
الْجَحِيمِ (١٠) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) }
شرح الكلمات:
﴿قَوَّامِينَ لِلَّهِ﴾ : جمع قوام، وهو كثير القيام لله تعالى بحقوقه وما وجب له تعالى، وبحقوق الغير أيضاً لا يفرط في شيء من ذلك.
﴿شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ﴾ : جمع شهيد بمعنى: شاهد، والقسط: العدل.
﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ : أي: لا يحملنكم.
﴿شَنَآنُ﴾ : بغض وعداوة.
العدل: خلاف الجور، وهو المساواة بلا حيف ولا جور.
﴿هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ : أي: العدل أقرب للتقوى من الجور.
﴿هَمَّ قَوْمٌ﴾ : أرادوا وعزموا على إنفاذ إرادتهم والقوم هم يهود بني النضير.
﴿يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ﴾ : أي: ليقتلوا نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
﴿فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ﴾ : لم يمكنهم مما أرادوه من قتل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في توجيه المؤمنين وإرشادهم إلى ما يكملهم ويسعدهم١، ففي الآية (٨) أمر الله تعالى المؤمنين أن يكونوا قوامين لله تعالى بسائر حقوقه عليهم من الطاعات، وأن يكونوا شهداء بالعدل لا يحيفون ولا يجورون في شيء سواه كان المشهد عليه ولياً أو عدواً، ونهاهم أن يحملهم بغض قوم أو عداوتهم على ترك العدل وقد أمروا به، ثم أمرهم بالعدل وأعلمهم أن أهل العدل هم أقرب الناس إلى التقوى٢، لأن من كانت ملكة العدل
٢ المراد من التقوى: التقوى الكاملة التامة التي هي ملاك الأمر، إذ بها تتحقق لهم ولاية ربهم ما داموا مؤمنين متقين.

صفة له كان أقدر على أداء الحقوق والواجبات، وعلى ترك الظلم واجتناب المنهيات، ثم أمرهم بالتقوى مؤكداً شأنها؛ لأنها ملاك الأمر، وأعلمهم بأنه خبير بما يعملون لتزداد ملكة مراقبة الله تعالى في نفوسهم فيفوزون بالعدل والتقوى معاً، هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٨) أما الآية (٩) فقد تضمنت بشرى سارة١ لهم، وهي أن ربهم قد وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالمغفرة لذنوبهم والأجر العظيم لهم وهو الجنة، وقلت بشرى سارة لهم، لأنهم هم أهل الإيمان وصالح الأعمال رضي الله عنهم وأرضاهم، أما الآية الثالثة (١٠) فقد تضمنت وعيداً شديداً للكافرين المكذبين بآيات الله وحججه التي أرسل بها رسله وأيدهم بها، ولازم لكذبهم وكفرهم خبث أرواحهم، ولذا فهم لا يلائمهم إلا عذاب النار فكانوا بذلك أصحاب الجحيم٢ الذين لا يفارقونها أبداً، وأما الآية الرابعة (١١) فقد ذكرهم تعالى بنعمة عظيمة من نعمه، هي نجاة نبيهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قتل أعدائه وأعدائهم وهم اليهود إذ ورد في سبب نزول هذه الآية ما خلاصته:
أن أولياء العامريين الذين قتلا خطأ من قبل مسلم حيث ظنهما كافرين فقتلهما، جاءوا يطالبون بدية قتيلهم، فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه الخلفاء الراشدون الأربعة وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين إلى بني النضير يطالبونهم بتحمل شيء من هذه الدية بموجب عقد المعاهدة، إذ من جملة موادها: تحمل أحد الطرفين معونة الطرف الآخر في مثل هذه الحالة المالية، فلما وصلوا إلى ديارهم شرق المدينة استقبلوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحفاوة والتكريم وأجلسوه مكاناً لائقاً تحت جدار منزل من منازلهم وأفهموه أنهم يعدون الطعام والنقود، وقد خلوا ببعضهم وتأمروا على قتله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالوا فرصة متاحة فلا نفوتها أبداً وأمروا أحدهم أن يطلق من سطح المنزل حجر رحى كبيرة على رأس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتقتله، وما زالوا يدبرون مكيدتهم حتى أوحى الله إلى رسوله بالمؤامرة الدنيئة، فقام صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتبعه أصحابه ودخلوا إلى المدينة وفاتت فرصة اليهود واستوجبوا بذلك اللعن وإلغاء المعاهدة وإجلائهم من المدينة، وقصتهم في سورة الحشر، والمقصود من هذا بيان المراد من قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
٢ في الآية قصر إدعائي، وهو قوله تعالى: ﴿أولئك أصْحَابْ الْجَحيِم﴾، أي: لا غيرهم؛ كأنهم المتأهلون للعذاب والخلود فيه دون غيرهم، وذلك لعظم جرمهم بالكفر والتكذيب.

آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا١ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} أي: بالقتل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ﴾ حيث أوحى إلى رسوله ما دبره اليهود فانصرف وتركهم لم يظفروا بما أرادوا، وهو معنى: ﴿فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ٢ عَنْكُمْ﴾.
ثم أمر الله تعالى المؤمنين بتقواه، إذ هي سلم كمالهم وسبيل نجاحهم، وهي عبارة عن امتثال أمره وأمر رسوله واجتناب نهيهما وأرشدهم إلى التوكل عليه تعالى في جميع أمورهم بقوله: ﴿وَعَلَى٣ اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب القيام بحق الله تعالى على العبد، وهو ذكره وشكره بطاعته.
٢- وجوب العدل في الحكم والقول والشهادة والفعل ومع الولي والعدو سواء.
٣- تأكيد الأمر بتقوى الله عز وجل.
٤- الترغيب والترهيب بذكر الوعد والوعيد كما في الآيتين (٩) و (١٠).
٥- وجوب ذكر النعمة حتى يؤدى شكرها.
٦- وجوب التوكل على الله تعالى والمضي في أداء ما أوجب الله تعالى.
{وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ
٢ كف اليد: كناية عن عدم القتل والقتال. وبسطها: كناية عن السوء والأذى الحاصل بها.
٣ في الآية قصر حقيقي، وهو أن التوكل لا يكون إلا على الله، إذ لا كافي إلا هو سبحانه وتعالى.