوفة: بَلْ عَجِبُوا، وقال الأخفش: جوابه محذوف مجازه ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ لتبعثن، وقال ابن كيسان: جوابه قوله:
ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ الآية، وقيل: قد علمنا، وجوابات القسم سبعة: (إن) الشديدة، كقوله:
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ «٣» و (ما) النفي كقوله: وَالضُّحى... ما وَدَّعَكَ «٤» و (اللام) المفتوحة، كقوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ «٥» و (إن) الخفيفة كقوله سبحانه: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي «٦»، و (لا) كقوله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ «٧»، لا يبعث الله من يموت، وقد

(١) سورة النبأ: ٣٨.
(٢) سورة ق: ١٦.
(٣) سورة الفجر: ١٤.
(٤) سورة الضحى: ٣١.
(٥) سورة الحجر: ٩٢.
(٦) سورة الشعراء: ٩٧.
(٧) سورة الأنعام: ١٠٩.

صفحة رقم 93

كقوله: وَالشَّمْسِ وَضُحاها... قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها «١» وبل كقوله: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ يعرفون حسبه، ونسبه، وصدقه، وأمانته. فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ
غريب.
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً نبعث، فترك ذكر البعث لدلالة الكلام عليه. ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ يقال: رجعته رجعا، فرجع هو رجوعا، قال الله سبحانه: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ «٢» قال الله سبحانه: قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ ما تأكله من عظامهم، وأجسامهم، وقيل:
معناه قد علمنا ما يبلى منهم، وما يبقى لأنّ العصعص لا تأكله الأرض كما
جاء في الحديث:
«كلّ ابن آدم يبلى، إلّا عجب الذنب، منه خلق ومنه يركب»
[٨٥] «٣» وأبدان الأنبياء والشهداء أيضا لا تبلى.
وقال السدي: والموت يقول: قد علمنا من يموت منهم، ومن يبقى. وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ محفوظ من الشياطين، ومن أن يدرس، ويبعثر، وهو اللوح المحفوظ، المكتوب فيه جميع الأشياء المقدّرة.
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ بالقرآن. لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ قال أبو حمزة: سئل ابن عبّاس عن المريج، فقال: هو الشيء المكر، أما سمعت قول الشاعر:

فجالت فالتمست به حشاها فخر كأنه خوط مريج «٤»
الوالبي عنه: أمر مختلف. العوفي عنه: أمر ضلالة. سعيد بن جبير، ومجاهد: ملتبس، قال قتادة: في هذه الآية من نزل الحقّ مرج أمره عليه، والتبس دينه عليه. ابن زيد: مختلط، وقيل: فاسد، وقيل: متغير. وكلّ هذه الأقاويل متقاربة، وأصل المرج الاضطراب، والقلق، يقال: مرج أمر الناس، ومرج الدّين، ومرج الخاتم في إصبعي وخرج إذا قلق من الهزال، قال الشاعر:
مرج الدّين فأعددت له مشرف الحارك محبوك الكتد «٥»
وفي الحديث: «مرجت عهودهم، وأمانيهم».
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ أي شقوق، وفتوق، واحدها فرج، وقال ابن زيد: الفروج الشيء المتفرّق المتبري بعضه من بعض، وقال
(١) سورة الشمس: ٩١.
(٢) سورة التوبة: ٨٣.
(٣) تفسير ابن كثير: ٣/ ٢٥١ ومسند أحمد: ٢/ ٤٩٩. [.....]
(٤) تاج العروس: ٢/ ١٠٠.
(٥) لسان العرب: ١٠/ ٤٠٨ وتفسير القرطبي: ١٧/ ١٥ والحارك: الكاهل، والكتد: مجمع الكتفين.

صفحة رقم 94

الكسائي: ليس فيها تفاوت، ولا اختلاف وَالْأَرْضَ مَدَدْناها بسطناها على وجه الماء وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ لون بَهِيجٍ حسن كريم يبهج به أي يسر. تَبْصِرَةً أي جعلنا ذلك تبصرة، وقال أبو حاتم: نصبت على المصدر. وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ يعني تبصر أو تذكّر إنابتها له، لأنّ من قدر على خلق السماوات، والأرض، والنبات، قدر على بعثهم، ونظير التبصرة من المصادر التكملة، والتفضلة، ومن المضاعف النخلة، والبعرة.
وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ يعني البر، والشعير، وسائر الحبوب التي تحصد وتدّخر وتقتات، وأضاف الحبّ إلى الحصيد، وهما واحد، لاختلاف اللفظين، كما يقال: مسجد الجامع، وربيع الأوّل، وحَقُّ الْيَقِينِ، وحَبْلِ الْوَرِيدِ، ونحوها.
وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة: طوالا، وقال عبد الله بن شداد بن الهاد:
سوقها لاستقامتها في الطول. سعيد بن جبير: مستويات. الحسن والفرّاء: مواقير حوامل، يقال للشاة إذا ولدت: أبسقت، ومحلّها نصب على الحال، والقطع.
أخبرني الحسن، قال: حدّثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي، قال: حدّثنا عبيد بن محمد بن صبح الكناني. قال: حدّثنا هشام بن يونس النهشلي، قال: حدّثنا سفيان بن عيينة، عن زياد بن علاقة، عن قطبة بن مالك. قال: سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقرأ: (والنّخل باصقات) بالصاد «١».
لَها طَلْعٌ تمر، وحمل سمّي بذلك لأنّه يطلع. نَضِيدٌ متراكب متراكم، قد نضد بعضه على بعض. قال بن الأجدع: نخل الجنّة نضيد من أصلها إلى فرعها، وثمرها أمثال [القلال] «٢» والدلاء، وأنهارها تجري في [عبر] «٣» أخدود رِزْقاً أي جعلناه رزقا لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً.
أخبرني ابن منجويه، قال: حدّثنا ابن صقلاب. قال: حدّثنا ابن أبي الخصيب، قال:
حدّثني ابن أبي الجوادي، قال: حدّثنا [عتيق] بن يعقوب، عن إبراهيم بن قدامة، عن أبي عبد الله الأغر، عن أبي هريرة، قال: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا جاءهم المطر، فسالت الميازيب، قال:
«لا محل عليكم العام» [٨٦] «٤» أي الجدب.
كَذلِكَ الْخُرُوجُ من القبور.
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ وهو ملك اليمن، ويسمّى تبّعا لكثرة أتباعه، وكان يعبد النار فأسلم، ودعا

(١) تفسير القرطبي: ١٧/ ٧.
(٢) القلال: خشب ترفع بها الكروم من الأرض، والأخدود: الشقوق المستطيلة في الأرض.
(٣) في تفسير الطبري (١/ ٢٤٦) : غير أخدود.
(٤) المعجم الأوسط: ١/ ٢٥٨.

صفحة رقم 95

قومه إلى الإسلام، وهم من حمير، فكذّبوه، وكان خبره وخبر قومه ما أخبرنا عبد الله بن حامد، قال: أخبرني أبو علي إسماعيل بن سعدان، قال: أخبرني علي بن أحمد، قال: حدّثنا محمد ابن جرير، وأخبرني عقيل أنّ أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير، قال: حدّثنا ابن حميد، قال:
حدّثنا سلمة، قال: حدّثنا محمد بن إسحاق، قال: كان تبّع الآخر، وهو أسعد أبو كرب بن ملكي كرب، حين أقبل من المشرق، جعل طريقه على المدينة، وكان حين مر بها لم يهيج أهلها، وخلّف بين أظهرهم ابنا له، فقتل غيلة، فقدمها، وهو مجمع لإخراجها، واستئصال أهلها، وقطع نخيلها، فجمع له هذا الحيّ من الأنصار، حين سمعوا ذلك من أمره امتنعوا منه، ورئيسهم يومئذ عمرو بن ظلم أخو بني النجار أحد بني عمرو، فخرجوا لقتاله، وكان تبّع نزل بهم قبل ذلك، فقتل رجل منهم، من بني عدي بن النجّار، يقال له: أحمر، رجلا من صحابة تبّع، وجده في عذق له بجدة فضربه بنخلة فقتله.
وقال: إنّما التمرة لمن أبره، ثمّ ألقاه حين قتله في بئر من آبارهم معروفة، يقال لها: ذات تومان، فزاد ذلك تبعا حنقا عليهم، فبينا تبّع على ذلك من حربهم يقاتلهم ويقاتلونه، قال: فيزعم الأنصار أنّهم كانوا يقاتلونه بالنهار، ويقرونه بالليل، فيعجبه ذلك، ويقول: والله إنّ قومنا هؤلاء لكرام، إذ جاءه حبران من أحبار يهود بني قريظة، عالمان راسخان، وكانا ابني عمرو، وكانا أعلم أهل زمانهما، فجاءا تبّعا حين سمعا ما يريد من إهلاك المدينة، وأهلها، فقالا له: أيّها الملك لا تفعل، فإنّك إن أتيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها، ولم يأمن عليك عاجل العقوبة، فقال لهما: ولم ذاك؟ قالا: هي مهاجر نبي يخرج من هذا الحيّ من قريش في آخر الزمان، تكون داره وقراره، فتناهى لقولهما عمّا كان يريد بالمدينة، ورأى أنّ لهما علما، وأعجبه ما سمع منهما، أنّهما دعواه إلى دينهما، فليتبعهما على دينهما، فقال تبع في ذلك:

صفحة رقم 96

نفرا يكون النصر في أعقابهم... أرجو بذاك ثواب ربّ محمّد «١»
فلمّا [......] «٢» تبع إلى دينهما أكرمهما وانصرف عن المدينة، وخرج بهما إلى اليمن ولمّا [دنا من] اليمن ليدخلها حالت حمير بينه وبين ذلك، وقالوا: لا تدخلها علينا، وقد فارقت ديننا، فدعاهم إلى دينه، وقال: إنه دين خير من دينكم.
قالوا: فحاكمنا إلى النار. وكانت باليمن نار في أسفل جبل يقال له: ندا «٣»، يتحاكمون إليها، فيما يختلفون فيه، فتحكم بينهم، تأكل الظالم، ولا تضرّ المظلوم، فلمّا قالوا ذلك لتبّع، قال: أنصفتم، فخرج قومه بأوثانهم، وما يتقرّبون به في دينهم، وخرج الحبران، مصاحفهما في أعناقهما متقلّداهما، حتّى قعدوا للنّار عند مخرجها التي تخرج منه، فخرجت النار إليهم، ولمّا أقبلت نحو حمير، حادوا عنها، وهابوها فدعاهم من حضرهم من الناس، وأمروهم بالصبر لها فصبروا حتّى غشيتهم، فأكلت الأوثان، وما قربوا معها، ومن حمل ذلك من رجال حمير، وخرج الحبران ومصاحفهما في أعناقهما، يتلون التوراة، تعرق جباههما، لم تضرّهما، ونكصت النار حتّى رجعت إلى مخرجها الذي خرجت منه، فأطبقت حمير عند ذلك على دينهما.
فمن هناك كان أصل اليهودية باليمن «٤».
وكان لهم بيت يعظمونه، وينحرون عنده، ويكلّمون منه، إذا كانوا على شركهم، فقال الحبران القرظيان، واسماهما كعب وأسد لتبّع: إنّما هو شيطان [يفنيهم ويلغيهم] «٥»
، فخلّ بيننا وبينه. قال: فشأنكما به. فاستخرجا منه كلبا أسود، فذبحاه، ثمّ هدما ذلك البيت، فبقاياه اليوم باليمن كما ذكر لي.
وروى أبي دريد، عن أبي حاتم، عن الرياشي، قال: كان أبو كرب أسعد الحميري من التبابعة، آمن بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم محمّد صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة، وقال في ذلك شعرا:
شهدت على أحمد أنّه... رسول من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره... لكنت صهرا له وابن عمّ «٦»
كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وجب وَعِيدِ لهم بالعذاب يخوف كفّار مكّة، قال قتادة: دمر الله سبحانه وتعالى قوم تبّع، ولم يدمّره، وكان من ملوك اليمن، فسار بالجيوش، وافتتح البلاد،

(١) تاريخ الطبري: ١/ ٥٣٣ وذكر تمام الأبيات.
(٢) كلمة غير مقروءة.
(٣) كذا في المخطوط.
(٤) تفسير الطبري: ٢٦/ ٢٠٠.
(٥) في تفسير الطبري: يعينهم ويلعب بهم (٢٦/ ٢٠٠).
(٦) تفسير القرطبي: ١٦/ ١٤٥.

صفحة رقم 97
الكشف والبيان عن تفسير القرآن
عرض الكتاب
المؤلف
أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أو الثعالبي
راجعه
نظير الساعدي
الناشر
دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان
سنة النشر
1422 - 2002
الطبعة
الأولى 1422، ه - 2002 م
عدد الأجزاء
10
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية
ما بال نومك مثل نوم الأرمد أرقا كأنك لا تزال تسهد
حنقا على سبطين حلّا يثربا أولى لهم بعقاب يوم مفسد
ولقد هبطنا يثربا وصدورنا تغلي بلابلها بقتل محصد
ولقد حلفت يمين صبر مؤليا قسما لعمرك ليس بالتمردد
أن جئت يثرب لا أغادر وسطها عذقا ولا بسرا بيثرب يخلد
حتى أتاني من قريظة عالم خبر لعمرك في اليهود مسود
قال ازدجر عن قرية محفوظة لنبي مكّة من قريش مهتد
فعفوت عنهم عفو غير مثرب وتركتهم لعقاب يوم سرمد
وتركتهم لله أرجو عفوه يوم الحساب من الجحيم الموقد
ولقد تركت بها له من قومنا نفرا أولي حسب وبأس يحمد