آيات من القرآن الكريم

۞ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ
ﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ

بِاللَّهِ وَالنَّبِيِ
أي نبيهم موسى عليه السلام وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ أي: من التوراة مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ إذ الإيمان بالله يمنع من تولّي من يعبد غيره وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن دينهم، أو متمردون في نفاقهم. يعني: أن موالاتهم للمشركين كفى بها دليلا على نفاقهم، وإن إيمانهم ليس بإيمان، لأن تحريم ذلك متأكد في التوراة وفي شرع موسى عليه السلام. فلما فعلوا ذلك ظهر أنه ليس مرادهم تقرير دين موسى عليه السلام، بل مرادهم الرياسة والجاه، فيسعون في تحصيله بأي طريق قدروا عليه، فلهذا وصفهم تعالى بالفسق.
وفي الآية وجه آخر: وهو أن يكون المعنى: ولو كانوا- أي منافقوا أهل الكتاب المدّعون للإيمان- يؤمنون بمحمد ﷺ والقرآن حق الإيمان، ما ارتكبوا ما ارتكبوه، من موالاة الكافرين في الباطن.
والوجه الأول أقوم، والله أعلم.
ثم أكد تعالى ما تقدم من مثالب اليهود بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٨٢]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وإنما عاداهم اليهود لإيمانهم بعيسى ومحمد ﷺ وعاداهم المشركون لتوحيدهم وإقرارهم بنبوة الأنبياء- أشار إليه المهايميّ.
وقال غيره: لشدة إبائهم، وتضاعف كفرهم، وانهماكهم في اتباع الهوى، وركونهم إلى التقليد، وبعدهم عن التحقيق، وتمرنهم على التمرد والاستعصاء على الأنبياء، والاجتراء على تكذيبهم، ومناصبتهم لهم. ولهذا قتلوا كثيرا منهم حتى هموا بقتل رسول الله ﷺ غير مرة، وسموه، وسحروه، وألّبوا عليه أشباههم من المشركين. وفي تقديم (اليهود) على (المشركين)، بعد لزّهما في قرن واحد، إشعار بتقدمهم عليهم في العداوة، كما أن في تقديمهم عليهم في قوله تعالى:
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [البقرة: ٩٦] إيذانا

صفحة رقم 225

بتقدمهم عليهم في الحرص. وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى للين جانبهم وقلة غلّ قلوبهم.
قال ابن كثير: وما ذاك إلا لما في قلوبهم، إذ كانوا على دين المسيح، من الرقة والرأفة، كما قال تعالى: وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً [الحديد: ٢٧]. وفي كتابهم: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر.
وليس القتال مشروعا في ملّتهم. انتهى.
ولأن من مذهب اليهود، أنه يجب إيصال الشر إلى من خالف دينهم بأي طريق كان، من القتل ونهب المال ونحوهما، وهو عند النصارى حرام. فحصل الفرق.
وقد روى ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا: ما خلا يهوديّ بمسلم إلا همّ بقتله.
ولكثرة اهتمام النصارى بالعلم والترهب، مما يدعو إلى قلة البغضاء والحسد، ولين العريكة، كما أشير إليه بقوله تعالى: ذلِكَ أي: كونهم أقرب مودة للمؤمنين بِأَنَّ مِنْهُمْ أي: بسبب أن منهم قِسِّيسِينَ أي علماء وَرُهْباناً أي عبّادا متجردين وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ أي: يتواضعون لوداعتهم ولا يتكبرون كاليهود.
وفي الآية دليل على أن الإقبال على العلم، والإعراض عن الشهوات، والبراءة من الكبر- محمود. وإن كان ذلك من كافر.
لطيفة:
قال الناصر في (الانتصاف) :
إنما قال تعالى: الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ولم يقل (النّصارى) تعريضا بصلابة اليهود في الكفر والامتناع من الامتثال للأمر، لأن اليهود قيل لهم: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ [المائدة: ٢١] فقابلوا ذلك بأن قالوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [المائدة: ٢٤]. والنصارى قالوا: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ [آل عمران: ٥٢]. ومن ثم سمّوا نصارى. وكذلك أيضا ورد أول هذه السورة. وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة: ١٤]. فأسند ذلك إلى قولهم، والإشارة به إلى قولهم: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ لكنه هاهنا ذكر تنبيها على أنهم لم يثبتوا على الميثاق ولا على ما قالوه من أنهم أنصار الله. وفي الآية الثانية ذكر تنبيها على أنهم أقرب حالا من اليهود.
لأنهم لما ورد عليهم الأمر لم يكافحوه بالردّ مكافحة اليهود. بل قالوا: نَحْنُ أَنْصارُ

صفحة رقم 226
محاسن التأويل
عرض الكتاب
المؤلف
محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق القاسمي
تحقيق
محمد باسل عيون السود
الناشر
دار الكتب العلميه - بيروت
سنة النشر
1418
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية