آيات من القرآن الكريم

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ۗ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ۖ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ

تَفْلَحُوا وَتَنْجَحُوا وَلَكُمُ الْجَنَّةُ، قَالَ: فَمَا بَقِيَ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ وَلَا صَبِيٌّ إِلَّا يَرْمُونَ بِالتُّرَابِ وَالْحِجَارَةِ وَيَبْزُقُونَ فِي وَجْهِي وَيَقُولُونَ: كَذَّابٌ صَابِئٌ، فَعَرَضَ عَلَيَّ عَارِضٌ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنْ كُنْتَ رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْ آنَ لَكَ أَنْ تَدْعُوَ عَلَيْهِمْ كَمَا دَعَا نُوحٌ عَلَى قَوْمِهِ بِالْهَلَاكِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»، فَجَاءَ الْعَبَّاسُ عَمُّهُ فَأَنْقَذَهُ مِنْهُمْ وَطَرَدَهُمْ عَنْهُ. قَالَ الْأَعْمَشُ: فَبِذَلِكَ يَفْتَخِرُ بَنُو الْعَبَّاسِ وَيَقُولُونَ: فِيهِمْ نَزَلَتْ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ «١» هوي النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَبَا طَالِبٍ، وَشَاءَ اللَّهُ عَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ كِلَاهُمَا فِي الدَّلَائِلِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْرَسُ حَتَّى نَزَلَتْ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فَأَخْرَجَ رَأْسَهُ مِنَ الْقُبَّةِ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ انْصَرِفُوا فَقَدْ عَصَمَنِي اللَّهُ». قَالَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ. وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «لَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ بَنِي أَنْمَارٍ نَزَلَ ذَاتَ الرَّقِيعِ بِأَعْلَى نَخْلٍ، فَبَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى رَأْسِ بِئْرٍ قَدْ دَلَّى رِجْلَيْهِ، فَقَالَ الْوَارِثُ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ: لَأَقْتُلَنَّ مُحَمَّدًا، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: كَيْفَ تَقْتُلُهُ؟ قَالَ: أَقُولُ لَهُ أَعْطِنِي سَيْفَكَ فَإِذَا أَعْطَانِيهِ قَتَلْتُهُ بِهِ فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَعْطِنِي سَيْفَكَ أَشُمُّهُ «٢»، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، فَرَعَدَتْ يَدُهُ حتى سقط السيف مِنْ يَدِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَالَ اللَّهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَا تُرِيدُ، فأنزل الله سبحانه يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَلَمْ يُسَمِّ الرَّجُلَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ نَحْوَهُ، وَفِي الْبَابِ رِوَايَاتٌ. وَقِصَّةُ غَوْرَثِ بْنِ الحارث ثابتة في الصحيح، وهي معروفة مشهورة.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٦٨ الى ٧٥]
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩) لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥)

(١). القصص: ٥٦.
(٢). أشمه: أختبره.

صفحة رقم 70

قَوْلُهُ: عَلى شَيْءٍ فِيهِ تَحْقِيرٌ وَتَقْلِيلٌ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ: أَيْ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ: أَيْ تَعْمَلُوا بِمَا فِيهِمَا مِنْ أَوَامِرِ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا أَمْرُكُمْ بِاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَنَهْيُكُمْ عَنْ مُخَالَفَتِهِ.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ النَّسْخِ لَهُمَا. قَوْلُهُ: وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ قِيلَ:
هُوَ الْقُرْآنُ، فَإِنَّ إِقَامَةَ الْكِتَابَيْنِ لَا تَصِحُّ بِغَيْرِ إِقَامَتِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ غَيْرِ الْكِتَابَيْنِ. قَوْلُهُ: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً أَيْ كفرا إلى كفرهم وطغيانا إلى طُغْيَانِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالْكَثِيرِ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى الْمُعَانَدَةِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْعُلَمَاءُ مِنْهُمْ، وَتَصْدِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالْقَسَمِ لِتَأْكِيدِ مَضْمُونِهَا، قَوْلُهُ: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أَيْ دَعْ عَنْكَ التَّأَسُّفَ عَلَى هَؤُلَاءِ، فَإِنَّ ضَرَرَ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ وَنَازِلٌ بِهِمْ، وَفِي الْمُتَّبِعِينَ لَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غِنًى لَكَ عَنْهُمْ.
قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَخْ، جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَرْغِيبِ مَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ هُنَا الَّذِينَ آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ هادُوا أَيْ دَخَلُوا فِي دِينِ الْيَهُودِ وَالصَّابِئُونَ مُرْتَفِعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى كَذَلِكَ. قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: الرَّفْعُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى كَذَلِكَ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ، قَوْلُ الشَّاعِرِ:

وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّا وَأَنْتُمْ بُغَاةٌ مَا بَقِينَا فِي شِقَاقِ
أَيْ وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّا بُغَاةٌ وأنتم كذلك، ومثله قول ضابئ الْبُرْجُمِيِّ:
فَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ فَإِنِّي وَقَيَّارٌ «١» بِهَا لَغَرِيبُ
أَيْ فَإِنِّي لَغَرِيبٌ وَقَيَّارٌ كَذَلِكَ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْأَخْفَشُ: إِنَّ «الصَّابِئُونَ» مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُضْمَرِ فِي «هادُوا». قَالَ النَّحَّاسُ: سَمِعْتُ الزَّجَّاجَ يَقُولُ: وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ قَوْلُ الْكِسَائِيِّ وَالْأَخْفَشِ: هَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُضْمَرَ الْمَرْفُوعَ لَا يُعْطَفُ عَلَيْهِ حَتَّى يُؤَكَّدَ. وَثَانِيهُمَا أَنَّ الْمَعْطُوفَ شَرِيكُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى:
إِنَّ الصَّابِئِينَ قَدْ دَخَلُوا فِي الْيَهُودِيَّةِ، وَهَذَا مُحَالٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّمَا جَازَ الرَّفْعُ لِأَنَّ إِنَّ ضَعِيفَةٌ فَلَا تُؤَثِّرُ إِلَّا فِي الِاسْمِ دُونَ الْخَبَرِ، فَعَلَى هَذَا هُوَ عِنْدَهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلِّ اسْمِ إِنَّ، أَوْ عَلَى مَجْمُوعِ إِنَّ وَاسْمِهَا وَقِيلَ: إِنَّ خَبَرَ إِنَّ مُقَدَّرٌ، وَالْجُمْلَةَ الْآتِيَةَ خَبَرٌ الصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى، كَمَا فِي قَوْلُ الشَّاعِرِ:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا عِنْدَكَ رَاضٍ والرأي مختلف
(١). «قيّار» : اسم جمل ضابئ.

صفحة رقم 71

وقيل: إِنَّ هُنَا بِمَعْنَى نَعَمْ، فَالصَّابِئُونَ مُرْتَفِعٌ بِالِابْتِدَاءِ، ومثله قول ابن قيس الرُّقَيَّاتِ:

بَكَرَ الْعَوَاذِلُ فِي الصَّبَا حِ يَلُمْنَنِي وَأَلُومُهُنَّهْ
وَيَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلَا كَ وَقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إِنَّهْ
قَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّهْ بِمَعْنَى نَعَمْ وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى فِي الْبَقَرَةِ، وَقُرِئَ الصَّابِيُونَ بِيَاءٍ صَرِيحَةٍ تَخْفِيفًا لِلْهَمْزَةِ، وَقُرِئَ: الصَّابُونَ بِدُونِ يَاءٍ، وَهُوَ مِنْ صَبَا يَصْبُو لِأَنَّهُمْ صَبَوْا إِلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَقُرِئَ وَالصَّابِئِينَ عَطْفًا عَلَى اسْمِ إن. قوله: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ مبتدأ خبره فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالْمُبْتَدَأُ وخبره خبر ل إِنَّ، وَدُخُولُ الْفَاءِ لِتَضَمُّنِ الْمُبْتَدَأِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَالْعَائِدُ إِلَى اسْمِ إِنَّ مَحْذُوفٌ، أَيْ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ آمَنَ بَدَلًا مِنِ اسْمِ إِنَّ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَيَكُونَ خَبَرُ إِنَّ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالْمَعْنَى عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الْمُرَادِ بِالَّذِينَ آمَنُوا الْمُنَافِقِينَ كَمَا قَدَّمْنَا: أَنَّ مَنْ آمَنَ مِنْ هَذِهِ الطَّوَائِفِ إِيمَانًا خَالِصًا عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا، فَهُوَ الَّذِي لَا خَوْفٌ عَلَيْهِ وَلَا حُزْنٌ، وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الْمُرَادِ بِالَّذِينَ آمَنُوا جَمِيعَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ: الْمُخْلِصَ وَالْمُنَافِقَ، فَالْمُرَادُ بِمَنْ آمَنَ مَنِ اتَّصَفَ بِالْإِيمَانِ الْخَالِصِ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَحْدَثَ إِيمَانًا خَالِصًا بَعْدَ نِفَاقِهِ. قَوْلُهُ: لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ لِبَيَانِ بَعْضِ أَفْعَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ بَيَانُ مَعْنَى الْمِيثَاقِ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا لِيُعَرِّفُوهُمْ بِالشَّرَائِعِ وَيُنْذِرُوهُمْ كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ وَقَعَتْ جَوَابًا لِسُؤَالِ نَاسٍ مِنَ الْأَحْبَارِ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا فَعَلُوا بِالرُّسُلِ؟ وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، أَيْ عَصَوْهُ. وَقَوْلُهُ: فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ أَيْضًا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالِ نَاسٍ عَنِ الْجَوَابِ الْأَوَّلِ كَأَنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ فَعَلُوا بِهِمْ؟ فَقِيلَ: فَرِيقًا مِنْهُمْ كَذَّبُوهُمْ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُمْ بِضَرَرٍ، وَفَرِيقًا آخَرَ مِنْهُمْ قَتَلُوهُمْ، وَإِنَّمَا قَالَ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ لمراعاة رؤوس الْآيِ، فَمَنْ كَذَّبُوهُ عِيسَى وَأَمْثَالُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَمِمَّنْ قَتَلُوهُ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى. قَوْلُهُ: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ أَيْ حَسِبَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ أَنْ لَا يَقَعَ مِنَ الله عز وجل ابتلاء واختبار بالشدائد اعتزازا «١» بقولهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ «٢».
قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ تَكُونُ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ أَنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَحَسِبَ بِمَعْنَى عَلِمَ، لِأَنَّ أَنْ مَعْنَاهَا التَّحْقِيقُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّ أَنْ نَاصِبَةٌ لِلْفِعْلِ، وَحَسِبَ بِمَعْنَى الظَّنِّ، قَالَ النَّحَّاسُ:
وَالرَّفْعُ عند النحويين في حسب وَأَخَوَاتِهَا أَجْوَدُ، وَمِثْلُهُ:
أَلَا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ الْيَوْمَ أَنَّنِي كَبُرْتُ وَأَلَّا يَشْهَدَ اللَّهْوَ أَمْثَالِي «٣»
قَوْلُهُ فَعَمُوا وَصَمُّوا أَيْ عَمُوا عَنْ إِبْصَارِ الْهُدَى، وَصَمُّوا عَنِ اسْتِمَاعِ الحق، وهذه إشارة إلى ما
(١). في القرطبي اغترارا.
(٢). المائدة: ١٨. [.....]
(٣). البيت لامرئ القيس. «بسباسة» : امرأة من بني أسد.

صفحة رقم 72

وَقَعَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الِابْتِدَاءِ مِنْ مُخَالَفَةِ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ، وَقَتْلِ شِعْيَا، ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حِينَ تَابُوا، فَكَشَفَ عَنْهُمُ الْقَحْطَ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَقَعَ مِنْهُمْ بَعْدَ التَّوْبَةِ مِنْ قتل يحيى بن زكريا وقصدهم قتل عِيسَى، وَارْتِفَاعُ كَثِيرٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي الْفِعْلَيْنِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: كَمَا تَقُولُ رَأَيْتُ قَوْمَكَ ثَلَاثَتَهُمْ، وَإِنْ شِئْتَ كَانَ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ: أَيِ الْعُمْيُ وَالصُّمُّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَثِيرٌ مُرْتَفِعًا عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ عَلَى لغة من قال: أكلوني البراغيث، ومنه قوله الشاعر:

ولكن ديافيّ أَبُوهُ وَأُمُّهُ بِحَوْرَانَ يَعْصِرْنَ السَّلِيطَ أَقَارِبُهُ «١»
وَقُرِئَ عَمُوا وَصَمُّوا بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ: أَيْ أَعْمَاهُمُ اللَّهُ وَأَصَمَّهُمْ. قَوْلُهُ: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ هَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ يَتَضَمَّنُ بَيَانَ بَعْضِ فَضَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ هُمْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ: يُقَالُ لَهُمُ: الْيَعْقُوبِيَّةُ وَقِيلَ: هُمُ الْمِلْكَانِيَّةُ، قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَلَّ فِي ذَاتِ عِيسَى، فردّ الله عليهم بقوله: وَقالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُ قَدْ قَالَ الْمَسِيحُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، فَكَيْفَ يَدَّعُونَ الْإِلَهِيَّةَ لِمَنْ يَعْتَرِفُ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ عَبْدٌ مِثْلُهُمْ؟ قَوْلُهُ: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ، وَهَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ يَتَضَمَّنُ بَيَانَ أَنَّ الشِّرْكَ يُوجِبُ تَحْرِيمَ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ عِيسَى وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ يَنْصُرُونَهُمْ فَيُدْخِلُونَهُمُ الْجَنَّةَ أَوْ يُخَلِّصُونَهُمْ مِنَ النَّارِ.
قَوْلُهُ: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَهَذَا كَلَامٌ أَيْضًا مُبْتَدَأٌ لِبَيَانِ بَعْضِ مَخَازِيهِمْ، وَالْمُرَادُ بِثَالِثِ ثَلَاثَةٍ وَاحِدٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَلِهَذَا يُضَافُ إِلَى ما بعده، ولا يجوز فيه التَّنْوِينُ كَمَا قَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ، وَإِنَّمَا يُنَوَّنُ وَيُنْصَبُ مَا بَعْدَهُ إِذَا كَانَ مَا بَعْدَهُ دُونَهُ بِمَرْتَبَةٍ نَحْوَ ثَالِثُ اثْنَيْنِ وَرَابِعُ ثَلَاثَةٍ، وَالْقَائِلُ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ هُمُ النَّصَارَى، وَالْمُرَادُ بِالثَّلَاثَةِ: اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَعِيسَى، وَمَرْيَمُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ «٢» وهذا هو المراد بقولهم ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ: إِقْنِيمُ «٣» الْأَبِ، وَإِقْنِيمُ الِابْنِ، وَإِقْنِيمُ روح وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ كَلَامٌ فِي هَذَا، ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةَ فَقَالَ: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ أَيْ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى: قَالُوا تِلْكَ الْمَقَالَةَ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا مَوْجُودَ إِلَّا اللَّهُ، وَمِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ إِلهٍ لِتَأْكِيدِ الِاسْتِغْرَاقِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ النَّفْيِ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ مِنَ الْكُفْرِ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ سَادٌّ مَسَدَّ جَوَابِ الشَّرْطِ، وَمِنْ فِي مِنْهُمْ بَيَانِيَّةٌ أَوْ تَبْعِيضِيَّةٌ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ الْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ، وَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ. قَوْلُهُ: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَيْ هُوَ مَقْصُورٌ عَلَى الرِّسَالَةِ، لَا يُجَاوِزُهَا كَمَا زَعَمْتُمْ، وَجُمْلَةُ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ صِفَةٌ لِرَسُولٍ: أَيْ مَا هُوَ إِلَّا رَسُولٌ مِنْ جِنْسِ الرُّسُلِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِ، وَمَا وَقَعَ مِنْهُ مِنَ المعجزات لا يوجب كونه إلها، فقد
(١). البيت للفرزدق. «دياف» : قرية بالشام. «السليط» : الزيت.
(٢). المائدة: ١١٦.
(٣). في معاجم اللغة: أقنوم.

صفحة رقم 73
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني
الناشر
دار ابن كثير، دار الكلم الطيب - دمشق، بيروت
سنة النشر
1414
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية