آيات من القرآن الكريم

وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ
ﭑﭒﭓﭔ ﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠ ﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋ ﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ ﮙﮚﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ ﮪﮫﮬﮭﮮ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ

أولا- تشترك السورتان في افتتاح أولها بحرف واحد من حروف الهجاء، والقسم بالقرآن، وقوله: بَلْ والتعجب. كما أن أول السورتين وآخرهما متناسبان، ففي أول ص: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ وفي آخرها: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ، وفي أول ق: وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وفي آخرها:
فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ فافتتح بما اختتم به. أي أن السورتين تبدأ ان بحرف هجاء، وتبتدئان وتنتهيان بالتحدث عن القرآن.
ثانيا- عنيت سورة ص بتقرير الأصل الأول وهو التوحيد، في قوله تعالى: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً وقوله تعالى: أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ، وعنيت سورة ق بتقرير الأصل الثاني وهو الحشر، في قوله تعالى: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً، ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ.
وبدئت وختمت كل سورة بما يناسبها، فكان افتتاح سورة ص في تقرير المبدأ، ثم قال تعالى في آخرها: إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ لحكاية بدء الخلق، لأنه دليل الوحدانية، وكان افتتاح سورة ق لبيان الحشر، ثم قال سبحانه في آخرها: يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً، ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ فاتفق بدء كل سورة مع خاتمتها.
إنكار المشركين البعث والرّد عليهم
[سورة ق (٥٠) : الآيات ١ الى ١١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤)
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩)
وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١)

صفحة رقم 278

الإعراب:
وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ قسم، وجوابه: إما محذوف تقديره: «ليبعثن» أو جوابه قَدْ عَلِمْنا أي لقد علمنا، فحذفت اللام كقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [الشمس ٩١/ ٩] أو يكون ما قبل القسم قام مقام الجواب على رأي من يرى أن معنى ق: قضي الأمر، وهو الذي قام مقام الجواب، ودلّ ق عليه. والمعنى: أقسم بالقرآن أنك جئتهم منذرا بالبعث، فلم يقبلوا، بل عجبوا، وهو إضراب إبطالي.
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً عامل إِذا فعل مقدر دلّ عليه الكلام، تقديره: أنبعث إذا متنا وكنا ترابا، ولا يعمل فيه مِتْنا لأنه محل مضاف إليه، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف.
وَالْأَرْضَ معطوف على موضع إِلَى السَّماءِ.
تَبْصِرَةً وَذِكْرى منصوبان على المفعول لأجله.
وَحَبَّ الْحَصِيدِ تقديره: وحبّ الزرع الحصيد، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
باسِقاتٍ حال.
رِزْقاً لِلْعِبادِ منصوب إما مفعول لأجله، أو منصوب على أنه مصدر.
البلاغة:
فَقالَ الْكافِرُونَ إظهار في موضع مفعول لأجله، أو منصوب على أنه مصدر.
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً استفهام إنكاري لاستبعاد البعث.
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ إضراب عن الكلام السابق لبيان ما هو أشنع من التعجب، وهو التكذيب بآيات اللَّه وبرسوله.

صفحة رقم 279

كَذلِكَ الْخُرُوجُ تشبيه مرسل مجمل، شبه إحياء الموتى بإخراج النبات من الأرض الميتة.
المفردات اللغوية:
ق حرف هجاء، يقرأ هكذا: قاف، بإسكان القاف. للتنبيه على إعجاز القرآن وعلى خطورة ما يتلى بعده من الأحكام والأحداث. قال أبو حيان: ق: حرف هجاء، وقد اختلف المفسرون في مدلوله على أحد عشر قولا متعارضة، لا دليل على صحة شيء منها، فاطّرحت نقلها في كتابي هذا.
وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ قسم من اللَّه تعالى بالقرآن ذي المجد والشرف على سائر الكتب، ولكثرة ما فيه من الخير الدنيوي والأخروي، قال الراغب: المجد: السعة في الكرم. بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب، وهو أن ينذرهم ويخوفهم بالنار بعد بعث رسول من أنفسهم ومن جنسهم. فَقالَ الْكافِرُونَ: هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ أي هذا الإنذار، وهو حكاية لتعجبهم، قال البيضاوي: وهذا إشارة إلى اختيار اللَّه تعالى محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم للرسالة، وإضمار ذكرهم، ثم تسجيل الكفر عليهم بذلك.
أَإِذا مِتْنا أي أنبعث أو نرجع إذا متنا. ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ أي ذلك البعث بعث أو رجوع بعد الموت في غاية البعد عن التصديق والإمكان والعادة. قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ تأكل من أجسادهم بعد موتهم، وهو ردّ لاستبعادهم. وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ هو اللوح المحفوظ، والحافظ لجميع الأشياء المقدرة وتفاصيلها كلها، وهو تأكيد لعلمه بما يحدث.
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ أي بالنبوة الثابتة بالمعجزات وبالقرآن. فَهُمْ في شأن القرآن والنّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ مضطرب، وهو قولهم تارة: إنه شاعر وشعر، وتارة: إنه ساحر وسحر، وتارة: إنه كاهن وكهانة.
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا حين كفروا بالبعث إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ إلى آثار قدرة اللَّه تعالى في خلق العالم. كَيْفَ بَنَيْناها رفعناها بلا عمد. وَزَيَّنَّاها بالكواكب. وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ شقوق وفتوق تعيبها.
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها بسطناها أي بحسب نظر الإنسان الجزئي إلى الموقع الجغرافي الذي يعيش فيه، لا بالنظرة الكلية الشاملة للأرض، فهي كروية، كما أثبت العلم القديم والحديث، وبخاصة بعد غزو الفضاء وإطلاق الصواريخ ورؤية روّاد الفضاء أنها كرة معلّقة في هذا الكون.
رَواسِيَ أي جبالا ثوابت لحفظ الأرض من الاضطراب. زَوْجٍ صنف من النبات.
بَهِيجٍ حسن مبهج.

صفحة رقم 280

تَبْصِرَةً وَذِكْرى تبصيرا منا وتذكيرا. لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ رجّاع إلى طاعة اللَّه وتوّاب، متفكر في بدائع صنع اللَّه تعالى. ماءً مُبارَكاً كثيرا الخير والبركة والمنافع.
جَنَّاتٍ بساتين ذات أشجار وأثمار. وَحَبَّ الْحَصِيدِ أي حبّ الزرع الذي من شأنه أن يحصد كالبرّ والشعير وغيرهما، والْحَصِيدِ المحصود.
باسِقاتٍ طوالا. طَلْعٌ ما ينمو ويصير بلحا، ثم رطبا، ثم تمرا. نَضِيدٌ منضود، متراكب بعضه فوق بعض. رِزْقاً لِلْعِبادِ علة ل فَأَنْبَتْنا، أو مصدر فإن الإنبات رزق. وَأَحْيَيْنا بِهِ بذلك الماء. بَلْدَةً مَيْتاً أرضا جدباء لانماء فيها، والميت: يستوي فيه المذكر والمؤنث. كَذلِكَ الْخُرُوجُ أي من القبور، والمعنى كما أحييت هذه البلدة بالماء، يكون خروجكم أحياء بعد موتكم.
التفسير والبيان:
ق عرفنا أنها حرف هجاء، لتحدي العرب بأن يأتوا بمثل القرآن أو آية منه ما دام القرآن مكونا من حروف لغتهم التي ينطقون بها ويكتبون بها، وهي أيضا للتنبيه إلى أهمية ما يأتي بعدها. وأكثر ما جاء القسم بحرف واحد إذا أتى بعده وصف القرآن، كما أن أغلب القسم بالحروف ذكر بعده القرآن أو الكتاب أو التنزيل.
وذكر الرازي تصنيفا دقيقا للقسم من اللَّه بالحروف الهجائية وغيرها، وهو بإيجاز ما يأتي «١» :
أ- وقع القسم من اللَّه بأمر واحد، مثل وَالْعَصْرِ وَالنَّجْمِ، وبحرف واحد مثل: ص، ون.
ب- ووقع بأمرين، مثل: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ، وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ، وبحرفين مثل: طه، طس، يس، حم.

(١) تفسير الرازي: ٢٨/ ١٤٦ وما بعدها.

صفحة رقم 281

ج- ووقع بثلاثة أمور، مثل: والصافات، فالزاجرات، فالتاليات، وبثلاثة أحرف، مثل: الم، طسم، الر.
د- وبأربعة أمور، مثل: والذاريات، فالحاملات، فالجاريات، فالمقسمات، وفي: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ.. وفي: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ.. ، وبأربعة أحرف، مثل: المص أول الأعراف المر أول الرعد.
هـ- وبخمسة أمور، مثل: وَالطُّورِ.. ، وفي وَالْمُرْسَلاتِ.. ،
وفي: وَالنَّازِعاتِ.. ، وفي وَالْفَجْرِ.. ، وبخمسة أحرف، مثل:
كهيعص، حم عسق. ولم يقسم بأكثر من خمسة أشياء إلا في سورة واحدة وهي: وَالشَّمْسِ وَضُحاها ولم يقسم بأكثر من خمسة أصول، منعا من الاستثقال.
وفي القسم قد يذكر حرف القسم وهي الواو، مثل: وَالطُّورِ، وَالنَّجْمِ، وَالشَّمْسِ وعند القسم بالحروف لم يذكر حرف القسم، فلم يقل وق، حم لأن القسم لما كان بالحروف نفسها كان الحرف مقسما به.
وأقسم اللَّه بالأشياء كالتين والطور، وأقسم بالحروف من غير تركيب.
وأقسم بالحروف في أول ثمانية وعشرين سورة، ولم يوجد القسم بالحروف إلا في أوائل السور، وأقسم في أربع عشرة سورة عدا وَالشَّمْسِ بأشياء عددها عدد الحروف، في أوائل السور وفي أثنائها، مثل كَلَّا وَالْقَمَرِ، وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ، وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ.
ووقع القسم بالحروف في نصفي القرآن، بل في كل سبع، وبالأشياء المعدودة لم يوجد إلا في النصف الأخير والسبع الأخير غير وَالصَّافَّاتِ.
وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ القرآن مقسم به، والمقسم عليه محذوف، أي أقسم

صفحة رقم 282

بالقرآن الكريم كثير الخير والبركة، أو الرفيع القدر والشرف، أنك يا محمد جئتهم منذرا بالبعث. دلّ على جواب القسم المذكور مضمون الكلام بعد القسم وهو إثبات النّبوة، وإثبات المعاد، وهذا كثير في القرآن، مثل: ص. وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ.
بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ، فَقالَ الْكافِرُونَ: هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ أي عجب كفار قريش، لأن جاءهم منذر، هو واحد منهم أي من جنسهم، وهو محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلم يكتفوا بمجرد الشّك والرّد، بل جعلوا ذلك من الأمور العجيبة، فقالوا: كون هذا الرسول المنذر بشرا مثلنا شيء يدعو إلى العجب، وهو كقوله جلّ جلاله: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ [يونس ١٠/ ٢]، أي وليس هذا بعجيب، فإن اللَّه يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس.
وتعجبوا أيضا من البعث فقالوا كما حكى القرآن:
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً؟ ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ أي أنبعث ونرجع أحياء إذا متنا وتفرقت أجزاؤنا في الأرض وبلينا وصرنا ترابا، كيف يمكن الرجوع بعدئذ إلى هذه البنية والتركيب؟ إن ذلك البعث والرجوع بعيد الوقوع عن العقول، لأنه غير ممكن في زعمهم، وغير مألوف عادة.
فردّ اللَّه تعالى عليهم مبيّنا قدرته على البعث وغيره، فقال:
قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ، وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ أي علمنا علما يقينيّا ما تأكل الأرض من أجسادهم حال البلى، ولا يخفى علينا شيء من ذلك، فإنا ندري أين تفرقت الأبدان وأين ذهبت وإلى أي شيء صارت؟ وعندنا كتاب حافظ شامل لعددهم وأسمائهم وتفاصيل الأشياء كلها، وهو اللوح المحفوظ

صفحة رقم 283

الذي حفظه اللَّه من التغيير ومن الشياطين.
أخرج مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة عن النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «كلّ ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذّنب ومنه خلق ومنه يركّب».
والأصح في تقديري أن هذا تقريب لأذهاننا وتمثيل لإحاطة علم اللَّه تعالى بجميع الأشياء والكائنات، وإحصائه كل الوقائع والأعمال، كمن عنده سجل حسابات لكل شاردة وواردة. ولا يمنع ذلك وجود اللوح المحفوظ الذي نؤمن به لوروده في آيات كثيرة أخرى. والآية إشارة إلى جواز البعث وقدرته تعالى عليه.
ثم أبان اللَّه تعالى سبب كفرهم وعنادهم وما هو أشنع من تعجبهم من البعث، وهو تكذيبهم بآيات اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال:
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ، فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ أي إن كفار قريش في الحقيقة كذبوا بالقرآن وبنبوة محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم الثابتة بالمعجزات، إنهم كذبوا (بالقرآن وبالنبوة) بمجرد تبليغهم به من قبل الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، من غير تدبر ولا تفكر ولا إمعان نظر، فهم في أمر دينهم في أمر مختلط مضطرب، يقولون مرة عن القرآن والنّبي: ساحر وسحر، ومرة: شاعر وشعر، ومرة: كاهن وكهانة، فهم في قلق واضطراب ولبس، لا يدرون ماذا يفعلون، كما قال تعالى: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ، يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات ٥١/ ٨- ٩].
ثم أقام اللَّه تعالى الدليل على قدرته العظيمة على البعث وغيره، على حقيقة المبدأ والمعاد، فقال:
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ أي أفلم ينظر هؤلاء الكفار بأم أعينهم، المكذبون بالبعث بعد الموت، المنكرون قدرتنا العظمى، إلى هذه السماء بصفتها العجيبة، فهي مرفوعة بغير أعمدة تعتمد عليها، ومزيّنة بالكواكب المنيرة كالمصابيح، وليس فيها شقوق وفتوق

صفحة رقم 284

وصدوع، كما قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً، ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ، فَارْجِعِ الْبَصَرَ، هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً، وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك ٦٧/ ٣- ٤] أي يرجع كليلا عن أن يرى عيبا أو نقصا. وقوله: فَوْقَهُمْ مزيد توبيخ لهم، ونداء عليهم بغاية الغباوة.
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها، وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ، وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ أي وكذلك، أولم ينظروا إلى الأرض التي بسطناها ووسعناها، وألقينا فيها جبالا ثوابت لئلا تميد بأهلها وتضطرب، وأنبتنا فيها من كل صنف ذي بهجة وحسن منظر، من جميع الزروع والثمار والأشجار والنباتات المختلفة الأنواع، كما قال تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ، لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات ٥١/ ٤٩].
تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ أي فعلنا ذلك لتبصرة العباد وتذكيرهم، فيتبصر بكل ما ذكر ويتأمل العبد المنيب الراجع إلى ربّه وطاعته، ويفكر في بدائع المخلوقات.
ثم أوضح اللَّه تعالى كيفية الإنبات، فقال:
وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً، فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ أي ولينظروا إلى قدرتنا كيف أنزلنا من السحاب ماء المطر الكثير المنافع، المنبت للبساتين الكثيرة الخضراء والأشجار المثمرة، وحبات الزرع الذي يحصد ويقتات كالقمح والشعير ونحوهما.
وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ أي وأنبتنا به أيضا النخيل الطوال الشاهقات، التي لها طلع (وهو أول ما يخرج من ثمر النخل) منضّد متراكم بعضه على بعض، والمراد كثرة الطلع وتراكمه الدال على كثرة التمر.

صفحة رقم 285

وفائدة إعادة هذا الدليل بعد المذكور في الآية السابقة: هو أن قوله:
فَأَنْبَتْنا بِهِ استدلال بالنبات نفسه، أي الأشجار تنمو وتزيد، فكذلك بدن الإنسان بعد الموت ينمو ويزيد، بأن يرجع إليه قوة النشوء والنماء كما يعيدها إلى الأشجار بواسطة ماء السماء.
رِزْقاً لِلْعِبادِ، وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً، كَذلِكَ الْخُرُوجُ أي أنبتنا كل ما ذكر للرزق، أي إن إنبات النباتات والأشجار والنخيل، ليكون أرزاقا وأقواتا للعباد. وأحيينا بالماء بلدة مجدبة، لا ثمار فيها ولا زرع، وإن الخروج من القبور عند البعث كمثل هذا الإحياء الذي أحياء اللَّه به الأرض الميتة، فكما أن هذا مقدور لله، فذلك أيضا مقدور له. وهذا تشبيه قريب الإدراك، ومن واقع الحياة الملحوظة المجاورة للإنسان، وهو أيضا تفخيم لشأن الإنبات، وتهوين لأمر البعث في مقدور القدرة الإلهية.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يأتي:
١- القرآن كثير الخير والمنفعة عظيم المجد والقدر والرفعة، وقد أقسم اللَّه به للدلالة على ما فيه من الخيرات.
٢- لقد تعجب الكفار من قريش من أمرين: إرسال رسول بشر يخوفهم من عذاب اللَّه من جنسهم وهو محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، وإمكان حدوث البعث والمعاد والرجوع إلى الحياة بعد الموت مرة أخرى.
٣- إن اللَّه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وعالم بكل شيء، فهو سبحانه قادر على إحياء الموتى، عالم بما تؤول إليه الأجساد من ذرأت متفتتة وعظام بالية، ولا يشتبه عليه جزء أحد على الآخر، وقادر على جمعها وتأليفها

صفحة رقم 286

وإحيائها مرة أخرى، كما خلق الناس جميعا في مبدأ الأمر من التراب: مِنْها خَلَقْناكُمْ، وَفِيها نُعِيدُكُمْ، وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى [طه ٢٠/ ٥٥].
٤- إن سبب تكذيب الكفار بالبعث وبالمعاد وعنادهم: هو تكذيبهم بالحق الثابت الذي لا شكّ فيه، وهو القرآن الكريم المنزل من عند اللَّه، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والنبوة الثابتة بالمعجزات، فصاروا في أمر دينهم في قلق واضطراب.
٥- الأدلة على قدرة اللَّه تعالى العظيمة لإثبات البعث وإمكانه كثيرة، منها خلق الكون المشتمل على السموات المبنية بغير أعمدة، المزينة بالكواكب المنيرة، الخالية من الشقوق والصدوع، والمتضمن الأرض البديعة الجميلة التي بسطها اللَّه لتصلح للعيش الهنيء المريح، وثبتها بالجبال الراسخات الشامخات، وأنبت فيها النباتات والأشجار ذات الألوان المختلفة والأشكال العجيبة والروائح العطرة والثمار الطيبة اليانعة.
فعل اللَّه ذلك تبصيرا وتنبيها للعباد على قدرته، وتذكيرا لكل عبد راجع إلى اللَّه تعالى، مفكّر في قدرته.
٦- ومن أدلة القدرة الفائقة لله تعالى إنزال المطر الكثير البركة والنفع من السحاب، الذي أنبت به البساتين، والحبوب المحصودة زروعها، المقتاتة على مدار العام، والنخيل الطوال الشاهقات ذات الطلع (وهو أول ما يخرج من ثمر النخل).
٧- وكما أحيا اللَّه هذه الأرض الميتة، فكذلك يخرج الناس أحياء بعد موتهم. وهذا دليل الإبقاء للأشياء المخلوقة بعد ذكر دليل الإحياء، فأبان تعالى أولا أنه يحيي الموتى، ثم بيّن أنه يبقيهم.

صفحة رقم 287
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية