آيات من القرآن الكريم

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ۖ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۖ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ
ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ ﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥ ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ ﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾ ﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓ

الكافرين من الغواية والخذلان. وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ فلا يوجد أحد إلّا وبينه وبين صاحبه بغض إلى أن يتوارثوا بطنا بعد بطن. ولو أن أهل العلوم الظاهرة آمنوا بالعلوم الباطنة واتقوا الإنكار والاعتراض، ولو أنهم عملوا بمتفقات الكتب المنزلة ومستحسناتها لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ ورزقوا من الواردات الروحانية وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ إلى أعلى مقاماتهم. من العلماء الظاهريين أمة مقتصدة إن لم تكن سابقة بالخيرات، والمقتصد هو العالم المتقي والمريد الصادق دون السابق وهو الواصل الكامل العالم الرباني. بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يندرج تحته الوحي والإلهامات والمنامات والوقائع والواردات والمشاهدات والكشوف والأنوار والأسرار والأخلاق والمواهب والحقائق ومعاني النبوّة والرسالة. فالرسول إن لم يبلغ بعض هذه الحقائق إلى العباد لم يمكنهم الوصول إلى الله فلا يحصل مقصود ما أرسل به فلم يبلغ رسالته إلّا أن للتبليغ مراتب كما أنزل إليه. فتبليغ بالعبارة وتبليغ بالإشارة وتبليغ بالتأديب وتبليغ بالتعليم وتبليغ بالتزكية وتبليغ بالتحلية وتبليغ بالهمة وتبليغ بجذبات الولاية وتبليغ بقوة النبوة والرسالة وتبليغ بالشفاعة. وللخلق أيضا مراتب في قبول الدعوة بحسب الاستعدادات المختلفة أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها [الرعد: ١٧] وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ بأوصاف لاهوتيته عن أوصاف ناسوتيتك لتتصرف في الخلق بقوة اللاهوتية فتوصلهم إلى الله ولا يتصرفون فيك فيقطعوك عن الله. يا أرباب العلوم الظاهرة لستم على شيء من حقيقة الدين حتى تزينوا ظاهركم وباطنكم بالأعمال والأحوال الواردة في الكتب الإلهية وذلك بمقدمتين وأربع نتائج. فالمقدمتان: الجذبة الإلهية ونتيجتها الإعراض عن الدنيا والتوجه إلى المولى، ثم تربية الشيخ ونتيجتها تزكية النفس عن الأخلاق الذميمة وتحلية القلب بالأخلاق الفاضلة والله حسبي ونعم الوكيل.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧٠ الى ٨١]
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤)
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩)
تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١)

- في كتاب تفسير سورة المائدة باب ٣. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٣. أحمد في مسنده (٢/ ٢٤٢، ٣١٢).

صفحة رقم 619

القراءات:
أَلَّا تَكُونَ بالرفع: أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم وحمزة وعلي وخلف غير سهل وحفص وأبي بكر وحماد. الباقون بالنصب.
الوقوف:
رُسُلًا ط أَنْفُسُهُمْ لا لأن عامل كُلَّما قوله كَذَّبُوا يَقْتُلُونَ هـ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ط بِما يَعْمَلُونَ هـ ابْنُ مَرْيَمَ ط وَرَبَّكُمْ ط النَّارُ ط مِنْ أَنْصارٍ هـ ثَلاثَةٍ لا لئلا يوهم أن ما بعده من قول الكفار واحِدٌ ط أَلِيمٌ هـ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ ط والوصل أيضا حسن بناء على أن الواو للحال أي هلا يستغفرونه وهو غفور رَحِيمٌ هـ رَسُولٌ ج لاحتمال ما بعده الصفة والاستئناف الرُّسُلُ ط لأن الواو للاستئناف لا للعطف صِدِّيقَةٌ ط لأن ما بعده لا يصلح للصفة لأن الضمير في كانا مثنى الطَّعامَ ط يُؤْفَكُونَ هـ وَلا نَفْعاً ط والوصل يحسن على أن الواو للحال أي يعبدون ما لا ينفع ولا يضر والحال أن الله يسمع دعاء المضطر ويعلم رجاء المعتر الْعَلِيمُ هـ السَّبِيلِ هـ ابْنِ مَرْيَمَ ط يَعْتَدُونَ هـ فَعَلُوهُ ط يَفْعَلُونَ هـ كَفَرُوا ط خالِدُونَ هـ فاسِقُونَ هـ أَشْرَكُوا ج لطول الكلام والفصل بين الوصفين المتضادين نَصارى ط لا يَسْتَكْبِرُونَ هـ مِنَ الْحَقِّ ج لاحتمال ما يتلوه الحال والاستئناف الشَّاهِدِينَ هـ مِنَ الْحَقِّ لا لأن الواو بعده للحال.
الصَّالِحِينَ هـ خالِدِينَ فِيها ط الْمُحْسِنِينَ هـ الْجَحِيمِ هـ.

صفحة رقم 620

التفسير:
افتتح الله تعالى السورة بقوله أَوْفُوا بِالْعُقُودِ وانجر الكلام إلى ما انجرّ والآن عاد الى ما بدأ به والمقصود بيان عتوّ بني إسرائيل وشدة تمردهم أي أخذنا ميثاقهم بخلق الدلائل وخلق العقل الهادي إلى كيفية الاستدلال وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا لتعريف الشرائع والأحكام. قال في الكشاف كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ إلخ جملة شرطية وقعت صفة ل رُسُلًا والراجع الى الموصوف محذوف أي رسول منهم. وأقول: الأصوب جعلها جملة مستأنفة جوابا لسائل يسأل كيف فعلوا برسلهم؟ ولهذا كان الوقف على رُسُلًا مطلقا، أما جواب الشرط فاختار في الكشاف أنه محذوف لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين ولأنه لا يحسن أن يقال: إن أكرمت أخي أخاك أكرمت فالتقدير: كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه أو عادوه وقوله فَرِيقاً كَذَّبُوا جواب قائل: كيف فعلوا؟ وأقول أما أن التركيب المذكور غير مستحسن فعين النزاع، وأما أن الرسول الواحد لا يكون فريقين فتغليط لأن قوله كُلَّما يدل على كثرة مجيء الرسل فلهذا صح جعلهم فريقين ومعنى بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ بما يضاد شهواتهم لرغبتهم عن التكاليف، وفائدة تقديم المفعول وإيراد يَقْتُلُونَ مضارعا ذكرناها في سورة البقرة وزعم في التفسير الكبير أنه ذكر التكذيب بلفظ الماضي لأنه إشارة إلى معاملتهم مع موسى عليه السلام في البتة وتمردهم عن قبول قوله وقد انقضى من ذلك الزمان أدوار كثيرة، وذكر القتل بلفظ المستقبل لأنه رمز إلى ما فعلوا بزكريا ويحيى وعيسى على زعمهم وإن ذلك الزمان قريب فكان كالحاضر. وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال علماء الأدب: الأفعال على ثلاثة أضرب: فعل يدل على ثبات الشيء كالعلم والتيقن فيقع بعده أن المشددة الدالة على ثبات الشيء أيضا لتأكيد مقتضاه كقوله وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النور: ٢٥] فإن خففت ودخلت على الفعل لم يجز إلا أن يكون مع فعله «قد» أو «سوف» أو «السين» أو حرف نفي ليكون كالعوض من إحدى النونين وقيل: من حذف ضمير الشأن مثل عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ [المزمل: ٢٠] وفعل يدل على خلاف الثبات والاستقرار نحو «أطمع» و «أخاف» و «أرجو» فلا يجيء معه إلا الخفيفة الناصبة للفعل كقوله وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي [الشعراء: ٨٢] وفعل يحتمل المعنيين فيجوز فيه كلا الوجهين كقوله وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ قرىء بالنصب على أن المصدرية، وكون الحسبان بمعنى الظن وبالرفع على أن المخففة أي أنه لا تكون فتنة فخففت أن وحذف ضمير الشأن، ونزل حسبانهم لقوته في صدورهم منزلة العلم، وما يشتمل عليه صلة «أن» و «أنّ» من المسند والمسند إليه سد مسد المفعولين و «كان» تامة. والمعنى: وحسب بنو إسرائيل أنه لا تقع فتنة وهي محصورة في عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. وعذاب الدنيا أقسام منها: القحط

صفحة رقم 621

ومنها الوباء ومنها القتل ومنها العداوة والبغضاء فيما بينهم ومنها الإدبار والنحوسة وكل ذلك قد وقع بهم وقد فسرت الفتنة بكل ذلك، وحسبانهم أن لا تقع فتنة يحتمل وجهين:
الأول أنهم كانوا يعتقدون أن لا نسخ لشريعة موسى، وأن كل رسول جاء بعده يجب تكذيبه، والثاني أنهم اعتقدوا كونهم مخطئين في التكذيب والقتل إلا أنهم كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه وأن نبوّة إسلافهم تدفع العقاب عنهم. ثم إن الآية تدل على أن عماهم عن الدين وصممهم عن الحق حصل مرتين، فقال بعض المفسرين: إنهم عموا وصموا في زمان زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام ثم تاب الله على بعضهم حيث وفقهم للإيمان به ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ في زمان محمد ﷺ فأنكروا نبوّته إلا بعضهم كعبد الله بن سلام وأصحابه. وقوله كَثِيرٌ مِنْهُمْ بدل عن الضمير كقولك: رأيت القوم أكثرهم، وقيل: إنه على لغة من يقول «أكلوني البراغيث» وقيل: خبر مبتدأ محذوف أي أولئك كثير منهم، وقال بعضهم: عَمُوا وَصَمُّوا حين عبدوا العجل ثم تابوا منه فتاب الله عليهم ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ بالتعنت وهو طلب رؤية الله جهرة. وقال القفال: إنه يجوز أن يكون إشارة إلى ما في سورة بني إسرائيل فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما [الإسراء: ٥] فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ [الإسراء: ٧] وقرىء فَعَمُوا وَصَمُّوا بالضم أي رماهم الله وضربهم بالعمى والصمم كما يقال: ركبته إذا ضربته بالركبة. ثم إنه سبحانه لما استقصى الكلام مع اليهود شرع في حكاية كلام النصارى فحكى عن فريق منهم أنهم قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وهذا قول اليعقوبية القائلين إن مريم ولدت إلها، ولعل مرادهم أنه تعالى حل في ذات عيسى أو اتحد به. ثم حكى عن المسيح ما حكى ليكون حجة قاطعة على فساد ما اعتقدوا فيه وذلك أنه لم يفرق بين نفسه وبين غيره في المربوبية وفي ظهور دلائل الحدوث عليه، ثم أكد ذلك المعنى بقوله: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ أي في العبادة أو في تجويز الحلول أو الاتحاد أو في إجراء وصفه في المخلوقين أو بالعكس فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ التي هي دار الموحدين أي منعه منها وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ من كلام الله تعالى أو من حكاية قول عيسى عليه السلام لهم وقد مر تفسيره في آخر سورة آل عمران، وفيه تقريع لهم لأنهم كانوا يعتقدون أن لهم أنصارا كثيرة فيما يقولون ويعتقدون فنفى الله تعالى أو عيسى ذلك وإن كانوا يريدون بذلك تعظيمه. قال المفسرون ثالِثُ ثَلاثَةٍ معناه ثالث آلهة ثلاثة ليلزم الكفر وإلا فما من شيئين وإلا والله ثالثهما. يحكى أن النصارى يقولون أب وابن وروح قدس والثلاثة إله واحد كما أن الشمس تتناول القرص والشعاع والحرارة. وعنوا بالأب الذات، وبالابن الكلمة، وبالروح الحياة، قالوا: إن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء

صفحة رقم 622

بالخمر، وزعموا أن الأب إله واحد، والابن إله واحد، والروح إله واحد، والكل إله واحد.
واعلم أن هذا معلوم البطلان بالبديهة لأن الثلاثة لا تكون واحدا والواحد لا يكون ثلاثة فلا جرم رد الله مقالتهم بقوله: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ فزاد من الاستغراقية. والمعنى ما إله قط في الوجود إلا إله موصوف بالوحدانية لا ثاني له ولا شريك. ثم زجرهم بقوله وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا قال الزجاج: يعني الذين أقاموا على هذا الدين لأن كثيرا منهم تابوا عن النصرانية ف «من» في قوله مِنْهُمْ للتبعيض، ويجوز أن تكون للبيان والمراد ليمسنهم، ولكن أقيم الظاهر مقام المضمر تكريرا للشهادة عليهم بالكفر ورمزا إلى أنهم من الكفر بمكان حتى لو فسر الكفار المعذبون عنوا بذلك خاصة. ومعنى عَذابٌ أَلِيمٌ نوع شديد الألم من العذاب أَفَلا يَتُوبُونَ قال الفراء: إنه أمر بلفظ الاستفهام وفيه تعجيب من إصرارهم على الكفر بعد الوعيد الشديد.
ثم احتج على إبطال معتقدهم بقوله مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ وهذا ترتيب في غاية الحسن لأنه منعهم من الكفر أوّلا، ثم حثهم على الإسلام ثانيا، ثم شرع في حل شبههم ثالثا، ومن هنا قيل: إن المرتد يستتاب بلا مهل ومناظرة إن عنت له شبهة بل يسلم أوّلا ثم تحل شبهته ثانيا، والمعنى ما هو إلا رسول من جنس الرسل الماضين لا يتخطى الرسالة الى الإلهية كما لم يتخطوا، فإن خلق من غير ذكر فقد خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وإن أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى فقد جعل موسى العصا حية تسعى إلى غير ذلك من آيات ربه الكبرى وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كبعض النساء المؤمنات بالأنبياء الصادقات في أقوالهن وأفعالهن وأحوالهن قال تعالى في وصفها: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ [التحريم: ١٢] أي من الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وهم المجتهدون في إقامة مراسم العبودية. ففيه تكذيب للنصارى المفرطين فيها إذ جعلوها إلها، وفيه تكذيب لليهود المفرّطين في شأنها حيث نسبوها إلى الهنات، وإلى الكذب في أن عيسى خلق من غير أب. وفيه أن من كان له أم فقد حدث بعد أن لم يكن فكان مخلوقا لا إلها. ثم أكد حدوثهما وعجزهما بقوله كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ فإن المحتاج الى الاغتذاء سيحتاج إلى ما يتبعه من الهضم والنفض، وكل هذه الافتقارات دليل ظاهر وبرهان باهر على حدوثهما وأفولهما في حيز الإمكان. ثم عجب من غاية غوايتهم فقال انْظُرْ يا محمد أو كل من له أهلية النظر كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ الأدلة الظاهرة على بطلان قولهم. والعامل في كَيْفَ قوله نُبَيِّنُ ومفعول انْظُرْ مجموع الجملة بل مضمونها أي تبصر هذه الحالة وتفكر فيها ومثله ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ كيف يصرفون عن الحق. أفكه بالفتح يأفكه

صفحة رقم 623

بالكسر أفكا بالفتح والسكون صرفه عن الشيء. ومنه الإفك بالكسر للكذب لأنه مصروف عن الحق، وأرض مأفوكة صرف عنها المطر. ومعنى «ثم» التراخي والبون بين العجبين أي بينا لهم الآيات بيانا عجيبا ولكن إعراضهم عنها أعجب، ثم الصارف عن تأمل الحق هو الله أو العبد فيه خلاف مشهور بين الأشاعرة والمعتزلة، وأنت قد عرفت التحقيق في ذلك مرارا. ثم أقام حجة أخرى على فساد قول النصارى فقال قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ أي شيئا لا يستطيع أو الذي لا يقدر على مثل ما يضركم به الله من البليات والمصائب أو ينفعكم به من الصحة والخصب بواسطة أو بغير واسطة بل لم يملك شيئا من ذلك لنفسه، فإن اليهود كانوا يقصدونه بالسوء ولم يقدر على دفعهم. ومن مذهب النصارى أن اليهود صلبوه ومزقوا أضلاعه ولما عطش وطلب الماء صبوا الخل في منخريه وكان عليه السلام مصروف الهمة إلى عبادة الله ولو كان إلها كان معبودا فقط لا عابدا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يسمع أبا طيلهم ويعلم ضمائرهم ليجازيهم عليه وفيه من الوعيد ما فيه. ثم عاد إلى مخاطبة الفريقين فقال يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا والغلو مجاوزة حد الاعتدال وأنه شامل لطرفي الإفراط والتفريط وإن كان قد يخص بطرف الإفراط ويجعل مقابلا للتقصير. ولعل المراد هاهنا هو الأول فاليهود فرطوا فيه حيث نسبوه إلى الزنا والكذب، والنصارى أفرطوا فيه حيث ادعوا فيه الإلهية. قال في الكشاف: قوله غَيْرَ الْحَقِّ صفة للمصدر أي غلوا غير الحق، ولزمه القول بأن الغلو في الدين غلو، إن حق وهو أن يبالغ في تقرير الحق وتوضيحه واستكشاف حقائقه، وباطل وهو أن يتبع الشبهات على حسب الشهوات، والثاني منهي عنه دون الأوّل، وأقول: لما كان الغلو مجاوزة الحد وكل شيء جاوز حدّه شابه ضدّه فكيف يتصوّر غلو حق ولله در القائل:
كلا طرفي قصد الأمور ذميم فالأصوب أن يقال: انتصب غَيْرَ الْحَقِّ على أنه صفة قائمة مقام المصدر أي لا تغلوا غلوا كقوله: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [البقرة: ٦٠] أي إفسادا وكقولهم: تعال جائيا وقم قائما. ولو سلم أن المصدر محذوف كان غَيْرَ الْحَقِّ صفة مؤكدة مثل نَفْخَةٌ واحِدَةٌ [الحاقة: ١٣] و «أمس الدابر» لا صفة مميزة فافهم وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ هي المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة. قال الشعبي: ما ذكر الله تعالى لفظ الهوى في القرآن إلا ذمه وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ [ص: ٢٦] وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: ٣] أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الجاثية: ٢٣] قال أبو عبيد: لم نجد للهوى موضعا إلا في

صفحة رقم 624

الشر. لا يقال فلان يهوى الخير إنما يقال يريد الخير ويحبه. وقيل: سمي هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار. وقال رجل لابن عباس: الحمد لله الذي جعل هواي على هواك. فقال ابن عباس: كل هوى ضلالة قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ يعني أئمتهم في النصرانية واليهودية قبل بعثة النبي ﷺ وَأَضَلُّوا كَثِيراً ممن شايعهم على التثليث أو التفريط في شأن مريم وابنها وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ عند مبعث النبي ﷺ فكذبوه. والغرض بيان استمرارهم على الضلال قديما وحديثا. وقيل: الضلال الأوّل عن الدين، والضلال الثاني عن الجنة. وقيل: الضلال الثاني اعتقادهم في ذلك الإضلال أنه إرشاد إلى الحق. لَعَنَهُمُ اللَّهُ في الزبور على لسان داود وفي الإنجيل على لسان عيسى، وفيه تعيير لهم حيث ادعوا أنهم أولاد الأنبياء وقد لعنوا على ألسنتهم. وقال كثير من المفسرين: إن أصحاب أيلة كما سيجيء في الأعراف لما اعتدوا في السبت قال داود: اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة. وإن أصحاب المائدة لما أكلوا منها ولم يؤمنوا قال عيسى: اللهم العنهم كما لعنت أصحاب السبت فأصبحوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبي. وعن الأصم أن داود وعيسى بشرا بمحمد ﷺ ولعنا من يكذبه، وذلك اللعن بسبب عصيانهم واعتدائهم. ثم فسّر المعصية والاعتداء بقوله كانُوا لا يَتَناهَوْنَ وللتناهي معنيان: أحدهما وعليه الجمهور أنه تفاعل من النهي أي كانوا لا ينهى بعضهم بعضا.
عن ابن مسعود أن النبي ﷺ قال «من رضى عمل قوم فهو منهم ومن كثر سواد قوم فهو منهم»
وذلك أن في التناهي المأمور به حسما للفساد فكان الإخلال به معصية وظلما. والثاني أنه بمعنى الانتهاء أي لا يمتنعون ولا ينتهون. والمراد لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه لأن النهي بعد الفعل لا يفيد، أو المراد لا يتناهون عن منكر أرادوا فعله وأحضروا آلاته، أو لا ينتهون أو لا ينهون عن الإصرار على منكر فعلوه. ثم عجب من سوء فعلهم مؤكدا بالقسم المقدر فقال لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ ثم لما وصف أسلافهم بما وصف شرع في نعت الحاضرين بأن كثيرا منهم يتولون المشركين والمراد كعب بن الأشرف وأصحابه حين استجاشوا المشركين على رسول الله ﷺ وقد مر في تفسير سورة النساء عند قوله هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا [النساء: ٥١] لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ من العمل لمعادهم. ومحل أَنْ سَخِطَ رفع على أنه مخصوص بالذم أي بئس الزاد إلى الآخرة سخط الله يعني موجب سخط الله وسببه، ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وهو موسى وما أنزل إليه في التوراة كما يدّعون واتخذوا المشركين أولياء لأن تحريم ذلك متأكد في شريعة موسى وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ في دينهم لأن مرادهم تحصيل الرياسة والجاه بأي طريق قدروا عليه لا تقرير دين موسى. ويحتمل أن يراد ولو كان هؤلاء اليهود المنافقون مؤمنين بالله وبمحمد والقرآن إيمانا

صفحة رقم 625

خالصا ما اتخذوا المشركين أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون متمردون في كفرهم ونفاقهم فلهذا يتولون المشركين. وقال القفال: ولو أن هؤلاء المشركين يؤمنون بالله وبمحمد ﷺ ما اتخذهم اليهود أولياء.
تم الجزء السادس وبه يتم المجلد الثاني من تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للعلامة نظام الدين النيسابوري، ويليه الجزء السابع، وهو أول المجلد الثالث، وأوله:
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً...

صفحة رقم 626

الفهرس
تتمة تفسير سورة البقرة الآيات: ٢٥٢- ٢٥٤ ٣ الآيات: ٢٥٥- ٢٥٧ ١١ الآيات: ٢٥٨- ٢٦٠ ٢١ الآيات: ٢٦١- ٢٦٦ ٣٥ الآيات: ٢٦٧- ٢٧٤ ٤٣ الآيات: ٢٧٥- ٢٨١ ٥٩ الآيتان: ٢٨٢ و ٢٨٣ ٧٣ الآيات: ٢٨٤- ٢٨٦ ٨٣ تفسير سورة آل عمران الآيات: ١- ١١ ٩٨ الآيات: ١٢- ٢٥ ١١٨ الآيات: ٢٦- ٣٤ ١٣٥ الآيات: ٣٥- ٤١ ١٤٨ الآيات: ٤٢- ٦٠ ١٥٨ الآيات: ٦١- ٧١ ١٧٧ الآيات: ٧٢- ٨٠ ١٨٥ الآيات: ٨١- ٩١ ١٩٧ الآيات: ٩٢- ١٠١ ٢٠٧ الآيات: ١٠٢- ١١١ ٢٢٣ الآيات: ١١٢- ١٢٠ ٢٣٧

صفحة رقم 627

الآيات: ١٢١- ١٢٩ ٢٤٦ الآيات: ١٣٠- ١٤١ ٢٥٧ الآيات: ١٤٢- ١٥٠ ٢٦٨ الآيات: ١٥١- ١٦٠ ٢٧٧ الآيات: ١٦١- ١٧٥ ٢٩٨ الآيات: ١٧٦- ١٨٩ ٣١٣ الآيات: ١٩٠- ٢٠٠ ٣٢٧ تفسير سورة النساء الآيات: ١- ١٠ ٣٣٨ الآيات: ١١- ٢٣ ٣٦٠ الآيات: ٢٤- ٣٠ ٣٨٢ الآيات: ٣١- ٤٠ ٤٠٣ الآيات: ٤١- ٥٧ ٤١٦ الآيات: ٥٨- ٧٠ ٤٣٢ الآيات: ٧١- ٨١ ٤٤٥ الآيات: ٨٢- ٩١ ٤٥٥ الآيات: ٩٢- ١٠١ ٤٦٨ الآيات: ١٠٢- ١١٣ ٤٨٦ الآيات: ١١٤- ١٢٦ ٤٩٦ الآيات: ١٢٧- ١٤١ ٥٠٧ الآيات: ١٤٢- ١٥٢ ٥١٨ الآيات: ١٥٣- ١٦٩ ٥٢٤ الآيات: ١٧٠- ١٧٦ ٥٣٣ تفسير سورة المائدة الآيات: ١- ١١ ٥٣٩

صفحة رقم 628

الآيات: ١٢- ١٩ ٥٦٧ الآيات: ٢٠- ٢٦ ٥٧٣ الآيات: ٢٧- ٤٠ ٥٧٧ الآيات: ٤١- ٤٧ ٥٩١ الآيات: ٤٨- ٥٨ ٥٩٩ الآيات: ٥٩- ٦٩ ٦١٠ الآيات: ٧٠- ٨١ ٦٢٠

صفحة رقم 629
غرائب القرآن ورغائب الفرقان
عرض الكتاب
المؤلف
نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري
تحقيق
زكريا عميرات
الناشر
دار الكتب العلميه - بيروت
سنة النشر
1416
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية