
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٥٩ الى ٦٣]
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣)يَقُولُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ أَيْ هَلْ لَكَمَ عَلَيْنَا مَطْعَنٌ أَوْ عَيْبٌ إِلَّا هَذَا؟ وَهَذَا لَيْسَ بِعَيْبٍ وَلَا مَذَمَّةٍ، فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ منقطعا، كما في قوله تَعَالَى: وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [الْبُرُوجِ: ٨]، وَكَقَوْلِهِ: وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ [التَّوْبَةِ: ٧٤] وَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ «مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلَّا أَنْ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ» «١»، وَقَوْلُهُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ أَيْ وَآمَنَّا بِأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ، أَيْ خَارِجُونَ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ.
ثُمَّ قَالَ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ أَيْ هَلْ أُخْبِرُكُمْ بِشَرِّ جَزَاءٍ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِمَّا تَظُنُّونَهُ بِنَا؟ وَهُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ هُمْ مُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصفات المفسرة بقوله مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ أَيْ أَبْعَدَهُ مِنْ رَحْمَتِهِ وَغَضِبَ عَلَيْهِ أَيْ غَضَبًا لَا يَرْضَى بَعْدَهُ أَبَدًا وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ «٢»، وَكَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ في سورة الأعراف «٣»، وَقَدْ قَالَ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ: أَهِيَ مِمَّا مَسَخَ اللَّهُ؟ فَقَالَ «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُهْلِكْ قَوْمًا، أَوْ لَمْ يَمْسَخْ قَوْمًا فَيَجْعَلْ لَهُمْ نَسْلًا وَلَا عَقِبًا، وَإِنَّ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ» وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ «٤» مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَمِسْعَرٍ، كِلَاهُمَا عَنْ مُغِيرَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَشْكُرِيِّ بِهِ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْأَعْيَنِ الْعَبْدِيِّ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ:
أَهِيَ مِنْ نَسْلِ الْيَهُودِ؟ فَقَالَ «لَا إن الله لم يلعن قوما قط فَيَمْسَخُهُمْ، فَكَانَ لَهُمْ نَسْلٌ وَلَكِنْ هَذَا خَلْقٌ كَانَ، فَلَمَّا غَضِبَ اللَّهُ عَلَى الْيَهُودِ فَمَسَخَهُمْ جَعَلَهُمْ مِثْلَهُمْ»، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ «٥» مِنْ حَدِيثِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي الْفُرَاتِ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مَحْبُوبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ
(٢) الآية ٦٥.
(٣) الآية ١٦٦.
(٤) صحيح مسلم (قدر حديث ٣٢).
(٥) مسند أحمد ١/ ٣٩٥.

رسول الله ﷺ «الْحَيَّاتُ مَسْخُ الْجِنِّ كَمَا مُسِخَتِ الْقِرَدَةُ وَالْخَنَازِيرُ» هذا حديث غريب جدا.
وقوله تعالى: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ قرئ: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ، وَالطَّاغُوتَ مَنْصُوبٌ بِهِ، أَيْ وَجُعِلَ مِنْهُمْ مَنْ عَبَدَ الطَّاغُوتَ، وَقُرِئَ: وَعَبُدَ الطَّاغُوتِ بِالْإِضَافَةِ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى وَجَعَلَ مِنْهُمْ خَدَمَ الطَّاغُوتِ، أَيْ خُدَّامَهُ وَعَبِيدَهُ، وَقُرِئَ: وَعُبُدُ الطَّاغُوتِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ الْجَمْعِ عَبْدُ وَعَبِيدٌ وَعُبُدٌ مِثْلَ ثِمَارٍ وَثُمُرٌ، حَكَاهَا ابْنُ جَرِيرٍ «١» عَنِ الْأَعْمَشِ، وَحُكِيَ عَنْ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا وَعَابِدَ الطَّاغُوتِ، وَعَنْ أُبَيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ: وَعَبَدُوا، وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْقَارِئِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا: وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، ثُمَّ اسْتَبْعَدَ مَعْنَاهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا بُعْدَ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ هَذَا من باب التعريض بهم، أي وقد عبد الطاغوت فيكم وأنتم الذين فعلتموه، وَكُلُّ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ يَرْجِعُ مَعْنَاهَا إِلَى أَنَّكُمْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ الطَّاعِنِينَ فِي دِينِنَا وَالَّذِي هُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ وَإِفْرَادُهُ بِالْعِبَادَاتِ دُونَ مَا سِوَاهُ، كَيْفَ يَصْدُرُ مِنْكُمْ هَذَا، وَأَنْتُمْ قَدْ وُجِدَ مِنْكُمْ جَمِيعُ مَا ذُكِرَ؟ وَلِهَذَا قَالَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً أَيْ مِمَّا تَظُنُّونَ بِنَا وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ وَهَذَا مِنْ بَابِ اسْتِعْمَالِ أَفَعَلَ التَّفْضِيلِ فِيمَا لَيْسَ فِي الطَّرَفِ الآخر مشاركة، كقوله عز وجل: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا.
وقوله تعالى: وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يُصَانِعُونَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الظَّاهِرِ وَقُلُوبُهُمْ مُنْطَوِيَةٌ عَلَى الكفر، ولهذا قال وَقَدْ دَخَلُوا أَيْ عِنْدِكَ يَا مُحَمَّدُ بِالْكُفْرِ أَيْ مُسْتَصْحِبِينَ الْكُفْرَ فِي قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ خَرَجُوا وَهُوَ كَامِنٌ فِيهَا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِمَا قَدْ سَمِعُوا مِنْكَ مِنَ الْعِلْمِ، وَلَا نَجَعَتْ فِيهِمُ الْمَوَاعِظُ وَلَا الزَّوَاجِرُ وَلِهَذَا قَالَ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ فخصهم به دون غيرهم، وقوله تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ أَيْ وَاللَّهُ عالم بسرائرهم وما تنطوي عليه ضَمَائِرُهُمْ، وَإِنْ أَظْهَرُوا لِخَلْقِهِ خِلَافَ ذَلِكَ، وَتَزَيَّنُوا بما ليس فيهم، فإن الله عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَعْلَمُ بِهِمْ مِنْهُمْ، وَسَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ أَتَمَّ الْجَزَاءِ وَقَوْلُهُ وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ أَيْ يُبَادِرُونَ إِلَى ذَلِكَ مِنْ تَعَاطِي الْمَآثِمِ وَالْمَحَارِمِ وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى النَّاسِ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَهُمْ بِالْبَاطِلِ، لَبِئْسَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ، أَيْ لَبِئْسَ الْعَمَلُ كان عملهم، وبئس الاعتداء اعتداؤهم.
وقوله تَعَالَى: لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَصْنَعُونَ يَعْنِي هَلَّا كَانَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ تعاطي ذلك، والربانيون هم العلماء العمال أرباب الولايات عليهم، والأحبار هم العلماء فقط لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ يعني من تركهم ذلك، قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: قَالَ لِهَؤُلَاءِ حِينَ لَمْ يَنْهَوْا وَلِهَؤُلَاءِ حِينَ عملوا، قال: وذلك الأمر كان، قال: ويعملون