
قوله تعالى: ثُمَّ اتَّقَوْا في هذه التقوى المعادة أربعة أقوال: أحدها: أن المراد خوف الله عزّ وجلّ. والثاني: أنها تقوى الخمر والميسر بعد التحريم. والثالث: أنها الدوام على التقوى. والرابع: أن التقوى الأولى مخاطبة لمن شربها قبل التحريم، والثانية لمن شربها بعد التحريم.
قوله تعالى: وَآمَنُوا في هذا الإِيمان المُعاد قولان: أحدهما: صدّقوا بجميع ما جاء به محمّد صلّى الله عليه وسلّم. والثاني: آمنوا بما يجيء من الناسخ والمنسوخ.
قوله تعالى: ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا في هذه التقوى الثالثة أربعة أقوال: أحدها: اجتنبوا العودَ إِلى الخمر بعد تحريمها، قاله ابن عباس: والثاني: اتقوا ظلم العباد. والثالث: توقوا الشبهات. والرابع:
اتقوا جميع المحرّمات. وفي الإِحسان قولان: أحدهما: أحسنوا العمل بترك شربها بعد التحريم، قاله ابن عباس. والثاني: أحسنوا العمل بعد تحريمها، قاله مقاتل.
[سورة المائدة (٥) : آية ٩٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ.
(٤٧٣) قال المفسّرون: لما كان عام الحديبية، وأقام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالتنعيم، كانت الوحوش والطير تغشاهم في رحالهم، وهم مُحرِمون، فنزلت هذه الآية، ونهوا عنها ابتلاء.
قال الزجاج: اللام في «ليبلونَّكم» لام القسم، ومعناه: لنختبرن طاعتكم من معصيتكم. وفي «من» قولان: أحدهما: أنها للتبعيض، ثم فيه قولان: أحدهما: أنه عنى صيد البرِّ دون صيد البحر.
والثاني: أنه عنى الصيد ما داموا في الإِحرام كأنَّ ذلك بعض الصيد. والثاني: أنها لبيان الجنس، كقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ.
قوله تعالى: تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ قال مجاهد: الذي تناله اليد: الفراخ والبيض، وصغار الصيد، والذي تناله الرماح: كبار الصيد.
قوله تعالى: لِيَعْلَمَ اللَّهُ قال مقاتل: ليرى الله من يخافه بالغيب ولم يَره، فلا يتناول الصيد وهو مُحرم فَمَنِ اعْتَدى فأخذ الصيد عمداً بعد النهي للمُحرِم عن قتل الصيد فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ قال ابن عباس: يوسع بطنه وظهره جلدا، وتسلب ثيابه.
[سورة المائدة (٥) : آية ٩٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥)
وانظر «أحكام القرآن» ٢/ ١٧٠ بتخريجنا.

قوله تعالى: لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ بيّن الله عزّ وجلّ بهذه الآية من أيِّ وجهٍ تقع البلوى، وفي أيِّ زمانٍ، وما على من قتله بعد النهي؟. وفي قوله: وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ثلاثة أقوال:
أحدها: وأنتم محرمون بحج أو عمرة، قاله الأكثرون. والثاني: وأنتم في الحرم، يقال: أحرم:
إِذا دخل في الحرم، وأنجد: إِذا أتى نجداً. والثالث: الجمع بين القولين.
قوله تعالى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فيه قولان: أحدهما: أن يتعمّد قتله ذاكراً لإِحرامه، قاله ابن عباس، وعطاء. والثاني: أن يتعمد قتله ناسياً لإِحرامه، قاله مجاهد. فأما قتله خطأً، ففيه قولان:
أحدهما: أنه كالعمد، قاله عمر، وعثمان، والجمهور. قال الزهري: نزل القرآن بالعمد، وجرت السنّة في الخطأ، يعني: ألحقت المخطئ بالمتعمّد في وجوب الجزاء.
(٤٧٤) وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الضبع صيد وفيه كبش إِذا قتله المحرم».
وهذا عامّ في العامد والمخطئ. قال القاضي أبو يعلى: أفاد تخصيص العمد بالذكر ما ذكر في أثناء الآية من الوعيد، وإِنما يختصّ ذلك بالعامد. والثاني: أنه لا شيء فيه، قاله ابن عباس وابن جبير وطاوس وعطاء وسالم والقاسم وداود. وعن أحمد روايتان، أصحهما الوجوب.
قوله تعالى: فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «فجزاء مثل» مضافة وبخفض «مثل». وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «فجزاءٌ» منون «مثلُ» مرفوع. قال أبو علي: من أضاف، فقوله تعالى: مِنَ النَّعَمِ يكون صفة للجزاء، وإِنما قال: مثل ما قتل، وإِنما عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله، لأنهم يقولون: أنا أُكرِمُ مثلك، يريدون: أنا أُكرِمُك، فالمعنى: جزاء ما قتل. ومَن رفع «المثل»، فالمعنى: فعليه جزاء من النعم مماثل للمقتول، والتقدير: فعليه جزاء. قال ابن قتيبة: النعم: الإِبل، وقد يكون البقر والغنم، والأغلب عليها الإِبل. وقال الزجاج: النعم في اللغة:
الإِبل والبقر والغنم، فان انفردت الابل، قيل لها: نعم، وإِن انفردت البقر والغنم، لم تسم نعماً.
فصل: قال القاضي أبو يعلى: والصيد الذي يجب الجزاء بقتله: ما كان مأكول اللحم، كالغزال، وحمار الوحش، والنعامة، ونحو ذلك، أو كان متولداً من حيوان يؤكل لحمه، كالسِّمع، فإنه متولد من الضبع، والذئب، وما عدا ذلك من السباع كلها، فلا جزاء على قاتلها سواء ابتدأ قتلها، أو عدت عليه فقتلها دفعاً عن نفسه، لأن السبع لا مثل له صورة ولا قيمة، فلم يدخل تحت الآية.
(٤٧٥) ولأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أجاز للمحرم قتل الحيّة، والعقرب، والفويسقة، والغراب، والحدأة، والكلب العقور، والسَّبع العادي. قال: والواجب بقتل الصيد فيما له مثلٌ من الأنعام مثله، وفيما لا مثل
وانظر «تفسير القرطبي» ٢٨٠٩ بتخريجنا.
يشير المصنف للحديث الصحيح الوارد عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور». أخرجه البخاري ١٨٢٩ ومسلم ١١٩٨ وأحمد ٦/ ٢٥٩ وابن حبان ٥٦٣٢ وأبو يعلى ٤٥٠٣ والطحاوي ٢/ ١٦٦. والدارقطني ٢/ ٢٣١ من طرق عن عائشة، رووه بألفاظ متقاربة. وفي رواية مسلم برقم ١١٩٨ ح ٦٨. «الحية والكلب العقور». وفيه «السبع العادي». أخرجه أبو داود ١٨٤٨ والترمذي ٨٣٨ وابن ماجة ٣٠٨٩ والطحاوي ١/ ٣٨٥ وأحمد ٣/ ٣- ٣٢- ٧٩ والبيهقي ٥/ ٢١٠ من طريق يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد في أثناء حديث، وإسناده غير قوي لأجل يزيد بن أبي زياد، فقد ضعفه غير واحد. والألفاظ الواردة في الصحيحين ليس فيها ذكر «السبع العادي». والفويسقة: هي الفأرة.

له قيمته، وهو قول مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة: الواجب فيه القيامة، وحمل المثل على القيامة، وظاهرُ الآية يردُّ ما قال، ولأن الصحابة حملوا الآية على المثل من طريق الصورة، فقال ابن عباس:
المثل: النظير، ففي الظبية شاة، وفي النعامة بعير.
قوله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ يعني بالجزاء، وإِنما ذكر اثنين، لأن الصيد يختلف في نفسه، فافتقر الحكم بالمثل إلى عدلين. وقوله تعالى: مِنْكُمْ يعني: من أهل ملتكم.
قوله تعالى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ قال الزجاج: هو منصوب على الحال، والمعنى: يحكمان به مقدّراً أن يهدى «١». ولفظ قوله «بالغ الكعبة» لفظ معرفة، ومعناه: النكرة. والمعنى: بالغاً الكعبة، إِلا أن التنوين حُذف استخفافاً. قال ابن عباس: إِذا أتى مكّة ذبحه، وتصدّق به.
قوله تعالى: أَوْ كَفَّارَةٌ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: أَوْ كَفَّارَةٌ منوناً طَعامُ رفعاً. وقرأ نافع، وابن عامر: «أو كفّارة» رفعا غير منوّن «طعام مساكين» على الاضافة.
قال أبو علي: من رفع ولم يضف، جعله عطفاً على الكفارة عطف بيان، لأن الطعام هو الكفارة، ولم يضف الكفارة إِلى الطعام، لأن الكفارة لقتل الصيد، لا للطعام، ومن أضاف الكفارة إِلى الطعام، فلأنه لما خيّر المكفِّر بين الهدي، والطعام، والصيام، جازت الإِضافة لذلك، فكأنه قال: كفارةُ طعامٍ، لا كفارة هدي، ولا صيام. والمعنى: أو عليه بدل الجزاء والكفارة، وهي طعامُ مساكين «٢». وهل يعتبر في إِخراج الطعام قيمة النظير، أو قيمة الصيد؟ فيه قولان: أحدهما: قيمة النظير، وبه قال عطاء، والشافعي، وأحمد. والثاني: قيمة الصيد، وبه قال قتادة، وأبو حنيفة، ومالك. وفي قدر الإطعام لكلّ
- وأما جزاء الصيد، فهو لمساكين الحرم لقوله تعالى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ.
فصل: وما وجب نحره بالحرم، وجب تفرقة لحمه به، وبهذا قال الشافعي. وقال مالك وأبو حنيفة: إذا ذبحها في الحرم، جاز تفرقة لحمها في الحل. وانظر «تفسير القرطبي» ٦/ ٤١٣. [.....]
(٢) قال الإمام الموفق رحمه الله ٥/ ٤٥١: فصل: والطعام كالهدي، يختص بمساكين الحرم فيما يختص الهدي به، وقال عطاء والنخعي: ما كان من هدي فبمكة، وما كان من طعام وصيام. فحيث شاء، وهذا يقتضيه مذهب مالك وأبي حنيفة، ولنا قول ابن عباس: الهدي والطعام بمكة، والصوم حيث شاء.
- فصل: ومساكين الحرم من كان فيه من أهل، أو وارد إليه من الحاجّ وغيرهم الذين يجوز دفع الزكاة إليهم، ولو دفع إلى من ظاهره الفقر فبان غنيا خرّج فيه وجهان كالزكاة، وللشافعي فيه قولان، وما جاز تفريقه بغير الحرم لم يجز دفعه إلى فقراء أهل الذمة، وبهذا قال الشافعي وأبو ثور، وجوزه أصحاب الرأي، ولنا أنه كافر، فلم يجز الدفع إليه، كالحربي.