
قال الزمخشريّ: ولم يقل (ليمسّنهم) لأن في إقامة الظاهر مقام المضمر فائدة.
وهي تكرير الشهادة عليهم بالكفر في قوله لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا وفي البيان فائدة أخرى وهي الإعلام في تفسير الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ أنهم بمكان من الكفر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٧٤]
أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤)
أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ بالتوحيد والتنزيه عمّا نسبوه إليه من الاتحاد والحلول، فيرجعوا عن التمسك بالمتشابهات إلى القطعيات، فالاستفهام لإنكار الواقع واستبعاده، فيه تعجيب من إصرارهم. ومدار الإنكار والتعجيب عدم الانتهاء والتوبة معا. أو معناه: ألا يتوبون- بعد هذه الشهادة المكررة عليهم بالكفر وهذا الوعيد الشديد- مما هم عليه. فمدارهما عدم التوبة عقب تحقق ما يوجبها من سماع تلك القوارع الهائلة.
قال ابن كثير: هذا من كرمه تعالى وجوده ولطفه ورحمته بخلقه. مع هذا الذنب العظيم، وهذا الافتراء والكذب والإفك، يدعوهم إلى التوبة والمغفرة. فكل من تاب إليه تاب عليه. كما قال وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيغفر لهؤلاء إن تابوا، ولغيرهم.
قال أبو السعود: الجملة حالية من فاعل يَسْتَغْفِرُونَهُ مؤكدة للإنكار والتعجيب من إصرارهم على الكفر وعدم مسارعتهم إلى الاستغفار. أي: والحال أنه تعالى مبالغ في المغفرة. فيغفر لهم عند استغفارهم، ويمنحهم من فضله.
ثم أشار تعالى إلى بطلان التمسك بمعجزات عيسى وكرامات أمّه على إلهيتهما. بأنّ غايتهما الدلالة على نبوّته وولايتها، استنزالا لهم عن الإصرار على ما تقوّلوا عليهما، وإرشادا لهم إلى التوبة والاستغفار فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٧٥]
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥)
مَا الْمَسِيحُ أي: المعلوم حدوثه من كونه ابْنُ مَرْيَمَ بالخوارق الظاهرة على يديه إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ أي: مضت مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أولو الخوارق الباهرة.

فله أسوة أمثاله. كما قال تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ [الزخرف: ٥٩].
أي: ما هو إلّا رسول من جنس الرسل الذين خلوا قبله، جاء بآيات من الله كما أتوا بأمثالها. إن أبرأ الله الأبرص وأحيا الموتى على يده، فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى وفلق بها البحر على يد موسى. وهو أعجب. وإن خلقه من غير أب، فقد خلق آدم من غير أب ولا أم. وهو أغرب منه، وفي الآية وجه آخر: أي مضت من قبله الرسل، فهو يمضي مثلهم. فالجملة- على كل- منبئة عن اتصافه بما ينافي الألوهية وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ أي: مبالغة في الصدق. ووقع اسم الصديقة عليها لقوله تعالى: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ. والوصف بذلك مشعر بالإغراق في العبودية والقيام بمراسمها. فمن أين لهم أن يصفوها بما يباين وصفها؟
تنبيه:
قال ابن كثير:
دلت الآية على أن مريم ليست بنبيّه. كما زعمه ابن حزم وغيره- ممن ذهب إلى نبوّة سارة أم إسحاق ونبوّة أم موسى ونبوّة أم عيسى- استدلالا منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم وبقوله: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ. وهذا معنى النبوّة. والذي عليه الجمهور أنّ الله لم يبعث نبيا إلّا من الرجال. قال الله تعالى:
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى [يوسف: ١٠٩].
وقد حكى الشيخ أبو الحسن الأشعريّ، رحمه الله، الإجماع على ذلك. انتهى.
فائدة (في حقيقة الصديق والصدق) :
قال العارف القاشانيّ قدس الله سرّه في (لطائف الأعلام) :
الصدّيق الكثير الصدق. كما يقال: سكّيت وصرّيع إذا كثر منه ذلك.
والصديق من الناس من كان كاملا في تصديقه لما جاءت به رسل الله علما وعملا، قولا وفعلا وليس يعلو على مقام الصديقية إلّا مقام النبوّة. بحيث إن من تخطى مقام الصديقية حصل في مقام النبوّة. قال الله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
[مريم: ٥٨]. الآية. فلم يجعل تعالى بين مرتبتي النبوة والصديقية مرتبة أخرى تتخللهما. ثم بيّن قدس سره صدق الأقوال، وصدق الأفعال، وصدق الأحوال.
(فالأول) هو موافقة الضمير للنطق. قال الجنيد: حقيقة الصدق أن تصدق في مواطن لا ينجيك فيه إلّا الكذب. و (صدق الأفعال) هو الوفاء لله بالعمل من غير مداهنة. قال المحاسبيّ: الصادق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب

الخلق من أجل إصلاح قلبه. ولا يحب اطّلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله. ولا يكره أن يطلع الناس على السيء من حاله. لأن كراهته لذلك دليل على أنه يحب الزيادة عندهم. وليس هذا من أخلاق الصدّيقين. و (صدق الأحوال) اجتماع الهم على الحق، بحيث لا يختلج في القلب تفرقة عن الحق بوجه.
وقوله تعالى: كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ استئناف مبين لما قبله من أنهما كسائر البشر في الافتقار إلى الغذاء. وفيه تبعيد عما نسب إليهما.
قال الزمخشريّ: لأن من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام، وما يتبعه من الهضم والنفض، لم يكن إلا جسما مركبا من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وأمزجة، مع شهوة وقرم وغير ذلك... مما يدل على أنه مصنوع مؤلّف مدبّر كغيره من الأجسام.
لطيفة:
إنما أخر في الاستدلال على بطلان مذهب النصارى، حاجتهما للطعام عما قبله من مساواتهما للرسل عليهم السلام، ترقيا في باب الاستدلال من الجليّ للأجلى، على ما هو القاعدة في سوق البراهين لإلزام الخصم، حتى إذا لم يسلّم في الجليّ لغموضه عليه، يورد له الأجلى تعريضا بغباوته. فيضطر للتسليم، إن لم يكن معاندا ولا مكابرا.
هذا ما ظهر لي في سر التقديم والتأخير.
وأما قول الخفاجيّ- ملخصا كلام البيضاويّ- في سر ذلك: أنه تعالى بين أولا أقصى مراتب كمالهما، وأنه لا يقتضي الألوهية، وقدمه لئلا يواجههما بذكر نقائص البشرية الموجبة لبطلان ما ادعوا فيهما، على حد قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ. حيث قدم العفو على المعاتبة له ﷺ انتهى- فبعيد.
وقياسه على الآية قياس مع الفارق لاختلاف المقامين. فالأظهر ما ذكرناه، والله أعلم بأسرار كتابه.
انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ أي: على توحيد الله، وبطلان الاتحاد وإلهية عيسى وأمه، وبطلان شبهاتهم! ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي: كيف يصرفون عن التأمل فيها إلى الإصرار على التمسك بالشبهات الظاهرة البطلان.!
قال أبو السعود: وتكرير الأمر بالنظر، للمبالغة في التعجيب من حال الذين