
للآخرة واجترحته، ثم فسر ذلك قوله تعالى: أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ف أَنْ سَخِطَ في موضع رفع بدل من ما، ويحتمل أن يكون التقدير هو أن سخط الله عليهم، وقال الزجاج: «أن» في موضع نصب ب أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
وقوله تعالى: والنَّبِيِّ إن كان المراد الأسلاف فالنبي داود وعيسى، وإن كان المراد معاصري محمد فالنبي محمد عليه السلام، والذين كفروا هم عبدة الأوثان، وخص الكثير منهم بالفسق إذ فيهم قليل قد آمن.
وذهب بعض المفسرين إلى أن قوله تعالى: تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ كلام منقطع من ذكر بني إسرائيل وأنه يعني به المنافقين، وقال مجاهد رحمه الله: وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ آية يعني بها المنافقين.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٨٢ الى ٨٣]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣)
اللام في قوله لَتَجِدَنَّ لام الابتداء، وقال الزجّاج هي لام قسم، ودخلت هذه النون الثقيلة لتفصل بين الحال والاستقبال.
قال القاضي أبو محمد: وهذا خبر مطلق منسحب على الزمن كله وهكذا هو الأمر حتى الآن، وذلك أن اليهود مرنوا على تكذيب الأنبياء وقتلهم ودربوا العتو والمعاصي ومردوا على استشعار اللعنة وضرب الذلة والمسكنة، فهم قد لجت عداواتهم وكثر حسدهم، فهم أشد الناس عداوة للمؤمنين وكذلك المشركون عبدة الأوثان من العرب والنيران من المجوس لأن الإيمان إياهم كفر وعروشهم ثل، وبين أنهم ليسوا على شيء من أول أمرهم فلم يبق لهم بقية فعداوتهم شديدة، والنصارى أهل الكتاب يقضي لهم شرعنا بأن أول أمرهم صحيح لولا أنهم ضلوا، فهم يعتقدون أنهم لم يضلوا وأن هذه الآية لم تنسخ شرعهم، ويعظمون من أهل الإسلام من استشعروا منه صحة دين، ويستهينون من فهموا منه الفسق، فهم إذا حاربوا فإنما حربهم أنفة وكسب لا أن شرعهم يأخذهم بذلك، وإذا سالموا فسلمهم صاف، ويعين على هذا أنهم أمة شريفة الخلق، لهم الوفاء والخلال الأربع التي ذكر عمرو بن العاصي في صحيح مسلم وتأمل أن النبي ﷺ سر حين غلبت الروم فارس، وذلك لكونهم أهل كتاب، ولم يرد عليه السلام أن يستمر ظهور الروم وإنما سر بغلبة أهل كتاب لأهل عبادة النار، وانضاف إلى ذلك أن غلب العدو الأصغر وانكسرت شوكة العدو الأكبر المخوف على الإسلام، واليهود لعنهم الله ليسوا على شيء من هذه الخلق بل شأنهم الخبث والليّ بالألسنة، وفي خلال إحسانك إلى اليهودي يبغيك هو

الغوائل إلا الشاذ القليل منهم ممن عسى أن تخصص بأدب وأمور غير ما علم أولا. ولم يصف الله تعالى النصارى بأنهم أهل ود وإنما وصفهم بأنهم أقرب من اليهود والمشركين، فهو قرب مودة بالنسبة إلى متباعدين، وفي قوله تعالى: الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى إشارة إلى أن المعاصرين لمحمد ﷺ من النصارى ليسوا على حقيقة النصرانية بل كونهم نصارى قول منهم وزعم، وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً معناه ذلك بأن منهم أهل خشية وانقطاع إلى الله وعبادة وإن لم يكونوا على هذي، فهم يميلون إلى أهل العبادة والخشية وليس عند اليهود ولا كان قط أهل ديارات وصوامع وانقطاع عن الدنيا، بل هم معظمون لها متطاولون في البنيان وأمور الدنيا حتى كأنهم لا يؤمنون بالآخرة، فلذلك لا يرى فيهم زاهد، ويقال «قس» بفتح القاف وبكسرها وقسيس وهو اسم أعجمي عرّب، والقس في كلام العرب النميمة وليس من هذا، وأما الرهبان فجمع راهب. وهذه تسمية عربية والرهب الخوف، ومن الشواهد على أن الرهبان جمع قول الشاعر جرير:
رهبان مدين لو رأوك تنزلوا | والعصم من شغف العقول الفادر |
لو عاينت رهبان دير في القلل | تحدّر الرهبان يمشي ونزل |
قال القاضي أبو محمد: وروي أن نعش النجاشي كشف للنبي ﷺ فكان يراه من موضعه بالمدينة وجاء الخبر بعد مدة أن النجاشي دفن في اليوم الذي صلى فيه النبي ﷺ عليه، وذكر السدي: أنهم كانوا اثني عشر سبعة قسيسين وخمسة رهبان. وقال أبو صالح: كانوا سبعة وستين رجلا، وقال سعيد بن جبير: كانوا سبعين عليهم ثياب الصوف وكلهم صاحب صومعة اختارهم النجاشي الخير بالخير، وذكر السدي: أن النجاشي خرج مهاجرا فمات في الطريق.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف لم يذكره أحد من العلماء بالسيرة، وقال قتادة: نزلت هذه الآيات في قوم كانوا مؤمنين ثم آمنوا بمحمد عليه السلام.
قال القاضي أبو محمد: وفرق الطبري بين هذين القولين وهما واحد، وروى سلمان الفارسي عن النبي ﷺ ذلك بأن منهم صديقين ورهبانا.
وقوله تعالى: وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ الآية الضمير في سَمِعُوا ظاهره العموم صفحة رقم 226