
الشهادة بالقسط والحكم بالعدل ووعد المؤمنين ووعيد الكافرين والتذكير بنعمة الله
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٨ الى ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١)
الإعراب:
اعْدِلُوا هُوَ.. هو: كناية عن العدل وهو المصدر، لدلالة اعْدِلُوا عليه، كقول الشاعر: إذا نهي السفيه جرى عليه، أي إلى السفيه، وقوله تعالى: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ [النور ٢٤/ ٢٨].
والتقوى: مؤنثة، والألف فيها للتأنيث كالألف في سكرى وعطشى.
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ.. وعد: يتعدى إلى مفعولين، يجوز الاقتصار على أحدهما. وهاهنا لم يذكر إلا مفعولا واحدا وهو الَّذِينَ وحذف المفعول الآخر، ثم فسّره بقوله: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ.

البلاغة:
أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ: بسط الأيدي كناية عن البطش والفتك، وكف الأيدي كناية عن المنع والحبس.
المفردات اللغوية:
قَوَّامِينَ قائمين به حق القيام لِلَّهِ بحقوقه شُهَداءَ بِالْقِسْطِ بالعدل وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ ولا يحملنكم ويكسبنكم شَنَآنُ بغض وعداوة قَوْمٍ أي الكفار اعْدِلُوا في العدو والولي هُوَ أي العدل خَبِيرٌ عالم بالأشياء علما دقيقا مضبوطا مؤيدا بالاختبار بِما تَعْمَلُونَ أي فيجازيكم به وَأَجْرٌ عَظِيمٌ هو الجنة الْجَحِيمِ النار العظيمة وهي دار العذاب إِذْ هَمَّ قَوْمٌ قريش أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ يمدوها إليكم بالبطش والفتك بكم فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ حجبهم وعصمكم مما أرادوا بكم وَاتَّقُوا اللَّهَ تجنبوا عقابه وسخطه بترك معاصيه.
سبب النزول:
نزول الآية (٨) :
قيل:
نزلت هذه الآية في يهود بني النضير حين ائتمروا على الفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأوحى الله إليه بذلك، ونجا من كيدهم، فأرسل عليه الصلاة والسلام يأمرهم بالرحيل من جوار المدينة، فامتنعوا وتحصنوا بحصونهم، فخرج عليه الصلاة والسلام إليهم بجمع من أصحابه، وحاصرهم ست ليال، اشتد الأمر فيها عليهم، فسألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يكتفي منهم بالجلاء، وأن يكف عن دمائهم، وأن يكون لهم ما حملت الإبل، وكان البعض من المؤمنين يرى لو يمثل النبي صلّى الله عليه وسلّم بهم، ويكثر من الفتك فيهم، فنزلت الآية لنهيهم عن الإفراط في المعاملة بالتمثيل والتشويه، فقبل النبي عليه الصلاة والسلام من اليهود ما اقترحوه.
وقيل: نزلت في المشركين الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام عام الحديبية، كأنه تعالى أعاد النهي هنا ليخفف من حدة المسلمين ورغبتهم في الفتك

بالمشركين بأي نوع من أنواع الفتك.
نزول الآية (١١) :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ:
أخرج ابن جرير الطبري عن عكرمة ويزيد بن أبي زياد، واللفظ له: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج ومعه أبو بكر وعثمان وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف حتى دخلوا على كعب بن الأشرف ويهود بني النضير يستعينهم في عقل (دية) أصابه، فقالوا: نعم، اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا، فجلس فقال حيي بن أخطب لأصحابه:
لا ترونه أقرب منه الآن، اطرحوا عليه حجارة فاقتلوه، ولا ترون شرا أبدا، فجاءوا إلى رحى عظيمة، ليطرحوها عليه، فأمسك الله عنها أيديهم، حتى جاءه جبريل، فأقامه من ثمة، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ الآية. وأخرج نحوه عن عبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمير بن قتادة ومجاهد وعبد الله بن كثير وأبي مالك.
وأخرج عن قتادة قال: ذكر لنا أن هذه الآية أنزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو ببطن نخل، في الغزوة السابعة (غزوة ذات الرقاع)، فأراد بنو ثعلبة وبنو محارب أن يفتكوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، فأرسلوا إليه الأعرابي- يعني الذي جاءه وهو نائم- في بعض المنازل، فأخذ سلاحه وقال: من يحول بيني وبينك؟ فقال له: الله، فشام السيف (أغمده) ولم يعاقبه.
وأخرج أبو نعيم في دلائل النبوة من طريق الحسن عن جابر بن عبد الله أن رجلا من محارب يقال له غورث بن الحارث قال لقومه: أقتل لكم محمدا، فأقبل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو جالس وسيفه في حجره، فقال: يا محمد، أأنظر إلى سيفك هذا؟ قال: نعم، فأخذه فاستله، وجعل يهزه ويهم به، فيكبته الله تعالى، فقال: يا محمد، أما تخافني؟ قال: لا، قال: أما تخافني والسيف في

يدي؟ قال: لا، يمنعني الله منك، ثم أغمد السيف ورده إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله الآية.
قال القشيري: وقد تنزل الآية في قصة ثم ينزل ذكرها مرة أخرى لادّكار ما سبق.
المناسبة:
لما ذكّر الله تعالى المؤمنين في الآية السابقة بما يوجب عليهم الانقياد لأوامره ونواهيه، طالبهم هنا بالانقياد لتكاليفه المتعلقة به أو بعباده.
التفسير والبيان:
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالحق لله عز وجل، لا لأجل الناس والسمعة، أي بالإخلاص لله في كل ما تعملون من أمر دينكم ودنياكم.
شهداء بالحق والعدل بلا محاباة ولا جور، سواء للمشهود له أو عليه، أي أدوا الشهادة بالعدل لأن العدل هو ميزان الحقوق، إذ متى وقع الجور في أمة انتشرت المفاسد فيما بينها، كما قال تعالى: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ [النساء ٤/ ١٣٥] والشهادة: الإخبار بالواقعة وإظهار الحق أمام الحاكم ليحكم به.
ولا يحملنكم بغض قوم وعداوتهم على ترك العدل فيهم، بل استعملوا العدل في معاملتكم مع كل أحد، صديقا كان أو عدوا.
وعدلكم أقرب للتقوى من تركه، أي العدل في معاملة الأعداء أقرب إلى اتقاء المعاصي على الوجه العام. وقوله: أَقْرَبُ لِلتَّقْوى من باب استعمال أفعل التفضيل في المحل الذي ليس في الجانب الآخر منه شيء، أي ليس للمفاضلة بين شيئين، فهو ليس على بابه، كما في قوله تعالى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان ٢٥/ ٢٤].

واتقوا الله، أي اتخذوا وقاية من عذابه، في جميع أعمالكم، فإن الله خبير بما تعملون، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، وسيجزيكم على ما علم من أفعالكم التي عملتموها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
ثم أوضح جزاء الفريقين: الفريق الذين آمنوا وعملوا الصالحات التي يصلح بها أمر الناس في أنفسهم ومع غيرهم، ومن أهمها العدل، وجزاؤهم مغفرة لذنوبهم أي ستر لها، وأجر عظيم وهو الجنة ومضاعفة الثواب على الإيمان والعمل الصالح، فضلا من الله ورحمة.
والفريق المقابل الآخر وهو الذين كفروا بالله ورسله، سواء كفروا بالجميع أو بالبعض، وكذبوا بآيات الله الكونية التي أقامها الله في الأنفس والأكوان للدلالة على وحدانيته وكماله وقدرته، وآياته المنزلة على رسله فيما يبلغون عنه، وجزاؤهم أنهم أصحاب النار العظيمة الملازمون لها، لفساد أنفسهم وسوء أعمالهم، وهذا من عدل الله تعالى وحكمته وحكمه الذي لا جور فيه.
ثم ذكّر الله تعالى المؤمنين بنعمة الله عليهم، بدفع الشر والمكروه عن نبيهم، ورد كيد الأعداء عنهم، على كثرتهم وقوتهم، وضعف المسلمين وقلتهم، بعد أن هموا وعزموا على البطش بكم، ولكن الله أيد رسوله ونصر دينه وأتم نوره ولو كره الكافرون.
وحادثة المحاربي (من قبيلة محارب) المتقدمة مثيرة للانتباه والاهتمام، وقد رويت بروايات كثيرة عدا ما ذكر في سبب النزول. وهناك رواية أخرى يحسن ذكرها،
روى الحاكم عن جابر قال: «قام على رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: من يمنعك؟ قال: الله، فوقع السيف من يده، فأخذه النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: من يمنعك؟ قال: كن خير آخذ، قال: تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، قال: أعاهدك ألا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلّى سبيله، فجاء إلى

قومه، وقال: جئتكم من عند خير الناس».
وقد حدثت حادثة الأعرابي هذا في غزوة ذات الرقاع، واسم الرجل: غورث بن الحارث.
والتذكير بنعم الله التي لا تعد ولا تحصى يستتبع التزام التقوى، لذا أمر تعالى بالتقوى وبالتوكل على الله، فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي اتخذوا من تقوى الله عدة تنفعكم وتحميكم من عذاب الله، وتوكلوا على الله حق التوكل، فمن توكل على الله- بعد اتخاذ الأسباب- كفاه الله ما أهمه وحفظه من شر الناس وعصمه.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- وجوب القيام لله تعالى بإخلاص بكل التكاليف التي كلفنا بها.
٢- نفاذ حكم العدو على عدوه في الله تعالى، ونفاذ شهادته عليه لأنه تعالى أمر بقوله: كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ بالعدل وإن أبغضه، ولو كان حكمه عليه وشهادته لا تجوز فيه مع البغض له، لما كان لأمره بالعدل فيه وجه.
٣- إن كفر الكافر لا يمنع من العدل في معاملته، وفي الآية الآمرة بالعدل والتقوى دلالة أيضا على أن يقتصر في المحاربة على المستحق للقتال، وأن المثلة بالأعداء غير جائزة وإن قتلوا نساءنا وأطفالنا وآذونا بذلك، فليس لنا أن نقتلهم بمثلة قصدا لإيقاع الغم والحزن بهم.
٤- وجوب أداء الشهادات على وجهها من غير محاباة ولا ظلم. فهذه الآية وآية النساء المتقدمة [٤/ ١٣٥] تعالج داء خطيرا من أكبر الكبائر وهو كتمان الشهادة وشهادة الزور.
٥- وجوب العدل في معاملة الناس قاطبة، سواء كانوا أعداء أو أصدقاء لقوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ.. الآية.