
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٦ الى ٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)المعنى الجملي
اعلم أن بين العبد وربه عهدين: عهد الربوبية والإحسان، وعهد العبودية والطاعة، وبعد أن وفى له سبحانه بالعهد الأول وبيّن له ما يحل وما يحرم من لذات الحياة فى الطعام والنكاح، طلب إليهم الوفاء بالعهد الثاني، وهو عهد الطاعة، وأعظم الطاعات بعد الإيمان الصلاة، والصلاة لا يمكن إقامتها إلا بالطهارة، لا جرم بدأ الله بذكر فرائض الوضوء.
وبعد أن بين لنا طائفة من الأحكام المتعلقة بالعادات والعبادات ذكرنا بعهده وميثاقه علينا وما التزمناه من السمع والطاعة له ولرسوله بقبول دينه الحق لنقوم به مخلصين.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة على حد قوله تعالى: «فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ» أي إذا أردت قراءته، وجمهور المسلمين على أن الطهارة لا تجب على من قام إلى الصلاة إلا إذا كان محدثا.
أي إذا قمتم إلى الصلاة محدثين فاغسلوا إلخ. وهذا التقييد مستفاد من السنة العملية فى الصدر الأول،
فقد روى أحمد ومسلم وأصحاب السنن من حديث بريدة قال: «كان النبي ﷺ يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفّيه، وصلى الصلوات بوضوء واحد. فقال له عمر يا رسول الله إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله فقال: عمدا فعلته يا عمر»
وروى البخاري وأصحاب السنن عن عمرو صفحة رقم 61

ابن عامر الأنصاري سمعت أنس بن مالك يقول: «كان النبي ﷺ يتوضأ عند كل صلاة، قال قلت: فأنتم كيف تصنعون؟ قال: كنا نصلى الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث»
وروى أحمد والشيخان من حديث أبى هريرة مرفوعا «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ»
فهذه الأخبار تدل على أن المسلمين لم يكونوا فى عهد النبي يتوضئون لكل صلاة، وإنما كان النبي ﷺ يتوضأ لكل صلاة غالبا، وصلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد أمام الناس لبيان جواز ذلك.
ومن ذلك يعلم أن الوضوء لكل صلاة عزيمة وهو الأفضل، وإنما يجب على من أحدث. وآخر الآية يدل على ذلك، فإنه ذكر الحدثين ووجوب التيمم على من لم يجد الماء بعدهما فعلم منه أن من وجده وجب عليه أن يتطهر به عقبهما، ولو كانت الطهارة واجبة لكل صلاة لما كان لهذا معنى.
والخلاصة- إن الوضوء لا يجب إلا على المحدث، وإنما يستحب تجديده لكل صلاة (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) الغسل (بالفتح) إسالة الماء على الشيء لإزالة ما عليه من وسخ ونحوه، والوجوه واحدها وجه، وحدّه من أعلى تسطيح الجبهة إلى أسفل اللّحيين طولا ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن عرضا، والأيدى واحدها يد، وحدّها فى الوضوء من رءوس الأصابع إلى المرفق، وهو أعلى الذراع وأسفل العضد.
روى مسلم من حديث أبى هريرة: أنه توضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع فى العضد، ثم غسل يده اليسرى حتى أشرع فى العضد، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع فى الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع فى الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله ﷺ يتوضأ.
(وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) الرأس معروف ويمسح ما عدا الوجه منه وقد اختلف فقهاء الأمصار فى أقل ما يحصل به فرض مسح الرأس، فقال الشافعي يكفى أقل ما يصدق عليه اسم المسح ولو شعرة، وقال مالك يحب مسح الكل أخذا بالاحتياط، وأوجب

أبو حنيفة مسح الربع، لأن المسح إنما يكون باليد وهى تستوعب مقدار الربع فى الغالب. ولما
روى «أن رسول الله ﷺ توضأ ومسح على ناصيته»
(وهى مقدار الربع).
(وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) الكعبان هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق من الجانبين، أي واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين، ويؤيده عمل النبي ﷺ وعمل الصحابة وقول أكثر الأئمة
فقد روى مسلم عن أبى هريرة أن النبي ﷺ رأى رجلا لم يغسل عقبه فقال: «ويل للأعقاب من النار»
وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: تخلّف عنا رسول الله ﷺ فى سفرة فأدركنا وقد وقد أرهقنا العصر فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا قال فنادى بأعلى صوته «ويل للأعقاب من النار» مرتين أو ثلاثا.
ويقوم المسح على الخفين عند لبسهما مقام غسل الأرجل، وقد روى ذلك خلائق لا يحصون من الصحابة،
قال الحسن: حدثنى سبعون من أصحاب رسول الله ﷺ أن رسول الله ﷺ (كان يمسح على الخفين)
وقال الحافظ بن حجر:
قد صرح جمع من الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر، وأقوى الأحاديث حجة فيه حديث جرير
، فقد روى أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي أنه بال ثم توضأ ومسح على خفيه فقيل له: تفعل هكذا؟ قال نعم. رأيت رسول الله ﷺ بال ثم توضأ ومسح على خفيه.
والخلاصة- إن غسل الرجلين المكشوفتين ومسح المستورتين هو الثابت بالسنة لمتواترة المبينة للقرآن، والموافق لحكمة هذه الطهارة.
(وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) الجنب: لفظ يستعمل للمفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث، والمراد به المضاجعة والوقاع: أي وإن كنتم أصابتكم جنابة قبل أن تقوموا إلى

صلاتكم فقمتم إليها فتطهروا منها بغسل البدن كله قبل دخولكم فى صلاتكم التي قمتم إليها وفى معنى الوقاع خروج المنىّ بالاحتلام فهو جنابة شرعا،
وفى الحديث «إنما الماء من الماء» رواه مسلم
، أي إنما يجب ماء الغسل من الماء الدافق الذي يخرج من الإنسان بأى سبب كان خروجه.
ولما بين سبحانه وجوب الطهارتين، وكان المسلم لا بدّ له من طهارة الوضوء مرة أو أكثر من ذلك فى اليوم، ولا بد له من الغسل فى كل أسبوع أو أكثر مرة غالبا- بين الرخصة فى تركهما عند المشقة أو العجز، لأن الدّين يسر لا حرج فيه ولا عنت فقال:
(وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) أي وإن كنتم مرضى مرضا جلديا كالجدرىّ والجرب وغيرهما القروح والجروح أو أىّ مرض يشقّ فيه استعمال الماء أو يضر.
(أَوْ عَلى سَفَرٍ) طال أو قصر مهما كان السبب فيه، ومن شأن السفر أن يشق فيه الوضوء والغسل.
(أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) الغائط المكان المنخفض من الأرض، ويراد به شرعا قضاء الحاجة من بول وغائط، أي أحدثتم الحدث الموجب للوضوء عند إرادة الصلاة ونحوها كالطواف، ويسمى الحدث الأصغر.
(أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) المراد بالملامسة المباشرة المشتركة بين الرجال والنساء، والحدث الموجب للغسل يسمى الحدث الأكبر.
(فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) أي إذا كنتم على حال من هذه الأحوال الثلاث: المرض أو السفر أو فقد الماء عند الحاجة إليه لإحدى الطهارتين فاقصدوا ترابا أو مكانا من وجه الأرض طاهرا لا نجاسة عليه فاضربوا بأيديكم عليه وألصقوها بوجوهكم وأيديكم إلى الرسغين بحيث يصيبها أثر منه.
(ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) أي ما يريد الله ليجعل عليكم فيما شرعه لكم فى هذه الآية وفى غيرها حرجا ما، أي أدنى ضيق وأقل مشقة، لأنه تعالى غنىّ

عنكم رحيم بكم، فلا يشرع لكم إلا ما فيه الخير والنفع لكم.
(وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) من الأقذار والرذائل والمنكرات والعقائد الفاسدة فتكونوا أنظف الناس أبدانا، وأزكاهم نفوسا، وأصحهم أجسادا، وأرقاهم أرواحا.
(وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) فيجمع لكم بين طهارة الأبدان وطهارة الأرواح، والإنسان إنما هو روح وجسد، والصلاة تطهر الروح وتزكى النفس، فهى تنهى عن الفحشاء والمنكر وتعوّد المصلى مراقبة ربه فى السر والعلن، وخشيته حين الإساءة والرجاء فيه لدى الإحسان، والطهارة التي جعلها الله شرطا للدخول فى الصلاة ومقدمة لها تطهر البدن وتنشطه، فيسهل بذلك العمل من عبادة وغيرها، فما أجلّ نعم الله على عباده، وما أجدر من هدى بهداه بدوام الشكر عليه، ومن ثم ختم الآية الكريمة بقوله:
(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي وليعدكم بذلك لدوام شكرهم على تلك النعم الظاهرة والباطنة.
الحكمة فى شرع الوضوء والغسل
للوضوء والغسل فوائد أهمها:
(١) أن غسل البدن كله وغسل الأطراف يفيد صاحبه نشاطا وهمة ويزيل ما يعرض للجسد من الفتور والاسترخاء بسبب الحدث أو بغيره من الأعمال التي تؤثر تأثيره، وبذا يقيم الصلاة على وجهها ويعطيها حقها من الخشوع ومراقبة الله تعالى.
إذ المشاهد أنه إذا بلغ الإنسان من هذه اللذة الجسمية غايتها بالوقاع أو الإنزال حصل تهيج عصبى كبير يعقبه فتور شديد بحسب سنة رد الفعل، ولا يعيد نشاطه إلا غسل البدن كله.
(٢) أن النظافة ركن الصحة البدنية، فإن الوسخ والأقذار مجلبة الأمراض والأدواء الكثيرة، ومن ثم نرى الأطباء يشددون فى أيام الأوبئة والأمراض المعدية فى المبالغة فى النظافة، وجدير بالمسلمين أن يكونوا أصح الناس أجسادا وأقلهم أمراضا،

لأن دينهم مبنى على المبالغة فى نظافة الأبدان والثياب والأمكنة، فإذا هم فعلوا ما أوجبه الدين تنتفى الأسباب التي تولد جراثيم الأمراض عند الناس.
(٣) تكريم المسلم نفسه لدى نفسه وأهله وقومه الذين يعيش معهم، إذ من كان نظيف البدن للثياب كان جديرا بحضور كل مجتمع ولقاء أشراف الناس وفضلائهم، ومن كان وسخا قذرا فإنه يكون محتقرا عند كرام الناس ولا يعدونه أهلا لأن يحضر مجالسهم ويشعر فى نفسه بالضعة والهوان.
ولأجل هذا ورد الأمر بالغسل والطيب ولبس الثياب النظيفة يوم الجمعة لأنه يوم يجتمع فيه الناس فى المساجد لعبادة الله تعالى،
روى مالك والشافعي وأحمد والبخاري ومسلم من طرق عدة أن النبي ﷺ قال «غسل الجمعة واجب على كل محتلم»
أي بالغ مكلف.
وبعد أن بين سبحانه هذه الأحكام وذكر رفع الحرج الذي تم به الإنعام ذكّرنا بنعمه التي أنعم بها علينا فقال:
(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا) أي وتذكروا أيها المؤمنون إذ كنتم كفارا متباغضين فأصبحتم بهداية الدين إخوانا متحابين وتذكروا العهد الذي عاهدكم به حين بايعتم رسوله محمدا ﷺ على السمع والطاعة فى المنشط والمكره (المحبوب- والمكروه) والعسر واليسر حين قلتم له سمعنا ما أمرتنا به ونهيتنا عنه، وأطعناك فيه فلا نعصيك فى معروف، وكل ما جئتنا به فهو معروف.
وكل نبى بعث فى قوم أخذ عليهم ميثاق الله بالسمع والطاعة وقبول الدعوة.
والدخول فى الدين يعدّ قبولا لهذا العهد، فعلينا أن نعد هذا التذكير خطابا لنا كما عده السلف من الصحابة خطابا لهم.
واتقوا الله فلا تنقضوا عهده وتخالفوا ما أمركم به وما نهاكم عنه سواء أكان فى هذه الآيات أم فى غيرها.