قِيلَ: أَحُكَّامَ الْجَاهِلِيَّةِ وَهِيَ إِشَارَةٌ إِلَى الْكُهَّانِ الَّذِينَ كَانُوا يَأْخُذُونَ الْحُلْوَانَ وَهِيَ رَشَا الْكُهَّانِ، وَيَحْكُمُونَ لَهُمْ بِحَسَبِهِ وَبِحَسَبِ الشَّهَوَاتِ، أَرَادُوا بِسَفَهِهِمْ أَنْ يَكُونَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ حَكَمًا كَأُولَئِكَ الْحُكَّامِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَبْغُونَ بِالْيَاءِ عَلَى نَسَقِ الْغَيْبَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَفِيهِ مُوَاجَهَتُهُمْ بِالْإِنْكَارِ وَالرَّدْعِ وَالزَّجْرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْغَيْبَةِ، فَهَذِهِ حِكْمَةُ الِالْتِفَاتِ وَالْخِطَابِ لِيَهُودِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ.
وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أَيْ لَا أَحَدَ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا. وتقدّم وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ «١» فَجَاءَتْ هَذِهِ الآية مشيرة لهذا الْمَعْنَى وَالْمَعْنَى: أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ هُوَ الْغَايَةُ فِي الْحُسْنِ وَفِي الْعَدْلِ. وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّقْرِيرُ، وَيَتَضَمَّنُ شَيْئًا مِنَ التَّكَبُّرِ عَلَيْهِمْ. وَاللَّامُ فِي: لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ، لِلْبَيَانِ فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ أَيْ: فِي هَيْتَ لَكَ وَسُقْيًا لَكَ أَيْ: هَذَا الْخِطَابُ. وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَحُسْنُ دُخُولِ اللَّامِ فِي لِقَوْمٍ مِنْ حَيْثُ المعنى يبين ذَلِكَ، وَيَظْهَرُ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. وَقِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى عِنْدَ أَيْ عِنْدَ قَوْمٍ يُوقِنُونَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَقِيلَ: تَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: حُكْمًا، أَيْ أَنَّ أحكم اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِ عَلَى الْكَافِرِ. ومتعلق يوقنون محذوف تقديره: يوقنون بالقرآن قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَقِيلَ: يُوقِنُونَ بِاللَّهِ تَعَالَى قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يُوقِنُونَ يُثْبِتُونَ عَهْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي حُكْمِهِ، وَخُصُّوا بِالذِّكْرِ لِسُرْعَةِ إِذْعَانِهِمْ لِحُكْمِ اللَّهِ وَأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ أَنْ لَا أَعْدَلَ مِنْهُ ولا أحسن حكما.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٥١ الى ٧٥]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥)
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (٥٨) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠)
وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣) وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥)
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ مَا يَعْمَلُونَ (٦٦) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩) لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠)
وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥)
الدَّائِرَةُ: وَاحِدَةُ الدَّوَائِرِ، وَهِيَ صُرُوفُ الدَّهْرِ، وَدُوَلُهُ، وَنَوَازِلُهُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَيَعْلَمُ أَنَّ الدَّائِرَاتِ تَدُورُ اللَّعِبُ مَعْرُوفٌ وَهُوَ مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَفِعْلُهُ لَعِبَ يَلْعَبُ. الْإِطْفَاءُ: الْإِخْمَادُ حَتَّى لَا يَبْقَى أَثَرٌ. الْأَفْكُ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مَصْدَرُ أَفَكَهُ يَأْفِكُهُ، أَيْ قَلَبَهُ وَصَرَفَهُ. وَمِنْهُ: أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا «١» يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ. قَالَ عُرْوَةُ بن أذينة:
إِنْ كُنْتَ عَنْ أَحْسَنِ الْمُرُوءَةِ مَأْ | فُوكًا فَفِي آخَرِينَ قَدْ أُفِكُوا |
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ قَالَ الزُّهْرِيُّ وغيره: سبب نزولها ولها قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَاسْتِمْسَاكِهِ بِحِلْفِ يَهُودَ، وَتَبَرُّؤِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مِنْ حِلْفِهِمْ عِنْدَ انْقِضَاءِ بَدْرٍ وَعُبَادَةُ، فِي قِصَّةٍ فِيهَا طُولٌ هَذَا مُلَخَّصُهَا.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: سَبَبُهَا أَمْرُ أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ وَإِشَارَتُهُ إِلَى قُرَيْظَةَ أَنَّهُ الذَّبْحُ حِينَ اسْتَفْهَمُوهُ عَنْ رَأْيِهِ فِي نُزُولِهِمْ عَنْ حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا نَزَلَ بِالْمُسْلِمِينَ أَمْرُ أُحِدٍ فَزِعَ مِنْهُمْ قَوْمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: نَأْخُذُ مِنَ الْيَهُودِ عَهْدًا يُعَاضِدُونَا إِنْ أَلَمَّتْ بِنَا قَاصِمَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَوْ سَائِرِ الْعَرَبِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَلْحَقُ بِالنَّصَارَى فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: هِيَ عَامَّةٌ فِي الْمُنَافِقِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَظَاهَرُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى.
نَهَى تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَنْصُرُونَهُمْ وَيَسْتَنْصِرُونَ بِهِمْ، وَيُعَاشِرُونَهُمْ مُعَاشَرَةَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقِرَاءَةُ أُبَيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَرْبَابًا مَكَانَ أَوْلِيَاءَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ مِنَ النَّهْيِ مُشْعِرَةٌ بِعِلَّةِ الْوِلَايَةِ وَهُوَ اجْتِمَاعُهُمْ فِي الْكُفْرِ وَالْمُمَالَأَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي بَعْضِهِمْ يَعُودُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَقِيلَ: الْمَعْنَى عَلَى أَنَّ ثَمَّ مَحْذُوفًا وَالتَّقْدِيرُ: بَعْضُ الْيَهُودِ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَبَعْضُ النَّصَارَى أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، لِأَنَّ الْيَهُودَ لَيْسُوا أَوْلِيَاءَ النَّصَارَى، وَلَا النَّصَارَى أَوْلِيَاءَ الْيَهُودِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: جَمَعَهُمْ فِي الضَّمِيرِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، وَدَلَّ مَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْمُعَادَاةِ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَأَنَّ بَعْضَ الْيَهُودِ لَا يَتَوَلَّى إِلَّا جِنْسَهُ، وَبَعْضُ النَّصَارَى كَذَلِكَ. قَالَ الْحَوْفِيُّ: هِيَ جُمْلَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ فِي مَوْضِعِ النَّعْتِ لِأَوْلِيَاءَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ.
وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِنَّهُ مِنْهُمْ فِي حُكْمِ الْكُفْرِ، أَيْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فِي الدِّينِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ مِنْهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فِي الْعَهْدِ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ فِي مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ. وَهَذَا تَشْدِيدٌ عَظِيمٌ فِي الِانْتِفَاءِ مَنْ أَهْلِ الْكُفْرِ، وَتَرْكِ مُوَالَاتِهِمْ، وَإِنْحَاءِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍ وَمَنِ اتَّصَفَ بِصِفَتِهِ. وَلَا يَدْخُلُ فِي الْمُوَالَاةِ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ غير مصافاة، وَمَنْ تَوَلَّاهُمْ بِأَفْعَالِهِ دُونَ مُعْتَقَدِهِ وَلَا إِخْلَالٍ بِإِيمَانٍ فَهُوَ صفحة رقم 291
مِنْهُمْ فِي الْمَقْتِ وَالْمَذَمَّةِ، وَمَنْ تَوَلَّاهُمْ فِي الْمُعْتَقَدِ فَهُوَ مِنْهُمْ فِي الْكُفْرِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ ذَبَائِحِ نَصَارَى الْعَرَبِ، وَقَالَ: مَنْ دَخَلَ فِي دِينِ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ. وَسُئِلَ ابْنُ سِيرِينَ عَنْ رَجُلٍ يَبِيعُ دَارَهُ لِنَصْرَانِيٍّ لِيَتَّخِذَهَا كَنِيسَةً: فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا»
وَقَالَ عُمَرُ لِأَبِي مُوسَى فِي كَاتِبِهِ النَّصْرَانِيِّ: لَا تُكْرِمُوهُمْ إِذْ أَهَانَهُمُ اللَّهُ، وَلَا تَأْمَنُوهُمْ إِذْ خَوَّنَهُمُ اللَّهُ، وَلَا تُدْنُوهُمْ إِذْ أَقْصَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ لَهُ أَبُو موسى لا قوام للصرة إِلَّا بِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: مَاتَ النَّصْرَانِيُّ وَالسَّلَامُ.
إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ وَالْمَعْنَى عَلَى الْخُصُوصِ، أَيْ: مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يَهْتَدِي. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَوْ يُرَادُ التَّخْصِيصُ مُدَّةَ الظُّلْمِ وَالتَّلَبُّسِ بِفِعْلِهِ، فَإِنَّ الظُّلْمَ لَا هُدَى فِيهِ، وَالظَّالِمُ مِنْ حَيْثُ هُوَ ظَالِمٌ لَيْسَ بِمُهْتَدٍ فِي ظُلْمِهِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الظَّالِمُ مَنْ أَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَرَادَ الْمُنَافِقِينَ. وَقِيلَ: الظَّالِمُ هُوَ الَّذِي وَضَعَ الْوِلَايَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَرِيبًا مِنْ هَذَا، قَالَ: يَعْنِي الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِمُوَالَاةِ الْكُفْرِ يَمْنَعُهُمُ اللَّهُ أَلْطَافَهُ، وَيَخْذُلُهُمْ مَقْتًا لَهُمْ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ.
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، أَوْ مِنْ مُؤْمِنِي الْخَزْرَجِ مُتَابَعَةَ جَهَالَةٍ وَعَصَبِيَّةٍ، فَهَذَا الصِّنْفُ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ مَرَضِ الْقَلْبِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَمَعْنَى يُسَارِعُونَ فِيهِمْ: أَيْ فِي مُوَالَاتِهِمْ وَيَرْغَبُونَ فِيهَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْمَرَضِ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ.
وَقَرَأَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ وَثَّابٍ: فَيَرَى بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتٍ، وَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ، أو الرَّأْيِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ فَاعِلَ تَرَى، وَالْمَعْنَى: أَنْ يُسَارِعُوا، فَحُذِفَتْ أَنْ إِيجَازًا انْتَهَى. وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ حَذْفَ إِنْ مِنْ نَحْوِ هَذَا لَا يَنْقَاسُ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَالْأَعْمَشُ: يُسْرِعُونَ بِغَيْرِ أَلِفٍ مِنْ أَسْرَعَ، وَفَتَرَى إِنْ كَانَتْ مِنْ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ كَانَ يُسَارِعُونَ حَالًا، أَوْ مِنْ رُؤْيَةِ الْقَلْبِ فَفِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، يقولون: نخشى أن تصيبنا دَائِرَةٌ، هَذَا مَحْفُوظٌ مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَقَالَهُ مَعَهُ مُنَافِقُونَ كَثِيرُونَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ نَخْشَى أَنْ لَا يَتِمَّ أَمْرُ مُحَمَّدٍ فَيَدُورَ الْأَمْرُ عَلَيْنَا. وَقِيلَ: الدَّائِرَةُ مِنْ جَدْبٍ وَقَحْطٍ. وَلَا يُمِيرُونَنَا وَلَا يُقْرِضُونَنَا. وَقِيلَ: دَائِرَةٌ تُحْوِجُ إِلَى يَهُودَ وإلى مَعُونَتِهِمْ.
فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ هَذَا بِشَارَةٌ لِلرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِوَعْدِهِ تَعَالَى بِالْفَتْحِ وَالنُّصْرَةِ. قَالَ قَتَادَةُ: عَنَى بِهِ الْقَضَاءَ فِي هَذِهِ النوازل والفتاح الفاضي. وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي بِهِ فَتْحَ مَكَّةَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَظَاهِرُ الْفَتْحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ظُهُورُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُلُوِّ كَلَمَتِهِ فَيُسْتَغْنَى عَنِ الْيَهُودِ. وَقِيلَ: فَتْحُ بِلَادِ الْمُشْرِكِينَ. وَقِيلَ: فَتْحُ قُرَى الْيَهُودِ، يُرِيدُونَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ وَفَدَكَ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُمَا. وَقِيلَ: الْفَتْحُ الْفَرَجُ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ.
وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ «١» هُوَ إِجْلَاءُ بَنِي النَّضِيرِ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ، لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ فِيهِ فِعْلٌ بَلْ طَرَحَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَأَعْطَوْا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوجَفَ عَلَيْهِمْ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، وَقَتْلُ قُرَيْظَةَ وَسَبْيُ ذَرَارِيهِمْ قَالَهُ: ابْنُ السَّائِبِ وَمُقَاتِلٌ. وَقِيلَ: إِذْلَالُهُمْ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ. وَقِيلَ: الخصب والرّخاء قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِظْهَارُ أَمْرِ الْمُنَافِقِينَ وَتَرَبُّصِهِمُ الدَّوَائِرَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ إِنَّمَا هُوَ لِأَنَّ الْفَتْحَ الْمَوْعُودَ بِهِ هُوَ مِمَّا تَرَتَّبَ عَلَى سَعْيِ النَّبِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَنِسَبِ جِدِّهِمْ وَعَمَلِهِمْ، فَوَعْدُ اللَّهِ تَعَالَى إِمَّا بِفَتْحٍ يَقْتَضِي تِلْكَ الْأَعْمَالَ، وَإِمَّا بِأَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ يُهْلِكُ أَعْدَاءَ الشَّرْعِ، هُوَ أَيْضًا فَتْحٌ لَا يَقَعُ لِلْبَشَرِ فِيهِ تَسَبُّبٌ انْتَهَى.
فَيُصْبِحُوا عَلى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ أَيْ يَصِيرُونَ نَادِمِينَ عَلَى مَا حَدَّثَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ لَا يَتِمُّ، وَلَا تَكُونُ الدَّوْلَةُ لَهُمْ إِذَا أَتَى اللَّهُ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ.
وَقِيلَ: مُوَالَاتُهُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: فَتُصْبِحُ الْفُسَّاقُ جَعَلَ الْفُسَّاقَ مَكَانَ الضَّمِيرِ. قَالَ بن عَطِيَّةَ: وَخُصَّ الْإِصْبَاحُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي لَيْلِهِ مُفَكِّرٌ، فَعِنْدَ الصَّبَاحِ يَرَى الْحَالَةَ الَّتِي اقْتَضَاهَا فِكْرُهُ انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ لَنَا نَحْوٌ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ، وَذَكَرْنَا أَنْ أَصْبَحَ تَأْتِي بِمَعْنَى صَارَ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ كَيْنُونَةٍ فِي الصَّبَاحِ، وَاتَّفَقَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: فَيُصْبِحُوا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَنْ يَأْتِيَ «٢» وهو الظاهر، ومجور ذَلِكَ هُوَ الْفَاءُ، لِأَنَّ فِيهَا مَعْنَى التَّسَبُّبِ، فَصَارَ نَظِيرَ الَّذِي يَطِيرُ فَيَغْضَبُ زَيْدٌ الذُّبَابُ، فَلَوْ كَانَ الْعَطْفُ بِغَيْرِ الْفَاءِ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ كَانَ يَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى أَنْ يَأْتِيَ خَبَرٌ لِعَسَى، وَهُوَ خَبَرٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْخَبَرِ خَبَرٌ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ رَابِطٌ إِنْ كَانَ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَى الرَّابِطِ، وَلَا رَابِطَ هُنَا، فَلَا يَجُوزُ الْعَطْفُ. لَكِنَّ الْفَاءَ انْفَرَدَتْ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ حُرُوفِ الْعَطْفِ بِتَسْوِيغِ الِاكْتِفَاءِ بِضَمِيرٍ وَاحِدٍ فِيمَا تَضَمَّنَ جُمْلَتَيْنِ مِنْ صِلَةٍ كَمَا مَثَّلَهُ، أَوْ صِفَةٍ نَحْوَ مَرَرْتُ بِرَجُلٍ يَبْكِي فَيَضْحَكُ عَمْرٌو، أَوْ خبر
(٢) سورة المائدة: ٥/ ٥٢.
نَحْوَ زَيْدٌ يَقُومُ فَيَقْعُدُ بِشْرٌ. وَجَوَّزَ أَنْ لَا يَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى أَنْ يَأْتِيَ، وَلَكِنَّهُ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ بَعْدَ الْفَاءِ فِي جَوَابِ التَّمَنِّي، إِذْ عَسَى تَمَنٍّ وَتَرَجٍّ فِي حَقِّ الْبَشَرِ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ.
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ قَالَ المفسرون: لما أجلى بني النَّضِيرِ تَأَسَّفَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى فِرَاقِهِمْ، وَجَعَلَ الْمُنَافِقُ يَقُولُ لِقَرِيبِهِ الْمُؤْمِنِ إِذَا رَآهُ جَادًّا فِي مُعَادَاةِ الْيَهُودِ: هَذَا جَزَاؤُهُمْ مِنْكَ طَالَ، وَاللَّهِ مَا أَشْبَعُوا بَطْنَكَ، فَلَمَّا قُتِلَتْ قُرَيْظَةُ لَمْ يُطِقْ أَحَدٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ سَتْرَ مَا فِي نَفْسِهِ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ:
أَرْبَعُمِائَةٍ حُصِدُوا فِي لَيْلَةٍ؟ فَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ مَا قَدْ ظَهَرَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ قَالُوا: أَهَؤُلَاءِ أَيِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ؟ وَالْمَعْنَى: يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ تَعَجُّبًا مِنْ حَالِهِمْ إِذْ أَغْلَظُوا بِالْأَيْمَانِ لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُمْ مَعَكُمْ، وَإِنَّهُمْ مُعَاضِدُوكُمْ عَلَى الْيَهُودِ، فَلَمَّا حَلَّ بِالْيَهُودِ مَا حَلَّ ظَهَرَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مَا كَانُوا يُسِرُّونَهُ مِنْ مُوَالَاةِ الْيَهُودِ وَالتَّمَالُؤِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَقُولَ الْمُؤْمِنُونَ ذَلِكَ لِلْيَهُودِ، وَيَكُونَ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ لِلْيَهُودِ، لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ حَلَفُوا لِلْيَهُودِ بِالْمُعَاضَدَةِ وَالنُّصْرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ «١» فَقَالُوا ذَلِكَ لِلْيَهُودِ يُجَسِّرُونَهُمْ عَلَى مُوَالَاةِ الْمُنَافِقِينَ، وَأَنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَغْتَبِطُونَ بِمَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ إِخْلَاصِ الْإِيمَانِ وَمُوَالَاةِ الْيَهُودِ.
وَقَرَأَ الِابْنَانِ وَنَافِعٌ: بِغَيْرِ وَاوٍ، كَأَنَّهُ جَوَابُ قَائِلٍ مَا يَقُولُ الْمُؤْمِنُونَ حِينَئِذٍ. فَقِيلَ: يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا، وَكَذَا هِيَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالْوَاوِ، وَنَصَبَ اللَّامَ أَبُو عَمْرٍو، وَرَفَعَهَا الْكُوفِيُّونَ. وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ نَصْرٍ عَنْ أَبِي عُمَرَ: وَالرَّفْعُ وَالنَّصْبُ، وَقَالُوا:
وَهِيَ فِي مَصَاحِفِ الْكُوفَةِ وَأَهْلِ الْمَشْرِقِ. وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ، هَذَا إِذَا رَفَعَ اللَّامَ، وَمَعَ حَذْفِ الْوَاوِ الِاتِّصَالُ مَوْجُودٌ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ، ذِكْرٌ مِنَ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ إِذِ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ وَقَالُوا: نَخْشَى، وَيُصْبِحُوا هُمُ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ: أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا، وَتَارَةً يُكْتَفَى فِي الِاتِّصَالِ بِالضَّمِيرِ، وَتَارَةً يُؤَكَّدُ بِالْعَطْفِ بِالْوَاوِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ صَادِرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْفَتْحِ كَمَا قَدَّمْنَا.
قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتِ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يقولون: نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ «٢» وعند ما ظَهَرَ سُؤَالُهُمْ فِي أَمْرِ بَنِي قَيْنُقَاعَ وَسُؤَالِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فِيهِمْ، وَنَزْلِ الرَّسُولِ إِيَّاهُمْ لَهُ، وَإِظْهَارِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ خَشْيَةَ الدَّوَائِرِ هِيَ خَوْفُهُ عَلَى الْمَدِينَةِ وَمَنْ بِهَا من
(٢) سورة المائدة: ٥/ ٥٢.
الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ مُؤْمِنٍ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ، فَكَانَ فِعْلُهُ ذَلِكَ موطنا أَنْ يَقُولَ الْمُؤْمِنُونَ ذَلِكَ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ وَيَقُولَ بِالنَّصْبِ، فَوُجِّهَتْ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا عِنْدَ الْفَتْحِ، وَأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى، فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ، إِذْ مَعْنَى: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ، مَعْنَى فَعَسَى أَنْ يَأْتِيَ اللَّهُ، وَهَذَا الَّذِي يُسَمِّيهِ النَّحْوِيُّونَ الْعَطْفُ عَلَى التَّوَهُّمِ، يَكُونُ الْكَلَامُ فِي قَالَبٍ فَيُقَدِّرُهُ فِي قَالَبٍ آخَرَ، إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْطَفَ ضَمِيرُ اسْمِ اللَّهِ وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ. وَأَجَازَ ذَلِكَ أَبُو الْبَقَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ ضَمِيرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ، أَيْ بِاللَّهِ. فَهَذَا الضَّمِيرُ يَصِحُّ بِهِ الرَّبْطُ، أَوْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ عَلَى أَنْ يَكُونَ أَنْ يَأْتِيَ بَدَلًا مِنِ اسْمِ اللَّهِ لَا خَبَرًا، فَتَكُونُ عَسَى إِذْ ذَاكَ تَامَّةً لَا نَاقِصَةً، كَأَنَّكَ قُلْتَ: عَسَى أَنْ يَأْتِيَ، وَيَقُولَ: أَوْ مَعْطُوفٌ عَلَى فَيُصْبِحُوا، عَلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: فَيُصْبِحُوا مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ أَنْ جَوَابًا لَعَسَى، إِذْ فِيهَا مَعْنَى التَّمَنِّي. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فِي هَذَا الْوَجْهِ نظر، أو هل هو تَجْرِي عَسَى فِي التَّرَجِّي مَجْرَى لَيْتَ فِي التَّمَنِّي؟ أَمْ لَا تَجْرِي؟ وَذَكَرَ هَذَا الْوَجْهَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي يَعْلَى، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ الْحَاجِبِ غَيْرَهُ. وَعَسَى مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ فَلَا تَرَجِّي فِيهَا، وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ قَبْلَهُ تَخْرِيجُ أَبِي عَلِيٍّ. وَخَرَّجَهُ النَّحَّاسُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى قوله:
بِالْفَتْحِ «١» بِأَنْ يَفْتَحَ، وَيَقُولَ: وَلَا يَصِحُّ هَذَا لِأَنَّهُ قَدْ فُصِلَ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ: أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ، وحقه أن يكون «٢» بلعه لِأَنَّ الْمَصْدَرَ يَنْحَلُّ لِأَنْ وَالْفِعْلِ، فَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مِنْ تَمَامِهِ، فَلَا يُفْصَلُ بَيْنَهُمَا. وَهَذَا إِنْ سُلِّمَ أَنَّ الْفَتْحَ مَصْدَرٌ، فَيَحِلُّ لِأَنْ وَالْفِعْلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهِ ذَلِكَ، بَلْ هُوَ كَقَوْلِكَ: يُعْجِبُنِي مِنْ زَيْدٍ ذَكَاؤُهُ وَفَهْمُهُ، لَا يُرَادُ بِهِ انْحِلَالُهُ، لِأَنْ وَالْفِعْلِ وَعَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ أَيْضًا، لِأَنَّ الْمَعْنَى لَيْسَ عَلَى: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ، بِأَنْ يَقُولَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَا. وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ بِقَوْلِهِ: فَيُصْبِحُوا «٣» وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ مِنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ فَيُصْبِحُوا أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى أَنْ يَأْتِيَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُكَ: هِنْدٌ الْفَاسِقَةُ أَرَادَ زَيْدٌ إِذَايَتَهَا بِضَرْبٍ أَوْ حَبْسٍ وَإِصْبَاحَهَا ذَلِيلَةً، وَقَوْلِ أَصْحَابِهِ: أَهَذِهِ الْفَاسِقَةُ الَّتِي زَعَمْتَ أَنَّهَا عَفِيفَةٌ؟ فَيَكُونُ وَقَوْلِ مَعْطُوفًا عَلَى بِضَرْبٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عِنْدِي فِي مَنْعِ جَوَازِ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَقُولَ الْمُؤْمِنُونَ نَظَرٌ، إِذِ الَّذِينَ نَصَرَهُمْ يَقُولُونَ: نَنْصُرُهُ بِإِظْهَارِ دِينِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ رَاجِعٌ إِلَى أَنْ يَصِيرَ سَبَبًا لِأَنَّهُ صَارَ فِي الْجُمْلَةِ
(٢) هكذا وجدت هذه الكلمة بالنسخ التي بأيدينا وكذا جميع النسخ المقابلة عليها هذه النسخة ولم نعرف لها معنى فلتحررا هـ. مصححة.
(٣) سورة المائدة: ٥/ ٥٢.
ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ تَقْدِيرُهُ بِنَصْرِهِ وَإِظْهَارِ دِينِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا خِلَافَ فِي الْجَوَازِ. وَإِنَّمَا مَنَعُوا حَيْثُ لَا يَكُونُ رَابِطٌ وَانْتِصَابُ جَهْدَ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ، وَالْمَعْنَى:
أَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُقْسِمُونَ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُمْ فِي الْأَيْمَانِ أَنَّهُمْ مَعَكُمْ؟ ثُمَّ ظَهَرَ الْآنَ مِنْ مُوَالَاتِهِمُ الْيَهُودَ مَا أَكْذَبَهُمْ فِي أَيْمَانِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الْحَالِ، كَمَا جَوَّزُوا فِي فَعَلْتَهُ جَهْدَكَ وَقَوْلُهُ: إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ، حِكَايَةٌ لِمَعْنَى الْقَسَمِ لَا لِلَفْظِهِمْ، إِذْ لَوْ كَانَ لَفْظُهُمْ لَكَانَ إِنَّا لَمَعَكُمْ.
حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَقُولُهُ الْمُؤْمِنُونَ اعْتِمَادًا فِي الْإِخْبَارِ عَلَى مَا حَصَلَ فِي اعْتِقَادِهِمْ أَيْ: بَطَلَتْ أَعْمَالُهُمْ إِنْ كانوا يتكفلونها فِي رَأَيِ الْعَيْنِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِيهِ مَعْنَى التَّعَجُّبِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا أَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ فَمَا أَخْسَرَهُمْ! وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ خَبَرًا بَلْ دُعَاءً إِمَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِمَّا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَحَبْطُ الْعَمَلِ هُنَا هُوَ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ، وَإِلَّا فَلَا عَمَلَ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ فَيُحْبَطُ وَجُوَّزَ الْحَوْفِيُّ أَنْ يَكُونَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ خَبَرًا ثَانِيًا عَنْ هَؤُلَاءِ، وَالْخَبَرُ الْأَوَّلُ هُوَ قَوْلُهُ الَّذِينَ أَقْسَمُوا، وَأَنْ يَكُونَ الَّذِينَ، صِفَةً لِهَؤُلَاءِ، وَيَكُونَ حَبِطَتْ هُوَ الْخَبَرُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ قِرَاءَةِ أَبِي وَاقِدٍ وَالْجَرَّاحِ حَبَطَتْ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَأَنَّهَا لُغَةٌ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ وَابْنُ كَعْبٍ وَالضَّحَّاكِ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُهُمْ: نَزَلَتْ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَمَنْ يَرْتَدَّ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَهِيَ إِخْبَارٌ عَنِ الْغَيْبِ.
وَتَعَرَّضَ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا لِمَنِ ارْتَدَّ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ نَخْتَصِرُهَا، فَنَقُولُ: ارْتَدَّ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَذْحِجٌ وَرَئِيسُهُمْ عَبْهَلَةُ بْنُ كَعْبٍ ذُو الْخِمَارِ، وَهُوَ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ قَتَلَهُ فَيْرُوزٌ عَلَى فِرَاشِهِ، وَأَخْبَرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ، وَسَمَّى قَاتِلَهُ لَيْلَةَ قُتِلَ. وَمَاتَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْغَدِ، وَأَتَى خَبَرُ قَتْلِهِ فِي آخِرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَبَنُو حَنِيفَةَ رَئِيسُهُمْ مُسَيْلِمَةُ قَتَلَهُ وَحْشِيٌّ، وَبَنُو أَسَدٍ رَئِيسُهُمْ طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ هَزَمَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَأَفْلَتَ ثُمَّ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ. هَذِهِ ثَلَاثُ فِرَقٍ ارْتَدَّتْ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى الله عليه وسلم، وَتَنَبَّأَ رُؤَسَاؤُهُمْ. وَارْتَدَّ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَبْعُ فِرَقٍ. فَزَارَةُ قَوْمُ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، وَغَطَفَانُ قَوْمُ قُرَّةَ بْنِ سَلَمَةَ الْقُشَيْرِيِّ، وَسُلَيْمٌ قوم الفجاه بن عبد يا ليل، وَيَرْبُوعٌ قَوْمُ مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ، وَبَعْضُ تَمِيمٍ قَوْمُ سَجَاحِ بِنْتِ الْمُنْذِرِ وَقَدْ تَنَبَّأَتْ وَتَزَوَّجَهَا مُسَيْلِمَةُ وَقَالَ: الشَّاعِرُ:
أَضْحَتْ نَبِيَّتُنَا أُنْثَى نَطِيفُ بِهَا | وَأَصْبَحَتْ أَنْبِيَاءُ اللَّهِ ذُكْرَانَا |
أَمَّتْ سَجَاحِ وَوَالَاهَا مُسَيْلِمَةُ | كَذَّابَةٌ فِي بَنِي الدُّنْيَا وَكَذَّابُ |
وَفِي الْقَوْمِ الَّذِينَ يَأْتِي اللَّهُ بِهِمْ: أَبُو بَكْرٍ وَأَصْحَابُهُ، أَوْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَأَصْحَابُهُمَا، أَوْ قَوْمُ أَبِي مُوسَى، أَوْ أَهْلُ الْيَمَنِ أَلْفَانِ مِنَ الْبَحْرِ وَخَمْسَةُ آلَافٍ مِنْ كِنْدَةَ وَبَجِيلَةَ، وَثَلَاثَةُ آلَافٍ مِنْ أَخْلَاطِ النَّاسِ جَاهَدُوا أَيَّامَ الْقَادِسِيَّةِ أَيَّامَ عُمَرَ. أَوِ الْأَنْصَارُ، أَوْ هُمُ الْمُهَاجِرُونَ، أَوْ أَحْيَاءٌ مِنَ الْيَمَنِ مِنْ كِنْدَةَ وَبَجِيلَةَ وَأَشْجَعَ لَمْ يَكُونُوا وَقْتَ النُّزُولِ قَاتَلَ بِهِمْ أَبُو بَكْرٍ فِي الرِّدَّةِ، أَوِ الْقُرْبَى، أَوْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَاتَلَ الْخَوَارِجَ أَقْوَالٌ تِسْعَةٌ.
وَفِي الْمُسْتَدْرَكِ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمِ بِإِسْنَادٍ: أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم إلي أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فَقَالَ قَوْمٌ: هَذَا.
وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ، وَكَانَ لَهُمْ بَلَاءٌ فِي الْإِسْلَامِ زَمَانَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَامَّةُ فَتُوحِ عُمَرَ عَلَى أَيْدِيهِمْ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: مَنْ يَرْتَدِدْ بِدَالَيْنِ مَفْكُوكًا، وَهِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ. وَالْبَاقُونَ بِوَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ. وَالْعَائِدُ عَلَى اسْمِ الشَّرْطِ مِنْ جُمْلَةِ الْجَزَاءِ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ غَيْرِهِمْ، أَوْ مَكَانَهُمْ. وَيُحِبُّونَهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: يُحِبُّهُمْ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ تقديره:
وهن يُحِبُّونَهُ انْتَهَى. وَهَذَا ضَعِيفٌ لَا يُسَوَّغُ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ. وَوَصَفَ تَعَالَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ بِأَنَّهُ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، مَحَبَّةُ اللَّهِ لَهُمْ هِيَ تَوْفِيقُهُمْ لِلْإِيمَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ «١» وَإِثَابَتُهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى سَائِرِ الطَّاعَاتِ، وَتَعْظِيمُهُ إِيَّاهُمْ، وَثَنَاؤُهُ عَلَيْهِمْ، ومحبتهم له طاعته، وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، وَامْتِثَالُ مَأْمُورَاتِهِ. وَقَدَّمَ مَحَبَّتَهُ عَلَى مَحَبَّتِهِمْ إِذْ هِيَ أَشْرَفُ وَأَسْبَقُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَمَّا مَا يَعْتَقِدُهُ أَجْهَلُ النَّاسِ وَأَعْدَاهُمْ لِلْعِلْمِ وَأَهْلِهِ، وَأَمْقُتُهُمْ لِلشَّرْعِ، وَأَسْوَأُهُمْ طَرِيقَةً، وَإِنْ كَانَتْ طَرِيقَتُهُ عِنْدَ أَمْثَالِهِ مِنَ السُّفَهَاءِ وَالْجَهَلَةِ شَيْئًا وَهُمُ: الْفِرْقَةُ الْمُنْفَعِلَةُ وَالْمُتَفَعِّلَةُ مِنَ الصُّوفِ وَمَا يَدِينُونَ بِهِ مِنَ الْمَحَبَّةِ وَالْعِشْقِ وَالتَّغَنِّي على
كَرَاسِيِّهِمْ خَرَّبَهَا اللَّهُ، وَفِي مَرَاقِصِهِمْ عَطَّلَهَا اللَّهُ، بِأَبْيَاتِ الْغَزَلِ الْمَقُولَةِ فِي الْمُرْدَانِ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمْ شُهَدَاءَ اللَّهِ وَصَعَقَاتِهِمُ الَّتِي تُشْبِهُ صَعْقَةَ مُوسَى عِنْدَ دَكِّ الطُّورِ، فَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَمِنْ كَلِمَاتِهِ كَمَا أَنَّهُ بِذَاتِهِ يُحِبُّهُمْ، كَذَلِكَ يُحِبُّونَ ذَاتَهُ، فَإِنَّ الْهَاءَ رَاجِعَةٌ إِلَى الذَّاتِ دُونَ النُّعُوتِ وَالصِّفَاتِ. وَمِنْهَا الْحُبُّ شَرْطُهُ أَنْ تَلْحَقَهُ سَكَرَاتُ الْمَحَبَّةِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَقِيقَةً انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ بَعْضُ الْمُعَاصِرِينَ:
قَدْ عَظُمَ أَمْرُ هَؤُلَاءِ الْمُنْفَعِلَةِ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَكَثُرَ الْقَوْلُ فِيهِمْ بِالْحُلُولِ وَالْوَحْدَةِ، وَسِرِّ الْحُرُوفِ، وَتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ عَلَى طَرِيقِ الْقَرَامِطَةِ الْكُفَّارِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَادِّعَاءِ أَعْظَمِ الْخَوَارِقِ لِأَفْسَقِ الْفُسَّاقِ، وَبُغْضِهِمْ فِي الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ، حَتَّى إِنَّ طَائِفَةً مِنَ الْمُحَدِّثِينَ قَصَدُوا قِرَاءَةَ الْحَدِيثِ عَلَى شَيْخٍ فِي خَانِقَاتِهِمْ يَرْوِي الْحَدِيثَ فَبِنَفْسِ ما قرأوا شَيْئًا مِنْ حَدِيثِ الرَّسُولِ. خَرَجَ شَيْخُ الشُّيُوخِ الَّذِينَ هُمْ يَقْتَدُونَ بِهِ، وَقَطَعَ قِرَاءَةَ الْحَدِيثِ، وَأَخْرَجَ الشَّيْخَ الْمُسَمِّعَ وَالْمُحَدِّثِينَ وَقَالَ:
رُوحُوا إِلَى الْمَدَارِسِ شَوَّشْتُمْ عَلَيْنَا. وَلَا يُمَكِّنُونَ أَحَدًا مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ جَهْرًا، وَلَا مِنَ الدَّرْسِ لِلْعِلْمِ. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ بِالدَّهْرِ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ، سَمِعَ نَاسًا فِي جَامِعٍ يقرأون الْقُرْآنَ فَصَعِدَ كُرْسِيَّهُ الَّذِي يَهْدِرُ عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَصْحَابَنَا شَوَّشُوا عَلَيْنَا، وَقَامَ نَافِضًا ثَوْبَهُ، فَقَامَ أَصْحَابُهُ وَهُوَ يَدُلُّهُمْ لِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ، فَضَرَبُوهُمْ أَشَدَّ الضَّرْبِ، وَسُلَّ عَلَيْهِمُ السَّيْفُ مِنَ أَتْبَاعِ ذَلِكَ الْهَادِرِ وَهُوَ لَا يَنْهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ. وَقَدْ عَلَّمَ أَصْحَابَهُ كَلَامًا افْتَعَلُوهُ عَلَى بَعْضِ الصَّالِحِينَ حَفَّظَهُمْ إِيَّاهُ يَسْرُدُونَهُ حِفْظًا كَالسُّورَةِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يُعَلِّمُهُمْ فَرَائِضَ الْوُضُوءِ، وَلَا سُنَنَهُ، فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا مِنْ تَكَالِيفِ الْإِسْلَامِ. وَالْعَجَبُ أَنَّ كُلًّا من هؤلاء الرؤوس يُحْدِثُ كَلَامًا جَدِيدًا يُعَلِّمُهُ أَصْحَابَهُ حَتَّى يَصِيرَ لَهُمْ شِعَارًا، وَيَتْرُكُ مَا صَحَّ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا. وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى غَثَاثَةِ كَلَامِهِمْ، وَعَامِّيَّتِهِ، وَعَدَمِ فَصَاحَتِهِ، وَقِلَّةِ مَحْصُولِهِ، وَهُمْ مُسْتَمْسِكُونَ بِهِ كَأَنَّهُ جَاءَهُمْ بِهِ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ.
وَلَنْ تَرَى أَطْوَعَ مِنَ الْعَوَامِّ لِهَؤُلَاءِ يَبْنُونَ لَهُمُ الْخَوَانِقَ وَالرُّبُطَ، وَيَرْصُدُونَ لَهُمُ الْأَوْقَافَ، وَهُمْ أَبْغَضُ النَّاسِ فِي الْعِلْمِ وَالْعُلَمَاءِ، وَأَحَبُّهُمْ لِهَذِهِ الطَّوَائِفِ. وَالْجَاهِلُونَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ أَعْدَاءٌ.
أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ هُوَ جَمْعُ ذَلِيلٍ لَا جَمْعُ ذَلُولٍ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الضَّعْفِ، لِأَنَّ ذَلُولًا لَا يُجْمَعُ عَلَى أَذِلَّةٍ بَلْ ذَلَلٍ، وَعُدِّيَ أَذِلَّةٍ بِعَلَى وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ بِاللَّامِ، لِأَنَّهُ ضَمَّنَهُ مَعْنَى الْحُنُوِّ وَالْعَطْفِ كَأَنَّهُ قَالَ: عَاطِفِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عَلَى وَجْهِ التَّذَلُّلِ وَالتَّوَاضُعِ. قِيلَ: أَوْ لِأَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ التَّقْدِيرُ: عَلَى فَضْلِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَذِلُّونَ وَيَخْضَعُونَ لِمَنْ فُضِّلُوا عَلَيْهِ مَعَ شَرَفِهِمْ وَعُلُوِّ مَكَانِهِمْ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ:
أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ «١» وَجَاءَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ بِالِاسْمِ الَّذِي فِيهِ الْمُبَالَغَةُ، لِأَنَّ أَذِلَّةً جَمْعُ ذَلِيلٍ وَأَعِزَّةً جَمْعُ عَزِيزٍ، وَهُمَا صِفَتَا مُبَالَغَةٍ، وَجَاءَتِ الصِّفَةُ قَبْلَ هَذَا بِالْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ «٢» لِأَنَّ الِاسْمَ يَدُلُّ عَلَى الثُّبُوتِ، فَلَمَّا كَانَتْ صِفَةَ مُبَالَغَةٍ، وَكَانَتْ لَا تَتَجَدَّدُ بَلْ هِيَ كَالْغَرِيزَةِ، جَاءَ الْوَصْفُ بِالِاسْمِ. وَلَمَّا كَانَتْ قَبْلُ تَتَجَدَّدُ، لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ أَفْعَالِ الطَّاعَةِ وَالثَّوَابِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهَا، جَاءَ الْوَصْفُ بِالْفِعْلِ الَّذِي يَقْتَضِي التَّجَدُّدَ. وَلَمَّا كَانَ الْوَصْفُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْمُؤْمِنِ أَوْكَدَ، وَلِمَوْصُوفِهِ الَّذِي قُدِّمَ عَلَى الْوَصْفِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْكَافِرِ، وَلِشَرَفِ الْمُؤْمِنِ أَيْضًا. وَلَمَّا كَانَ الْوَصْفُ الَّذِي بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَرَبِّهِ أَشْرَفَ مِنَ الْوَصْفِ الَّذِي بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنِ، قُدِّمَ قَوْلُهُ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ عَلَى قَوْلِهِ: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْوَصْفَ إِذَا كَانَ بِالِاسْمِ وَبِالْفِعْلِ لَا يَتَقَدَّمُ الْوَصْفُ بِالْفِعْلِ عَلَى الْوَصْفِ بِالِاسْمِ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ نَحْوَ قَوْلِهِ:
وَفَرْعٍ يُغَشِّي الْمَتْنَ أَسْوَدَ فَاحِمٍ إِذْ جَاءَ مَا ادَّعَى أَنَّهُ يَكُونُ فِي الضَّرُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقُدِّمَ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ- وَهُوَ فِعْلٌ- عَلَى قَوْلِهِ: أَذِلَّةٍ وَهُوَ اسْمٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ «٣» وَقُرِئَ شَاذًّا أَذِلَّةً، وَهُوَ اسْمٌ وَكَذَا أَعِزَّةً نَصْبًا عَلَى الْحَالِ مِنَ النَّكِرَةِ إِذَا قُرِّبَتْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِوَصْفِهَا. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: غُلَظَاءَ عَلَى الْكَافِرِينَ مَكَانَ أَعِزَّةٍ.
يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ فِي نُصْرَةِ دِينِهِ. وَظَاهِرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهَا صِفَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ. وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَعِزَّةٍ.
وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ أَيْ هُمْ صِلَابٌ فِي دِينِهِ، لَا يُبَالُونَ بِمَنْ لَامَ فِيهِ. فَمَتَى شَرَعُوا فِي أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نهى عن منكر، أَمْضَوْهُ لَا يَمْنَعُهُمُ اعْتِرَاضُ مُعْتَرِضٍ، وَلَا قَوْلُ قَائِلٍ هَذَانِ الْوَصْفَانِ أَعْنِي: الْجِهَادَ وَالصَّلَابَةَ فِي الدِّينِ هُمَا نَتِيجَةُ الْأَوْصَافِ السَّابِقَةِ، لِأَنَّ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ لَا يَخْشَى إِلَّا إِيَّاهُ، وَمَنْ كَانَ عَزِيزًا عَلَى الْكَافِرِ جاهد فِي إِخْمَادِهِ وَاسْتِئْصَالِهِ.
وَنَاسَبَ تَقْدِيمُ الْجِهَادِ عَلَى انْتِفَاءِ الخوف من اللائمين لمحاورته أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَلِأَنَّ
(٢) سورة المائدة: ٥/ ٥٤.
(٣) سورة الأنعام: ٦/ ٩٢.
الْخَوْفَ أَعْظَمُ مِنَ الْجِهَادِ، فَكَانَ ذَلِكَ تَرَقِّيًا مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ فِي: وَلَا يَخَافُونَ، وَاوَ الْحَالِ أَيْ: يُجَاهِدُونَ، وَحَالُهُمْ فِي الْمُجَاهَدَةِ غَيْرُ حَالِ الْمُنَافِقِينَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُوَالِينَ لِلْيَهُودِ، فَإِذَا خَرَجُوا فِي جَيْشِ الْمُؤْمِنِينَ خَافُوا أَوْلِيَاءَهُمُ الْيَهُودَ وَتَخَاذَلُوا وَخَذَلُوا حَتَّى لَا يَلْحَقُهُمْ لَوْمٌ مِنْ جِهَتِهِمْ. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَكَانُوا يُجَاهِدُونَ لِوَجْهِ اللَّهِ، لَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ. وَلَوْمَةٌ لِلْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ وَهِيَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. فَتَعُمُّ أَيْ:
لَا يَخَافُونَ شَيْئًا قَطُّ مِنَ اللَّوْمِ.
ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ الظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى ما تقدم من الْأَوْصَافِ الَّتِي تَحَلَّى بِهَا الْمُؤْمِنُ. ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ أَرَادَ، لَيْسَ ذَلِكَ بِسَابِقَةٍ مِمَّنْ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، بَلْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِحْسَانِ مِنْهُ تَعَالَى لِمَنْ أَرَادَ الْإِحْسَانَ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى حُبِّ اللَّهِ لَهُمْ وَحُبِّهِمْ لَهُ. وَقِيلَ: إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ لِينُ الْجَانِبِ، وَتَرْكُ التَّرَفُّعِ عَلَى الْمُؤْمِنِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّ لَهُ لُطْفًا انْتَهَى. وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. وَيُؤْتِيهِ اسْتِئْنَافٌ، أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ أَوْ حَالٌ.
وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ أَيْ وَاسْعُ الْإِحْسَانِ وَالْإِفْضَالِ عَلِيمٌ بِمَنْ يَضَعُ ذَلِكَ فِيهِ.
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَمَّا نَهَاهُمْ عَنِ اتِّخَاذِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ، بَيَّنَ هُنَا مَنْ هُوَ وَلِيُّهُمْ، وَهُوَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَفُسِّرَ الْوَلِيُّ هُنَا بِالنَّاصِرِ، أَوِ الْمُتَوَلِّي الْأَمْرَ، أَوِ الْمُحِبِّ. ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، وَالْمَعْنَى: لَا وَلِيَّ لَكُمْ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ: وَلِيُّكُمْ بِالْإِفْرَادِ، وَلَمْ يَقُلْ أَوْلِيَاؤُكُمْ وَإِنْ كَانَ الْمُخْبَرُ بِهِ مُتَعَدِّدًا، لِأَنَّ وَلِيًّا اسْمُ جِنْسٍ. أَوْ لِأَنَّ الْوَلَايَةَ حَقِيقَةً هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّأَصُّلِ، ثُمَّ نَظَمَ فِي سِلْكِهِ مَنْ ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ، وَلَوْ جَاءَ جَمْعًا لَمْ يُتَبَيَّنْ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْأَصَالَةِ وَالتَّبَعِيَّةِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: مَوْلَاكُمُ اللَّهُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا، عُمُومُ مَنْ آمَنَ مَنْ مَضَى مِنْهُمْ وَمَنْ بَقِيَ قَالَهُ الْحَسَنُ.
وَسُئِلَ الْبَاقِرُ عَمَّنْ نَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ، أَهوَ عَلِيٌّ؟
فَقَالَ: عَلِيٌّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقِيلَ: الَّذِينَ آمَنُوا هوَ عَلِيٌّ رَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ مُقَاتِلٌ
، وَيَكُونُ مِنْ إِطْلَاقِ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ مَجَازًا. وَقِيلَ ابْنُ سَلَامٍ وَأَصْحَابُهُ.
وَقِيلَ: عُبَادَةُ لَمَّا تَبَرَّأَ مِنْ حُلَفَائِهِ الْيَهُودِ. وَقِيلَ: أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ.
وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ هَذِهِ أَوْصَافٌ مُيِّزَ بِهَا الْمُؤْمِنُ الْخَالِصُ الْإِيمَانِ مِنَ الْمُنَافِقِ، لِأَنَّ الْمُنَافِقَ لَا يَدُومُ عَلَى الصَّلَاةِ وَلَا عَلَى الزَّكَاةِ.
قَالَ تَعَالَى: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى
«١» وَقَالَ تَعَالَى: أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ «٢» وَلَمَّا كَانَتِ الصَّحَابَةُ وَقْتَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ مُقِيمِي صَلَاةٍ وَمُؤْتِي زَكَاةٍ، وَفِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ كَانُوا مُتَّصِفِينَ بِالْخُضُوعِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالتَّذَلُّلِ لَهُ، نَزَلَتِ الْآيَةُ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ الْجَلِيلَةِ. وَالرُّكُوعُ هُنَا ظَاهِرُهُ الْخُضُوعُ، لَا الْهَيْئَةُ الَّتِي فِي الصَّلَاةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْهَيْئَةُ، وَخُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، فَعَبَّرَ بِهَا عَنْ جَمِيعِ الصَّلَاةِ، إِلَّا أَنَّهُ يَلْزَمُ فِي هَذَا الْقَوْلِ تَكْرِيرُ الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ: يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّكْرَارُ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ لِشَرَفِ الصَّلَاةِ وَعِظَمِهَا فِي التَّكَالِيفِ الْإِسْلَامِيَّةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ هُنَا الْفَرَائِضُ، وَبِالرُّكُوعِ التَّنَفُّلُ.
يُقَالُ: فُلَانٌ يَرْكَعُ إِذَا تَنَفَّلَ بِالصَّلَاةِ.
وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَصَدَّقَ بِخَاتَمِهِ وَهُوَ رَاكِعٌ فِي الصَّلَاةِ.
وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: وَهُمْ رَاكِعُونَ، أَنَّهَا جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمَلِ قَبْلَهَا، مُنْتَظِمَةٌ فِي سِلْكِ الصَّلَاةِ. وَقِيلَ: الْوَاوُ لِلْحَالِ أَيْ: يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ خَاضِعُونَ لَا يَشْتَغِلُونَ عَلَى مَنْ يُعْطُونَهُمْ إِيَّاهَا، أَيْ يُؤْتُونَهَا فَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ مُلْتَبِسُونَ بِالصَّلَاةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ.
(فَإِنْ قُلْتَ) : الَّذِينَ يُقِيمُونَ مَا مَحَلُّهُ؟ (قُلْتُ) : الرَّفْعُ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، أَوْ عَلَى هُمُ الَّذِينَ يُقِيمُونَ انْتَهَى. وَلَا أَدْرِي مَا الَّذِي مَنَعَهُ مِنَ الصِّفَةِ إِذْ هُوَ الْمُتَبَادِرُ إِلَى الذِّهْنِ، لِأَنَّ الْمُبْدَلَ مِنْهُ فِي نِيَّةِ الطَّرْحِ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ هُنَا طَرْحُ الَّذِينَ آمَنُوا لِأَنَّهُ هُوَ الْوَصْفُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ صِحَّةُ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَوْصَافِ.
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ مَنْ مَحْذُوفًا لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، أَيْ: يَكُنْ مِنْ حِزْبِ اللَّهِ وَيَغْلِبْ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ، وَيَكُونَ مِنْ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ أَيْ: فَإِنَّهُمْ هُمُ الْغَالِبُونَ.
وَفَائِدَةُ وَضْعِ الظَّاهِرِ هُنَا مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ الْإِضَافَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَيَشْرُفُونَ بِذَلِكَ، وَصَارُوا بِذَلِكَ أَعْلَامًا. وَأَصْلُ الْحِزْبِ الْقَوْمُ يَجْتَمِعُونَ لِأَمْرِ حِزْبِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ حِزْبَ اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَقَدْ تَوَلَّى حِزْبَ اللَّهِ، وَاعْتَضَدَ بِمَنْ لَا يُغَالَبُ انْتَهَى. وَهُوَ قَلَقٌ فِي التَّرْكِيبِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ فَإِنَّهُ غَالِبُ كُلِّ مَنْ نَاوَأَهُ، وَجَاءَتِ الْعِبَارَةُ عَامَّةً إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ اخْتِصَارًا، لِأَنَّ هَذَا الْمُتَوَلِّيَ هُوَ مِنْ حِزْبِ اللَّهِ، وَحِزْبُ اللَّهِ غَالِبٌ، فَهَذَا الَّذِي تَوَلَّى اللَّهَ وَرَسُولَهُ غَالِبٌ. وَمَنْ يُرَادُ بِهَا الْجِنْسُ لَا مُفْرَدٌ، وَهُمْ هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَصْلًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً.
(٢) سورة الأحزاب: ٣٣/ ١٩. [.....]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ وَسُوَيْدُ بْنُ الحرث قَدْ أَظْهَرَا الْإِسْلَامَ ثُمَّ نَافَقَا، وَكَانَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُوَادُّونَهُمَا فَنَزَلَتْ. وَلَمَّا نَهَى تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ عن اتِّخَاذِ الْكُفَّارِ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ، نَهَى عَنِ اتِّخَاذِ الْكُفَّارِ أَوْلِيَاءَ يَهُودًا كَانُوا أَوْ نَصَارَى، أَوْ غَيْرَهُمَا. وَكَرَّرَ ذِكْرَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بُقُولِهِ: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَإِنْ كَانُوا مُنْدَرِجِينَ فِي عُمُومِ الْكُفَّارِ عَلَى سَبِيلِ النَّصِّ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ لِسَبْقِهِمْ فِي الذِّكْرِ فِي الْآيَاتِ قَبْلُ، وَلِأَنَّهُ أَوْغَلُ فِي الِاسْتِهْزَاءِ، وَأَبْعَدُ انْقِيَادًا لِلْإِسْلَامِ، إِذْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَرِيعَةٍ إِلَهِيَّةٍ. وَلِذَلِكَ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ، وَالْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالْكُفَّارِ الْمُشْرِكُونَ خَاصَّةً، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفَرَّقَتِ الْآيَةُ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَبَيْنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، مِنْ حَيْثُ الْغَالِبُ فِي اسْمِ الْكُفْرِ أَنْ يَقَعَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ إِشْرَاكَ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، لِأَنَّهُمْ أَبْعَدُ شَأْوًا فِي الْكُفْرِ. وَقَدْ قَالَ: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ «١» فَفَرَّقَ بَيْنَهُمْ إِرَادَةَ الْبَيَانِ. وَالْجَمِيعُ كَفَّارٌ، وَكَانُوا عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ، هُمْ كُفَّارٌ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ. وَهَذِهِ الْفِرَقُ تَلْحَقُ بِهِمْ فِي حَدِّ الْكُفْرِ، وَتُخَالِفُهُمْ فِي رُتَبٍ. فَأَهْلُ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَبِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْمُنَافِقُونَ يُؤْمِنُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفَصَّلَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً انْتَهَى. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ مَنِ اتَّخَذَ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا لَا يُنَاسِبُ أَنْ يُتَّخَذَ وَلِيًّا، بَلْ يُعَادَى وَيُبْغَضُ وَيُجَانَبُ. وَاسْتِهْزَاؤُهُمْ قِيلَ: بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِخْفَاءِ الْكُفْرِ. وَقِيلَ: بِقَوْلِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ: احْفَظُوا دِينَكُمْ وَدُومُوا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ الْحَقُّ، وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ: لَعِبْنَا بِعُقُولِهِمْ وَضَحِكْنَا عَلَيْهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ضَحِكُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقْتَ سُجُودِهِمْ، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْقِرَاءَةِ فِي هُزُؤًا. وَقَرَأَ النَّحْوِيَّانِ: وَالْكُفَّارِ خَفْضًا. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: وَمِنَ الْكُفَّارِ بِزِيَادَةِ مِنْ.
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: نَصْبًا وَهِيَ رِوَايَةُ الْحُسَيْنِ الْجُعْفِيِّ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَإِعْرَابُ الْجَرِّ وَالنَّصْبِ وَاضِحٌ.
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ لَمَّا نُهِيَ الْمُؤْمِنُونَ عَنِ اتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ، أَمَرَهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَإِنَّهَا هِيَ الْحَامِلَةُ عَلَى امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي. أَيِ: اتَّقَوُا اللَّهَ فِي مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى الْوَصْفِ الْحَامِلِ عَلَى التَّقْوَى وَهُوَ الْإِيمَانُ أَيْ: مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا حَقًّا يَأْبَى مُوَالَاةَ أَعْدَاءِ الدِّينِ.
وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانُوا إِذَا نُودِيَ بِالصَّلَاةِ قَامَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهَا فَتَقُولُ الْيَهُودُ: قَامُوا لَا قَامُوا، صَلَّوْا لَا صَلَّوْا، رَكَعُوا لَا رَكَعُوا، عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالضَّحِكِ فَنَزَلَتْ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ نَصْرَانِيٌّ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُ إِذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أُحْرِقَ الْكَاذِبُ، فَطَارَتْ شَرَارَةٌ فِي بَيْتِهِ فَاحْتَرَقَ هُوَ وَأَهْلُهُ، فَنَزَلَتْ.
وَقِيلَ: حَسَدَ الْيَهُودُ الرَّسُولَ حِينَ سَمِعُوا الْآذَانَ وَقَالُوا: ابْتَدَعْتَ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ لِلْأَنْبِيَاءِ، فَمِنْ أَيْنَ لَكَ الصِّيَاحُ كَصِيَاحِ الْعِيرِ؟ فَمَا أَقْبَحَهُ مِنْ صَوْتٍ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَنْزَلَ: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ «١» الْآيَةَ انْتَهَى. وَالْمَعْنَى: إِذَا نَادَى بَعْضُكُمْ إِلَى الصَّلَاةِ، لِأَنَّ الْجَمِيعَ لَا يُنَادُونَ. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الدِّينَ هُزُوًا وَلَعِبًا انْدَرَجَ فِي ذَلِكَ جَمِيعُ مَا انْطَوَى عَلَيْهِ الدِّينُ، فَجَرَّدَ مِنْ ذَلِكَ أَعْظَمَ أَرْكَانِ الدِّينِ وَنَصَّ عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ وَهِيَ الصَّلَاةُ الَّتِي هِيَ صِلَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَهْزَأَ بِالصَّلَاةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُتَّخَذَ وَلِيًّا وَيُطْرَدَ، فَهَذِهِ الْآيَةُ جَاءَتْ كَالتَّوْكِيدِ لِلْآيَةِ قَبْلَهَا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ:
فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ الْأَذَانِ بِنَصِّ الْكِتَابِ، لَا بِالْمَنَامِ وَحْدَهُ انْتَهَى. وَلَا دَلِيلَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ لِأَنَّهُ قَالَ: وَإِذَا نَادَيْتُمْ، وَلَمْ يَقُلْ نَادُوا عَلَى سَبِيلِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا هَذِهِ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ دَلَّتْ عَلَى سَبْقِ الْمَشْرُوعِيَّةِ لَا عَلَى إِنْشَائِهَا بِالشَّرْطِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي اتَّخَذُوهَا عَائِدٌ عَلَى الصَّلَاةِ، وَيَحْتَمِلُ أن يعود عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ نَادَيْتُمْ أَيِ: اتَّخَذُوا الْمُنَادَاةَ وَالْهُزْءَ وَالسُّخْرِيَةَ وَاللَّعِبَ الْأَخْذَ فِي غَيْرِ طَرِيقٍ.
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ أَيْ ذَلِكَ الْفِعْلُ مِنْهُمْ، وَنَفَى الْعَقْلَ عَنْهُمْ لَمَّا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِ فِي الدِّينِ، وَاتَّخَذُوا دِينَ اللَّهِ هُزُوًا وَلَعِبًا، فِعْلَ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ.
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتَى نَفَرٌ مَنْ يُهُودَ فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّنْ يُؤْمِنُ بِهِ مِنَ الرُّسُلِ؟ فَقَالَ: أُؤْمِنُ بِاللَّهِ: وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا- إِلَى قَوْلِهِ- وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ «٢» فَقَالُوا حِينَ سَمِعُوا ذِكْرَ عِيسَى، مَا نَعْلَمُ أَهْلَ دِينٍ أَقَلَّ حَظًّا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْكُمْ، وَلَا دِينًا شَرًّا مِنْ دِينِكُمْ، فَنَزَلَتْ.
وَالْمَعْنَى: هَلْ تَعِيبُونَ عَلَيْنَا، أَوْ تُنْكِرُونَ، وَتَعُدُّونَ ذَنْبًا، أَوْ نَقِيصَةً مَا لَا يُنْكَرُ وَلَا يُعَابُ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ كُلِّهَا؟ وَهَذِهِ مُحَاوَرَةٌ لَطِيفَةٌ وَجِيزَةٌ تُنَبِّهُ النَّاقِمَ عَلَى أَنَّهُ مَا نَقَمَ عَلَيْهِ إِلَّا مَا لَا يُنْقَمُ وَلَا يُعَدُّ عَيْبًا ونظيره قول الشاعر:
(٢) سورة المائدة: ٥/ ٥٩.
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ | بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ |
وَفِسْقُ أَكْثَرِكُمْ ثَابِتٌ مَعْلُومٌ عِنْدَكُمْ، لِأَنَّكُمْ عَلِمْتُمْ أَنَّا عَلَى الْحَقِّ، وَأَنَّكُمْ عَلَى الْبَاطِلِ، إِلَّا أَنَّ حُبَّ الرِّيَاسَةِ وَالرَّشَا يَمْنَعُكُمْ مِنَ الِاعْتِرَافِ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْدَمَ الْخَبَرُ إِلَّا مُقَدَّمًا أَيْ:
وَمَعْلُومٌ فِسْقُ أَكْثَرِكُمْ، لِأَنَّ الْأَصَحَّ أَنْ لَا يُبْدَأَ بِهَا مُتَقَدِّمَةً إِلَّا بَعْدَ أَمَّا فَقَطْ. وَالنَّصْبُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى أَنْ آمَنَّا أَيْ: مَا تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا إِيمَانَنَا وَفِسْقَ أَكْثَرِكُمْ، فَيَدْخُلُ الْفِسْقُ فِيمَا نَقِمُوهُ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُتَأَوِّلِينَ. وَلَا يَتَّجِهُ مَعْنَاهُ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ فِسْقَ أَكْثَرِهِمْ، فَكَيْفَ يَنْقِمُونَهُ، لَكِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى مَا تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا هَذَا الْمَجْمُوعَ مِنْ أَنَّا مُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ، وَإِنْ كَانُوا لَا يُسَلِّمُونَ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ فَاسِقُونَ، كَمَا تَقُولُ: مَا تَنْقِمُ مِنِّي إِلَّا أَنِّي صَدَقْتُ وَأَنْتَ كَذَبْتَ، وَمَا كَرِهْتَ مِنِّي إِلَّا أَنِّي مُحَبَّبٌ إِلَى النَّاسِ وَأَنْتَ مُبْغَضٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْتَرِفُ أَنَّهُ كَاذِبٌ وَلَا أَنَّهُ مُبْغَضٌ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: مَا تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا مُخَالَفَتَكُمْ حَيْثُ دَخَلْنَا فِي الْإِسْلَامِ وَأَنْتُمْ خَارِجُونَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى أَنْ آمَنَّا، إِلَّا أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: وَاعْتِقَادُنَا فِيكُمْ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ، وَهَذَا مَعْنًى وَاضِحٌ. وَيَكُونُ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي مَا تَنْقِمُونَ حَقِيقَةً. الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ وَاوَ مَعَ، فَتَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ مَفْعُولًا مَعَهُ التَّقْدِيرُ: وَفِسْقَ أَكْثَرِهِمْ أَيْ: تَنْقِمُونَ ذَلِكَ مَعَ فِسْقِ أَكْثَرِكُمْ وَالْمَعْنَى: لَا يَحْسُنُ أَنْ تَنْقِمُوا مَعَ وُجُودِ فِسْقِ أَكْثَرِكُمْ كَمَا تَقُولُ: تُسِيءُ إِلَيَّ مَعَ أَنِّي أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ. الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبِ مَفْعُولٍ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، هَلْ تَنْقِمُونَ تَقْدِيرُهُ: وَلَا تَنْقِمُونَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ. وَالْجَرُّ عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَبِأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ، وَالْجَرُّ عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى عِلَّةٍ مَحْذُوفَةٍ التَّقْدِيرُ: مَا تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا صفحة رقم 304
الْإِيمَانَ لِقِلَّةِ إِنْصَافِكُمْ وَفِسْقِكُمْ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَفْسِيرُ الْحَسَنِ بِفِسْقِكُمْ نَقَمْتُمْ ذَلِكَ عَلَيْنَا. فَهَذِهِ سَبْعَةُ وُجُوهٍ فِي مَوْضِعِ أَنْ وَصِلَتِهَا، وَيَظْهَرُ وَجْهٌ ثَامِنٌ وَلَعَلَّهُ يَكُونُ الْأَرْجَحَ، وَذَلِكَ أَنَّ نَقَمَ أَصْلُهَا أَنْ تَتَعَدَّى بِعَلَى، تَقُولُ: نَقَمْتُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْقِمُ، ثُمَّ تُبْنَى مِنْهَا افْتَعَلَ فَتُعَدَّى إِذْ ذَاكَ بِمِنْ، وَتُضَمَّنُ مَعْنَى الْإِصَابَةِ بِالْمَكْرُوهِ.
قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ «١» وَمُنَاسَبَةُ التَّضْمِينِ فِيهَا أَنَّ مَنْ عَابَ عَلَى شَخْصٍ فِعْلَهُ فَهُوَ كَارِهٌ لَهُ لَا مَحَالَةَ وَمُصِيبُهُ عَلَيْهِ بِالْمَكْرُوهِ، وَإِنْ قُدِّرَ، فَجَاءَتْ هُنَا فَعَلَ بِمَعْنَى افْتَعَلَ لِقَوْلِهِمْ: وَقَدْ رَأَوْهُ، وَلِذَلِكَ عُدِّيَتْ بِمِنْ دُونَ الَّتِي أَصْلُهَا أَنْ يُعَدَّى بِهَا، فَصَارَ الْمَعْنَى: وَمَا تَنَالُونَ مِنَّا أَوْ وَمَا تُصِيبُونَنَا بِمَا نَكْرَهُ إِلَّا أَنْ آمَنَّا أَيْ: لِأَنْ آمَنَّا، فَيَكُونُ أَنْ آمَنَّا مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، وَيَكُونُ وَإِنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ مَعْطُوفًا عَلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ، وَهَذَا- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- سَبَبُ تَعْدِيَتِهِ بِمِنْ دُونَ عَلَى، وَخُصَّ أَكْثَرَكُمْ بِالْفِسْقِ لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُدِيَ إِلَى الْإِسْلَامِ، أَوْ لِأَنَّ فُسَّاقَهُمْ وَهُمُ الْمُبَالِغُونَ فِي الْخُرُوجِ عَنِ الطَّاعَةِ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا يَقُولُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ تَقَرُّبًا إِلَى الْمُلُوكِ، وَطَلَبًا لِلْجَاهِ وَالرِّيَاسَةِ، فَهُمْ فُسَّاقٌ فِي دِينِهِمْ لَا عُدُولٌ، وَقَدْ يَكُونُ الْكَافِرُ عَدْلًا فِي دِينِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عُدُولًا فِي دِينِهِمْ، فَلِذَلِكَ حُكِمَ عَلَى أَكْثَرِهِمْ بِالْفِسْقِ.
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ الْخِطَابُ بِالْأَمْرِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَضَمَّنَ الْخِطَابُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ أُمِرَ أَنْ يُنَادِيَهُمْ أَوْ يُخَاطِبَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. قَالَ ابن عطية: ويحتمل أن يَكُونَ ضَمِيرُ الْخِطَابِ لِلْمُؤْمِنِينَ أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْمُؤْمِنِينَ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ حَالِ هَؤُلَاءِ الْفَاسِقِينَ فِي وَقْتِ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ، أُولَئِكَ أَسْلَافُهُمُ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِمْ، وَتَكُونُ الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى حَالِهِمْ انْتَهَى. فَعَلَى هَذَا الْإِضْمَارِ يَكُونُ قَوْلُهُ: بِشَرٍّ أَفْعَلَ تَفْضِيلٍ بَاقِيَةً عَلَى أَصْلِ وَضْعِهَا مِنْ كَوْنِهَا تَدُلُّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي الْوَصْفِ، وَزِيَادَةِ الْفَضْلِ عَلَى الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ فِي الْوَصْفِ، فَيَكُونُ ضَلَالُ أُولَئِكَ الْأَسْلَافِ وَشَرُّهُمْ أَكْثَرَ مِنْ ضَلَالِ هَؤُلَاءِ الْفَاسِقِينَ، وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ خِطَابًا لِأَهْلِ الْكِتَابِ، فَيَكُونُ شَرٌّ عَلَى بَابِهَا مِنَ التَّفْضِيلِ عَلَى مُعْتَقَدِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِذْ قَالُوا: مَا نَعْلَمُ دِينًا شَرًّا مِنْ دِينِكُمْ. وَفِي الْحَقِيقَةِ لَا ضَلَالَ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا شَرِكَةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ،
وَذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَا إِشَارَةٌ إِلَى دِينِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ حَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى حَذْفِ مُضَافٍ: إِمَّا قَبْلَهُ، وَإِمَّا بَعْدَهُ. فَيُقَدَّرُ قَبْلَهُ: بِشَرٍّ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الْحَالِ، وَيُقَدَّرُ بَعْدَهُ: حَالُ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَلِكَوْنِ «لَعَنَهُ اللَّهُ» «١» أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ يَكُونُ عَلَى كُلِّ حَالٍ مَنْ تَأْنِيثٍ وَتَثْنِيَةٍ وَجَمْعٍ كَمَا يَكُونُ لِلْوَاحِدِ الْمُذَكَّرِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكُمْ مِنْ هَذِهِ اللُّغَةِ، فَيَصِيرَ إِشَارَةً إِلَى الْأَشْخَاصِ كَأَنَّهُ قَالَ: بِشَرٍّ مِنْ أُولَئِكُمْ، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، لَا قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَلَا بَعْدَهُ، إِذْ يَصِيرُ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ تَفْسِيرُ أَشْخَاصٍ بِأَشْخَاصٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكُمْ أَيْضًا إِشَارَةً إِلَى مُتَشَخِّصٍ، وَأُفْرِدَ عَلَى مَعْنَى الْجِنْسِ كَأَنَّهُ قَالَ: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ جِنْسِ الْكِتَابِيِّ، أَوْ مِنْ جِنْسِ الْمُؤْمِنِ، عَلَى اخْتِلَافِ التَّقْدِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ سَبَقَا، وَيَكُونُ أَيْضًا مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ تَفْسِيرَ شَخْصٍ بِشَخْصٍ.
وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ: أُنْبِئُكُمْ مِنْ أَنْبَأَ، وَابْنُ بُرَيْدَةَ، والأعرج، ونبيح، وَابْنُ عِمْرَانَ: مَثْوَبَةً كَمَعْوَرَةٍ. وَالْجُمْهُورُ: مِنْ نَبَّأَ وَمَثُوبَةً كَمَعُونَةً. وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ «٢» وَانْتَصَبَ مَثُوبَةً هُنَا عَلَى التَّمْيِيزِ، وَجَاءَ التَّرْكِيبُ الْأَكْثَرُ الْأَفْصَحُ مِنْ تَقْدِيمِ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ عَلَى التَّمْيِيزِ كَقَوْلِهِ: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً «٣» وَتَقْدِيمُ التَّمْيِيزِ عَلَى الْمُفَضَّلِ أَيْضًا فَصِيحٌ كَقَوْلِهِ: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ «٤» وَهَذِهِ الْمَثُوبَةُ هِيَ فِي الْحَشْرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَإِنْ لُوحِظَ أَصْلُ الْوَضْعِ فَالْمَعْنَى مَرْجُوعًا، وَلَا يَدُلُّ إِذْ ذَاكَ عَلَى مَعْنَى الْإِحْسَانِ. وَإِنْ لُوحِظَ كَثْرَةُ الِاسْتِعْمَالِ فِي الْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ، فَوُضِعَتِ الْمَثُوبَةُ هُنَا مَوْضِعَ الْعُقُوبَةِ عَلَى طَرِيقَةٍ بَيْنَهُمْ فِي: «تحية بينهم ضرب وجيع» فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «٥» وَمَنْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ هُوَ؟ فَقِيلَ: هُوَ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ. أَوْ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: بِشَرٍّ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى مَوْضِعِ بِشَرٍّ أَيْ: أُنَبِّئُكُمْ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ. وَيَحْتَمِلُ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَسْلَافُ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا تَقَدَّمَ، أَوِ الْأَسْلَافُ وَالْأَخْلَافُ، فَيَنْدَرِجُ هَؤُلَاءِ الْحَاضِرُونَ فِيهِمْ. وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ الْفَصَاحَةُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ تَنْبِيهًا عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي حَصَلَ بِهِ كَوْنُهُ شَرًّا مَثُوبَةً، وَهِيَ اللَّعْنَةُ وَالْغَضَبُ. وَجَعَلَ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ مِنْهُمْ، وَعَبْدَ الطَّاغُوتَ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ أَنْتُمْ أَيْ: هُوَ أَنْتُمْ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ بَعْدُ: وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا «٦» فَيَكُونُ الضَّمِيرُ وَاحِدًا. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ: مَنْ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وجعلهم
(٢) سورة فصلت: ٤١/ ٣٣.
(٣) سورة النساء: ٤/ ٨١.
(٤) سورة فصلت: ٤١/ ٣٣.
(٥) سورة آل عمران: ٣/ ٢١.
(٦) سورة المائدة: ٥/ ٦١.
قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَجَعَلَ هُنَا بِمَعْنَى صَيَّرَ. وَقَالَ الْفَارِسِيُّ: بِمَعْنَى خَلَقَ، لِأَنَّ بَعْدَهُ وَعَبْدَ الطَّاغُوتِ، وَهُوَ مُعْتَزِلِيٌّ لَا يَرَى أَنَّ اللَّهَ يُصَيِّرُ أَحَدًا عَابِدَ طَاغُوتٍ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَسْخِهِمْ قِرَدَةً فِي الْبَقَرَةِ.
وَأَمَّا الَّذِينَ مُسِخُوا خَنَازِيرَ فَقِيلَ: شُيُوخُ أَصْحَابِ السَّبْتِ، إِذْ مسح شُبَّانُهُمْ قِرَدَةً قَالَهُ:
ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: أَصْحَابُ مَائِدَةِ عِيسَى. وَذُكِرَتْ أَيْضًا قِصَّةٌ طَوِيلَةٌ فِي مَسْخِ بَنِي إِسْرَائِيلَ خَنَازِيرَ مُلَخَّصُهَا: أَنَّ امْرَأَةً مِنْهُمْ مُؤْمِنَةً قَاتَلَتْ مَلِكَ مَدِينَتِهَا وَمَنْ مَعَهُ، وَكَانُوا قَدْ كَفَرُوا بِمَنِ اجْتَمَعَ إِلَيْهَا مِمَّنْ دَعَتْهُ إِلَى الْجِهَادِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَأَتْبَاعُهَا يُقْتَلُونَ، وَتَنْفَلِتُ هِيَ، فَبَعْدَ الثَّالِثَةِ سُبِيَتْ وَاسْتَبْرَأَتْ فِي دِينِهَا، فَمَسَخَ اللَّهُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ خَنَازِيرَ فِي لَيْلَتِهِمْ تَثْبِيتًا لَهَا عَلَى دِينِهَا، فَلَمَّا رَأَتْهُمْ قَالَتِ: الْيَوْمَ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ أَعَزَّ دِينَهُ وَأَقَرَّهُ، فَكَانَ الْمَسْخُ خَنَازِيرَ عَلَى يَدَيْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الطَّاغُوتِ.
وَقَرَأَ جُمْهُورُ السَّبْعَةِ: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: وَعَبَدُوا الطَّاغُوتَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ فِي رِوَايَةٍ: وَعَبْدَ الطَّاغُوتِ بِإِسْكَانِ الْبَاءِ. وَخَرَّجَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ وَعَبْدًا مُنَوَّنًا فَحُذِفَ التَّنْوِينُ كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
وَلَا وَجْهَ لِهَذَا التَّخْرِيجِ، لِأَنَّ عَبْدًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْصِبَ الطَّاغُوتَ، إِذْ لَيْسَ بِمَصْدَرٍ وَلَا اسْمَ فَاعِلٍ، وَالتَّخْرِيجُ الصَّحِيحُ أَنْ يَكُونَ تَخْفِيفًا مِنْ عَبَدَ بِفَتْحِهَا كَقَوْلِهِمْ: فِي سَلَفَ سَلْفَ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي رِوَايَةٍ: عَبُدَ بِضَمِّ الْبَاءِ نَحْوَ شَرُفَ الرَّجُلُ أَيْ: صَارَ لَهُ عَبْدٌ كَالْخُلُقِ وَالْأَمْرِ الْمُعْتَادِ قَالَهُ: ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ صَارَ مَعْبُودًا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَقَوْلِكَ: أَمُرَ إِذَا صَارَ أَمِيرًا انْتَهَى. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ الْقَعْقَاعِ وَالْأَعْمَشُ فِي رِوَايَةِ هَارُونَ، وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، كَضُرِبَ زَيْدٌ.
وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ فِي رِوَايَةٍ: وَعُبِدَتِ الطَّاغُوتُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، كَضُرِبَتِ الْمَرْأَةُ. فَهَذِهِ سِتُّ قِرَاءَاتٍ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي، وَإِعْرَابُهَا وَاضِحٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْمَفْعُولَ مَعْطُوفٌ عَلَى صِلَةِ مَنْ وُصِلَتْ بِلَعَنَهُ، وَغَضِبَ، وَجَعَلَ، وَعَبَدَ، وَالْمَبْنِيُّ لِلْمَفْعُولِ ضَعَّفَهُ الطَّبَرِيُّ وَهُوَ يَتَّجِهُ عَلَى حَذْفِ الرَّابِطِ أَيْ: وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ فِيهِمْ أَوْ بَيْنَهُمْ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَعَبَدَ لَيْسَ دَاخِلًا فِي الصِّلَةِ، لَكِنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ مَنْ، وَقَدْ قَرَأَ بِهَا مُظْهَرَةً عَبْدُ اللَّهِ قَرَأَ، وَمَنْ عَبَدَ فَإِمَّا عَطْفًا عَلَى الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، وَإِمَّا عَطْفًا عَلَى مَنْ فِي قَوْلِهِ: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ. وَقَرَأَ أَبُو وَاقِدٍ الْأَعْرَابِيُّ: وعباد الطاغوت جمع عابد، كَضُرَّابِ زَيْدٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ، وَجَمَاعَةٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ وَثَّابٍ: وَعُبُدَ الطَّاغُوتِ جَمْعُ عَبْدٍ، كَرَهْنٍ وَرُهُنٍ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: جَمْعُ عَابِدٍ كَشَارِفٍ وَشُرُفٍ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ تَابِعًا لِلْأَخْفَشِ: جَمْعُ عَبِيدٍ، فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ جَمْعَ جَمْعٍ وَأَنْشَدُوا:
انْسُبِ الْعَبْدَ إِلَى آبَائِهِ | أَسْوَدَ الْجِلْدَةِ مِنْ قَوْمٍ عُبُدِ |
أتوعدني بقومك يا ابن حِجْلٍ | أُسَابَاتٍ يُخَالُونَ الْعِبَادَا |
قَالَ الشَّاعِرُ:
أَبَنِي لُبَيْنَى إِنَّ أُمَّكُمُ | أَمَةٌ وَإِنَّ أَبَاكُمُ عَبِدُ انْتَهَى. |
تَعَوَّدَ بَسْطَ الْكَفِّ حَتَّى لَوَ انَّهُ | ثَنَاهَا لِقَبْضٍ لَمْ تُجِبْهُ أَنَامِلُهُ |
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٣٧.
(٣) سورة الأحقاف: ٤٦/ ٣٣.
(٤) سورة ق: ٥/ ٣٨.
(٥) سورة الإسراء: ١٧/ ٢٩.
(٦) سورة المائدة: ٥/ ٦٤.
كَانُوا مُخْصِبِينَ وَقَالُوا ذَلِكَ عِنَادًا وَاسْتِهْزَاءً وَتَهَكُّمًا انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُمْ: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ خَبَرٍ، وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ. أَيَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ حَيْثُ قَتَّرَ الْمَعِيشَةَ عَلَيْنَا، وَإِلَى أَنَّهَا مَمْسُوكَةٌ عَنِ الْعَطَاءِ ذَهَبَ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالْفَرَّاءُ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ، وَالزَّجَّاجُ. أَوْ عَنْ عَذَابِهِمْ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ بِقَدْرِ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ قَالَهُ: الْحَسَنُ. أَوْ إِلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْنَا مُلْكَنَا. قَالَ الطَّبَرِيُّ: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ خَبَرٌ، وَإِيعَادٌ وَاقِعٌ بِهِمْ فِي جَهَنَّمَ لَا مَحَالَةَ. قَالَهُ الْحَسَنُ: أَوْ خَبَرٌ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا جَعَلَهُمُ اللَّهُ أَبْخَلَ قَوْمٍ قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَمْسَكَتْ عَنِ الْخَيْرِ. وَقِيلَ:
هُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِالْبُخْلِ وَالنَّكَدِ، وَمِنْ ثَمَّ كَانُوا أَبْخَلَ خَلْقِ اللَّهِ وَأَنْكَدَهُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءً عَلَيْهِمْ بِغَلِّ الْأَيْدِي حَقِيقَةً يُغَلَّلُونَ فِي الدُّنْيَا أُسَارَى، وَفِي الْآخِرَةِ مُعَذَّبِينَ بِأَغْلَالِ جَهَنَّمَ. وَالطِّبَاقُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَمُلَاحَظَةُ أَصْلِ الْمَجَازِ كَمَا تَقُولُ: سَبَّنِي سَبَّ اللَّهُ دَابِرَهُ، لِأَنَّ السَّبَّ أَصْلُهُ الْقَطْعُ. (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ جَازَ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِمَا هُوَ قَبِيحٌ وَهُوَ الْبُخْلُ وَالنَّكَدُ؟ (قُلْتُ) : الْمُرَادُ بِهِ الدُّعَاءُ بِالْخِذْلَانِ الَّذِي تَقْسُو بِهِ قُلُوبُهُمْ، فَيَزِيدُونَ بُخْلًا إِلَى بُخْلِهِمْ وَنَكَدًا إِلَى نَكَدِهِمْ، وَبِمَا هُوَ مُسَبَّبٌ عَنِ الْبُخْلِ وَالنَّكَدِ مِنْ لُصُوقِ الْعَارِ بِهِمْ، وَسُوءِ الْأُحْدُوثَةِ الَّتِي تُخْزِيهِمْ، وَتُمَزِّقُ أَعْرَاضَهُمْ انْتَهَى كلامه. وأخرجه جار عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُمْ: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، اسْتِعَارَةٌ عَنْ إِمْسَاكِ الْإِحْسَانِ الصَّادِرِ مِنَ الْمَقْهُورِ عَلَى الْإِمْسَاكِ. وَلِذَلِكَ جاؤوا بِلَفْظِ مَغْلُولَةٌ، وَلَا يُغَلُّ إِلَّا الْمَقْهُورُ، فَجَاءَ قَوْلُهُ: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ، دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِغَلِّ الْأَيْدِي، فَهُمْ فِي كُلِّ بَلَدٍ مَعَ كُلِّ أُمَّةٍ مَقْهُورُونَ مَغْلُوبُونَ، لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَسْتَطِيلَ وَلَا أَنْ يَسْتَعْلِيَ، فَهِيَ اسْتِعَارَةٌ عَنْ ذُلِّهِمْ وَقَهْرِهِمْ، وَأَنَّ أَيْدِيَهُمْ لَا تَنْبَسِطُ إِلَى دَفْعِ ضُرٍّ يَنْزِلُ بِهِمْ، وَذَلِكَ مُقَابَلَةٌ عَمَّا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُمْ: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ بِدْعًا مِنْهُمْ فَقَدْ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ «١».
غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا وَأَنْ يَكُونَ دُعَاءً وَبِمَا قَالُوا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ يُرَادُ بِهِ مَقَالَتُهُمْ هَذِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِيمَا نَسَبُوهُ إِلَى اللَّهِ مِمَّا لَا يَجُوزُ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ، فَتَنْدَرِجُ هَذِهِ الْمَقَالَةُ فِي عُمُومِ مَا قَالُوا. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ: بِسُكُونِ الْعَيْنِ كَمَا قَالُوا: فِي عُصِرَ عصرون. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
لَوْ عُصْرَ مِنْهُ الْبَانُ وَالْمِسْكُ انْعَصَرْ وَيُحَسِّنُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَنَّهَا كَسْرَةٌ بَيْنَ ضَمَّتَيْنِ، فَحَسُنَ التخفيف.
بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ مُعْتَقَدُ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا جَارِحَةَ لَهُ، وَلَا يُشَبَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَا يُكَيَّفُ، وَلَا يَتَحَيَّزُ، وَلَا تُحِلُّهُ الْحَوَادِثُ، وَكُلُّ هَذَا مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هَذَا اسْتِعَارَةٌ عَنْ جُودِهِ وَإِنْعَامِهِ السَّابِغِ، وَأَضَافَ ذَلِكَ إِلَى الْيَدَيْنِ جَارِيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يُنْفِقُ بِكِلْتَا يَدَيْهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
يَدَاكَ يَدَا مَجْدٍ فَكَفٌّ مُفِيدَةٌ | وَكَفٌّ إِذَا مَا ضُنَّ بِالْمَالِ تُنْفِقُ |
جَادَ الْحِمَى بَسِطُ الْيَدَيْنِ بِوَابِلٍ | شَكَرَتْ نَدَاهُ تِلَاعُهُ وَوِهَادُهُ |
وَغَدَاةِ رِيحٍ قَدْ وَزَعْتُ وَقُرَّةٍ | قَدْ أَصْبَحَتْ بِيَدِ الشَّمَالِ زِمَامُهَا |
وَقِيلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَدَاهُ نِعْمَتَاهُ، فَقِيلَ: هُمَا مَجَازَانِ عَنْ نِعْمَةِ الدِّينِ وَنِعْمَةِ الدُّنْيَا، أَوْ نِعْمَةِ سَلَامَةِ الْأَعْضَاءِ وَالْحَوَاسِّ وَنِعْمَةِ الرِّزْقِ وَالْكِفَايَةِ، أَوِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، أَوْ نِعْمَةِ الْمَطَرِ وَنِعْمَةِ النَّبَاتِ، وَمَا وَرَدَ مِمَّا يُوهِمُ التَّجْسِيمَ كَهَذَا. وَقَوْلُهُ: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ «١» ومِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا «٢» ويَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ «٣» ولِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي «٤» وتَجْرِي بِأَعْيُنِنا «٥» وهالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ «٦» وَنَحْوُهَا. فَجُمْهُورُ الْأُمَّةِ أَنَّهَا تُفَسَّرُ عَلَى قَوَانِينِ اللُّغَةِ وَمَجَازِ الِاسْتِعَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَفَانِينِ الكلام.
(٢) سورة يس: ٣٦/ ٧١.
(٣) سورة الفتح: ٤٨/ ١٠.
(٤) سورة طه: ٢٠/ ٣٩.
(٥) سورة القمر: ٥٤/ ١٤.
(٦) سورة القصص: ٢٨/ ٨٨.
وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ: هَذِهِ كُلُّهَا صِفَاتٌ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ، ثَابِتَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ وَلَا تَجْدِيدٍ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ الشَّعْبِيُّ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالثَّوْرِيُّ:
نُؤْمِنُ بِهَا وَنُقِرُّ كَمَا نَصَّتْ، وَلَا نُعَيِّنُ تَفْسِيرَهَا، وَلَا يَسْبِقُ النَّظَرُ فيه. وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ حَدِيثُ مَنْ لَمْ يُمْعِنِ النَّظَرَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ حُجَجُهَا فِي عِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: بَسِيطَتَانِ يُقَالُ: يَدٌ بَسِيطَةٌ مطلقة بالمعروف. وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: بَسْطَانِ، يُقَالُ: يَدُهُ بَسْطٌ بِالْمَعْرُوفِ وَهُوَ عَلَى فَعْلٍ كَمَا تَقُولُ: نَاقَةٌ صَرْحٌ، وَمِشْيَةٌ سَجْحٌ، يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ هَذَا تَأْكِيدٌ لِلْوَصْفِ بِالسَّخَاءِ، وَأَنَّهُ لَا يُنْفِقُ إِلَّا عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ مَشِيئَتُهُ، وَلَا مَوْضِعَ لِقَوْلِهِ تُنْفِقُ مِنَ الْإِعْرَابِ إِذْ هِيَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا من الضَّمِيرِ فِي مَبْسُوطَتَانِ انْتَهَى. وَيَحْتَاجُ فِي هَذَيْنِ الْإِعْرَابَيْنِ إِلَى أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ الْعَائِدُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ، أَوْ عَلَى ذِي الْحَالِ مَحْذُوفًا التَّقْدِيرُ: يُنْفِقُ بِهِمَا. قَالَ الْحَوْفِيُّ: كَيْفَ سُؤَالٌ عَنْ حَالٍ، وَهِيَ نَصْبٌ بَيَشَاءُ انْتَهَى. وَلَا يُعْقَلُ هُنَا كَوْنُهَا سُؤَالًا عَنْ حَالٍ، بَلْ هِيَ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ كَمَا تَقُولُ: كَيْفَ تَكُونُ أَكُونُ، وَمَفْعُولُ يَشَاءُ مَحْذُوفٌ، وَجَوَابُ كَيْفَ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ يُنْفِقُ الْمُتَقَدِّمُ، كَمَا يَدُلُّ فِي قَوْلِكَ: أَقُومُ إِنْ قَامَ زَيْدٌ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ وَالتَّقْدِيرُ: يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ أَنْ يُنْفِقَ يُنْفِقُ، كَمَا تَقُولُ: كَيْفَ تَشَاءُ أَنْ أَضْرِبَكَ أَضْرِبُكَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ كَيْفَ يُنْفِقُ لِأَنَّ اسم بالشرط لَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا قَبْلَهُ إِلَّا إِنْ كَانَ جَارًّا، فَقَدْ يَعْمَلُ فِي بَعْضِ أَسْمَاءِ الشَّرْطِ. وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ «١».
وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً عَلَّقَ بِكَثِيرٍ، لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمَنْ لَا يَزْدَادُ إِلَّا طُغْيَانًا، وَهَذَا إِعْلَامٌ لِلرَّسُولِ بِفَرْطِ عُتُوِّهِمْ إِذْ كَانُوا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُبَادِرُوا بِالْإِيمَانِ بِسَبَبِ مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مِنَ الْأَسْرَارِ الَّتِي يَكْتُمُونَهَا وَلَا يَعْرِفُهَا غَيْرُهُمْ، لَكِنْ رَتَّبُوا عَلَى ذَلِكَ غَيْرَ مُقْتَضَاهُ، وَزَادَهُمْ ذَلِكَ طغيانا وكفروا، وَذَلِكَ لِفَرْطِ عِنَادِهِمْ وَحَسَدِهِمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كُلَّمَا نَزَلَ عَلَيْكَ شَيْءٌ كَفَرُوا بِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ:
وَلَيَزِيدَنَّ بَنِي النَّضِيرِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ مِنْ أَمْرِ الرَّجْمِ وَالدِّمَاءِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكَثِيرِ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ. وَقِيلَ: إِقَامَتُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ زِيَادَةٌ مِنْهُمْ فِي الْكُفْرِ.
وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ قِيلَ: الضَّمِيرُ فِي بَيْنَهُمْ عَائِدٌ على
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، لِأَنَّهُ جَرَى ذِكْرُهُمْ فِي قَوْلِهِ: لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ «١» ولشمول قَوْلَهُ: يَا أَهْلَ الْكِتابِ «٢» لِلْفَرِيقَيْنِ وَهَذَا قَوْلُ: الْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ. وَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْيَهُودِ، إِذْ هُمْ جَبْرِيَّةٌ وَقَدَرِيَّةٌ وَمُوَحِّدَةٌ وَمُشَبِّهَةٌ، وَكَذَلِكَ فَرَّقَ النَّصَارَى كَالْمَلْكَانِيَّةِ وَالْيَعْقُوبِيَّةِ وَالنَّسْطُورِيةِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمَعْنَى لاه زالون مُتَبَاغِضِينَ مُتَعَادِينَ، فَلَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُ كَلِمَتِهِمْ عَلَى قِتَالِكَ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى ضَرَرِكَ، وَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكَ وَلَا إِلَى أَتْبَاعِكَ، لِأَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ لَا تَوَادَّ بَيْنَهُمْ فَيَجْتَمِعَانِ عَلَى حَرْبِكَ. وَفِي ذَلِكَ إِخْبَارٌ بِالْمُغَيَّبِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعْ لِحَرْبِ الْمُسْلِمِينَ جَيْشَا يَهُودٍ وَنَصَارَى مُذْ كَانَ الْإِسْلَامُ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ. وَأَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى الزَّمَخْشَرِيُّ بِقَوْلِهِ: فَكُلُّهُمْ أَبَدًا مُخْتَلِفٌ وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى، لَا يَقَعُ اتِّفَاقٌ بَيْنَهُمْ، وَلَا تَعَاضُدٌ انْتَهَى. وَالْعَدَاوَةُ أَخَصُّ مِنَ الْبَغْضَاءِ، لِأَنَّ كُلَّ عَدُوٍّ مُبْغَضٌ، وَقَدْ يُبْغَضُ مَنْ لَيْسَ بِعَدُوٍّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكَأَنَّ الْعَدَاوَةَ شَيْءٌ يُشْهَدُ يَكُونُ عَنْهُ عَمَلٌ وَحَرْبٌ، وَالْبَغْضَاءُ لَا تَتَجَاوَزُ النُّفُوسَ انْتَهَى كَلَامُهُ.
كُلَّما أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ قَالَ قَوْمٌ: هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَلَيْسَ اسْتِعَارَةً، وَهُوَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَتَوَاعَدُ لِلْقِتَالِ، وَعَلَامَتُهُمْ إِيقَادُ نَارٍ عَلَى جَبَلٍ أَوْ رَبْوَةٍ، فَيَتَبَادَرُونَ وَالْجَيْشُ يَسْرِي لَيْلًا فَيُوقِدُ مَنْ مَرَّ بِهِمْ لَيْلًا النَّارَ فَيَكُونُ إِنْذَارًا، وَهَذِهِ عَادَةٌ لَنَا مَعَ الرُّومِ عَلَى جَزِيرَةِ الْأَنْدَلُسِ، يَكُونُ قريبا من ديارهم رئية لِلْمُسْلِمِينَ مُسْتَخْفٍ فِي جَبَلٍ فِي غَارٍ، فَإِذَا خَرَجَ الْكُفَّارُ لِحَرْبِ الْمُسْلِمِينَ أَوْقَدَ نارا، فإذا رآها رئية آخَرُ قَدْ أَعَدَّ لِلْمُسْلِمِينَ فِي قَرِيبٍ مِنْ ذَلِكَ الْجَبَلِ أَوْقَدَ نَارًا، وَهَكَذَا إِلَى أَنْ يَصِلَ الْخَبَرُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي أَقْرَبِ زَمَانٍ، وَيَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْ أَيِّ جِهَةِ نَهْرٍ مِنَ الْكُفَّارِ، فَيُعِدُّ الْمُسْلِمُونَ لِلِقَائِهِمْ. وَقِيلَ: إِذَا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ وَتَنَازَلَ الْعَسْكَرَانِ أَوْقَدُوا بِاللَّيْلِ نَارًا مَخَافَةَ الْبَيَاتِ، فَهَذَا أَصْلُ نَارِ الْحَرْبِ. وَقِيلَ: كَانُوا إِذَا تَحَالَفُوا عَلَى الْجِدِّ فِي حَرْبِهِمْ أَوْقَدُوا نَارًا وَتَحَالَفُوا، فَعَلَى كَوْنِ النَّارِ حَقِيقَةً يَكُونُ مَعْنَى إِطْفَائِهَا أَنَّهُ أَلْقَى اللَّهُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ فَخَافُوا أَنْ يُغْشَوْا فِي مَنَازِلِهِمْ فَيَضَعُونَ، فلما تقاعدوا عنهم أطفئوها، وَأَضَافَ تَعَالَى الْإِطْفَاءَ إِلَيْهِ إِضَافَةَ الْمُسَبَّبِ إِلَى سَبَبِهِ الْأَصْلِيِّ.
وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ اسْتِعَارَةٌ، وَإِيقَادُ النَّارِ عِبَارَةٌ عَنْ إِظْهَارِ الْحِقْدِ وَالْكَيْدِ وَالْمَكْرِ بِالْمُؤْمِنِينَ وَالِاغْتِيَالِ وَالْقِتَالِ، وَإِطْفَاؤُهَا صَرْفُ اللَّهِ عَنْهُمْ ذَلِكَ، وَتَفَرُّقِ آرَائِهِمْ، وَحَلِّ عَزَائِمِهِمْ، وَتَفَرُّقِ كَلِمَتِهِمْ، وَإِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ. فَهُمْ لَا يُرِيدُونَ مُحَارَبَةَ أَحَدٍ إلا غلبوا
(٢) سورة المائدة: ٥/ ٦٨.
وَقُهِرُوا، وَلَمْ يَقُمْ لَهُمْ نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَحَدٍ، وَقَدْ أَتَاهُمُ الْإِسْلَامُ وَهُمْ فِي مِلْكِ الْمَجُوسِ. وَقِيلَ: خَالَفُوا الْيَهُودَ فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بُخْتَنَصَّرَ، ثُمَّ أَفْسَدُوا فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِطْرِيقَ الرُّومِيَّ، ثُمَّ أفسدوا فسلط الله عليهم الْمَجُوسَ، ثُمَّ أَفْسَدُوا فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ قَوْمٌ: هَذَا مَثَلٌ ضُرِبَ لِاجْتِهَادِهِمْ فِي الْمُحَارَبَةِ، وَالْتِهَابِ شُوَاظِ قُلُوبِهِمْ، وَغَلَيَانِ صُدُورِهِمْ. وَمِنْهُ الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ لِلْجِدِّ فِي الْحَرْبِ، وَفُلَانٌ مُسْعِرُ حَرْبٍ يُهَيِّجُهَا بِبَسَالَتِهِ، وَضُرِبَ الْإِطْفَاءُ مَثَلًا لِإِرْغَامِ أُنُوفِهِمْ وَخِذْلَانِهِمْ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ تَبْشِيرٌ لِلرَّسُولِ بِأَنَّهُمْ كُلَّمَا حَارَبُوهُ نُصِرَ عَلَيْهِمْ، وَإِشَارَةٌ إِلَى حَاضِرِيهِ مِنَ الْيَهُودِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَالرَّبِيعُ وَغَيْرُهُمَا: هِيَ إِخْبَارٌ عَنْ أَسْلَافِهِمْ مُنْذُ عُصُورٍ هَدَّ اللَّهُ مُلْكَهُمْ، فَلَا تُرْفَعُ لَهُمْ رَايَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُقَاتِلُونَ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا تَلْقَى الْيَهُودَ بِبَلْدَةٍ إِلَّا وَجَدْتَهُمْ مِنْ أَذَلِّ النَّاسِ.
وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالسَّعْيِ نَقْلَ الْأَقْدَامِ أَيْ: لَا يَكْتَفُونَ فِي إِظْهَارِ الْفَسَادِ إِلَّا بِنَقْلِ أَقْدَامِهِمْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، فَيَكُونُ أَبْلَغَ فِي الِاجْتِهَادِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْعَمَلُ. وَالْفِعْلُ أَيْ: يَجْتَهِدُونَ، فِي كَيْدِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَمَحْوِ ذِكْرِ الرَّسُولِ مِنْ كُتُبِهِمْ. وَالْأَرْضُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْجِنْسُ، أَوْ أَرْضُ الْحِجَازِ، فَتَكُونُ أَلْ فِيهِ لِلْعَهْدِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ: فَسَادُهُمْ بِالْمَعَاصِي. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: بِدَفْعِ الْإِسْلَامِ وَمَحْوِ ذِكْرِ الرَّسُولِ مِنْ كُتُبِهِمْ. وَقِيلَ: بِسَفْكِ الدِّمَاءِ وَاسْتِحْلَالِ الْمَحَارِمِ. وَقِيلَ: بِالْكُفْرِ. وَقِيلَ: بِالظُّلْمِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُتَقَارِبَةٌ.
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ظَاهِرُ الْمُفْسِدِينَ الْعُمُومُ، فَيَنْدَرِجُ هَؤُلَاءِ فِيهِمْ. وَقِيلَ: أَلْ لِلْعَهْدِ، وَهُمْ هَؤُلَاءِ. وَانْتِفَاءُ الْمَحَبَّةِ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ لَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، فَهَؤُلَاءِ يُثِيبُهُمْ. وَإِذَا لَمْ يُثِبْهُمْ فَهُوَ مُعَاقِبُهُمْ، إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْعِقَابِ وَالثَّوَابِ.
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
قِيلَ: المر. أَسْلَافُهُمْ، وَدَخَلَ فِيهَا الْمُعَاصِرُونَ بِالْمَعْنَى. وَالْغَرَضُ الْإِخْبَارُ عَنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَطْفَأَ اللَّهُ نِيرَانَهُمْ وَأَذَلَّهُمْ بِمَعَاصِيهِمْ، وَالَّذِي يظهر أنهم معاصر وَالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي ذَلِكَ تَرْغِيبٌ لَهُمْ فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ. وَذَكَرَ شَيْئَيْنِ وَهُمَا: الْإِيمَانُ، وَالتَّقْوَى. وَرَتَّبَ عَلَيْهِمْ شَيْئَيْنِ: قَابَلَ الْإِيمَانَ بِتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ إِذِ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَتَرَتَّبَ عَلَى التَّقْوَى وَهِيَ امْتِثَالُ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابُ الْمَنَاهِي دُخُولُ جَنَّةِ النَّعِيمِ، وَإِضَافَةُ الْجَنَّةِ إِلَى النَّعِيمِ تَنْبِيهًا عَلَى مَا كَانُوا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ الْعَذَابِ لَوْ لَمْ يُؤْمِنُوا وَيَتَّقُوا. وَقِيلَ: وَاتَّقَوْا أَيِ: الْكُفْرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وبعيسى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: الْمَعَاصِي الَّتِي لُعِنُوا بِسَبَبِهَا. وَقِيلَ: الشِّرْكُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمِنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَقَرَنُوا إِيمَانَهُمْ بِالتَّقْوَى الَّتِي هِيَ الشَّرِيطَةُ فِي الْفَوْزِ بِالْإِيمَانِ، لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ، فَلَمْ نُؤَاخِذْهُمْ بِهَا، وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ الْجَنَّةَ. وَفِيهِ إِعْلَامٌ بِعِظَمِ مَعَاصِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَكَثْرَةِ سَيِّئَاتِهِمْ، وَدَلَالَةٌ عَلَى سِعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَفَتْحِهِ بَابَ التَّوْبَةِ عَلَى كُلِّ عَاصٍ وَإِنْ عَظُمَتْ مَعَاصِيهِ وَبَلَغَتْ مَبَالِغَ سَيِّئَاتِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يُنْجِي وَلَا يُسْعِدُ إِلَّا مَشْفُوعًا بِالتَّقْوَى كَمَا قَالَ الْحَسَنُ: هَذَا الْعَمُودُ فَأَيْنَ الْأَطْنَابُ؟ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِيهِ مِنَ الِاعْتِزَالِ. وَقَرَنُوا إِيمَانَهُمْ بِالتَّقْوَى الَّتِي هِيَ الشَّرِيطَةُ فِي الْفَوْزِ بِالْإِيمَانِ، وَقَوْلُهُ: وَأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يُنْجِي وَلَا يُسْعِدُ إِلَّا مَشْفُوعًا بِالتَّقْوَى.
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ هَذَا اسْتِدْعَاءٌ لِإِيمَانِهِمْ، وَتَنْبِيهٌ لَهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ مَا فِي كُتُبِهِمْ، وَتَرْغِيبٌ لَهُمْ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا وَبَسْطِ الرِّزْقِ عَلَيْهِمْ فِيهَا، إِذْ أَكْثَرُ مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ الْمَوْعُودِ بِهِ عَلَى الطَّاعَاتِ هُوَ الْإِحْسَانُ إِلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَلَمَّا رَغَّبَهُمْ فِي الْآيَةِ قَبْلُ فِي مَوْعُودِ الْآخِرَةِ مِنْ تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ وَإِدْخَالِهِمُ الْجَنَّةَ، رَغَّبَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي مَوْعُودِ الدُّنْيَا لِيَجْمَعَ لَهُمْ بَيْنَ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكَانَ تَقْدِيمُ مَوْعُودِ الْآخِرَةِ أَهَمَّ لِأَنَّهُ هُوَ الدَّائِمُ الْبَاقِي، وَالَّذِي بِهِ النَّجَاةُ السَّرْمَدِيَّةُ، وَالنَّعِيمُ الَّذِي لَا يَنْقَضِي. وَمَعْنَى إِقَامَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ: هُوَ إِظْهَارُ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ وَالتَّبْشِيرِ بِالرَّسُولِ وَالْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِ كَقَوْلِهِمْ: أَقَامُوا السُّوقَ أَيْ حَرَّكُوهَا وَأَظْهَرُوهَا، وَذَلِكَ تَشْبِيهٌ بِالْقَائِمِ مِنَ النَّاسِ إِذْ هِيَ أَظْهَرُ هيئاته. وَفِي قَوْلِهِ: وَالْإِنْجِيلَ دَلِيلٌ عَلَى دُخُولِ النَّصَارَى فِي لَفْظِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ، الْعُمُومُ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ مِثْلَ: كِتَابِ أَشْعِيَاءَ، وَكِتَابِ حَزْقِيلَ، وَكِتَابِ دَانْيَالَ، فَإِنَّهَا مَمْلُوءَةٌ مِنَ الْبِشَارَةِ بِمَبْعَثِ الرَّسُولِ. وَقِيلَ: مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنَ رَبِّهِمْ هُوَ الْقُرْآنُ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، أَنَّهُ اسْتِعَارَةٌ عَنْ سُبُوغِ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ، وَتَوْسِعَةِ الرِّزْقِ عَلَيْهِمْ، كَمَا يُقَالُ: قَدْ عَمَّهُ الرِّزْقُ مِنْ فَرْقِهِ إِلَى قَدَمِهِ وَلَا فَوْقَ وَلَا تَحْتَ حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ وَالزَّجَّاجُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ: لَأَعْطَتْهُمُ السَّمَاءُ مَطَرَهَا وَبَرَكَتَهَا، وَالْأَرْضُ نَبَاتَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ «١» وَذَكَرَ النَّقَّاشُ مِنْ فوقهم من
رِزْقِ الْجَنَّةِ، وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْ رِزْقِ الدُّنْيَا إِذْ هُوَ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: مِنْ فَوْقِهِمْ كَثْرَةُ الْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ، وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمُ الزَّرْعُ الْمُغِلَّةُ. وَقِيلَ: مِنْ فَوْقِهِمُ الْجِنَانُ الْيَانِعَةُ الثِّمَارِ يَجْتَنُونَ مَا تهدّل منها من رؤوس الشَّجَرِ، وَيَلْتَقِطُونَ مَا تَسَاقَطَ مِنْهَا عَلَى الْأَرْضِ، وَتَحْتَ أَرْجُلِهِمْ. وَقَالَ تَاجُ الْقُرَّاءِ: مِنْ فَوْقِهِمْ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ كُبَرَائِهِمْ وَمُلُوكِهِمْ، وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ سِفْلَتِهِمْ وَعَوَامِّهِمْ، وَعَبَّرَ بِالْأَكْلِ عَنِ الْأَخْذِ، لِأَنَّهُ أَجَلُّ مَنَافِعِهِ وَأَبْلَغُ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي دَيْمُومَةِ الْحَيَاةِ.
مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ الضَّمِيرُ فِي مِنْهُمْ يَعُودُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ. وَالْأُمَّةُ هُنَا يُرَادُ بِهَا الْجَمَاعَةُ الْقَلِيلَةُ لِلْمُقَابِلَةِ لَهَا بِقَوْلِهِ: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ. وَالِاقْتِصَادُ مِنَ الْقَصْدِ وَهُوَ الِاعْتِدَالُ، وَهُوَ افْتَعَلَ بِمَعْنَى اعْتَمَلَ وَاكْتَسَبَ أَيْ: كَانَتْ أَوَّلًا جَائِزَةً ثُمَّ اقْتَصَدَتْ. قِيلَ: هُمْ مُؤْمِنُو الْفَرِيقَيْنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَأَصْحَابُهُ، وَثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِنَ النَّصَارَى. وَاقْتِصَادُهُمْ هُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمُقْتَصِدَةُ مُسْلِمَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنُ زَيْدٍ:
هُمْ أَهْلُ طَاعَةِ اللَّهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ: أَنَّهَا الطَّوَائِفُ الَّتِي لَمْ تُنَاصِبِ الْأَنْبِيَاءَ مُنَاصَبَةَ الْمُتَمَرِّدِينَ الْمُجَاهِدِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُقْتَصِدَةٌ حَالُهَا أُمَمٌ فِي عَدَاوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ يَقْتَصِدُ فِي عِيسَى فَيَقُولُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْأَكْثَرُ منهم غلافية فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْإِلَهُ، وَعَلَى هَذَا مَشَى الرُّومُ وَمَنْ دَخَلَ بِآخِرَةٍ فِي مِلَّةِ عِيسَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ الْأَكْثَرُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: هُوَ آدَمِيٌّ كَغَيْرِهِ لغير رشده، فتخلص فِي الِاقْتِصَادِ أَهُوَ فِي حَقِّ عِيسَى؟ أَوْ فِي الْمُنَاصَبَةِ؟ أَوْ فِي الْإِيمَانِ؟
فَإِنْ كَانَ فِي الْمُنَاصَبَةِ فَهَلْ هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّسُولِ وَحْدَهُ أَمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ؟ قَوْلَانِ. وَإِنْ كَانَ فِي الْإِيمَانِ فَهَلْ هُوَ فِي إِيمَانِ مَنْ آمَنَ بِالرَّسُولِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَوْ مَنْ آمَنَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا؟
قَوْلَانِ.
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ مَا يَعْمَلُونَ هَذَا تَنْوِيعٌ فِي التَّفْصِيلِ. فَالْجُمْلَةُ الْأُولَى جَاءَتْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ، جَاءَ الْخَبَرُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ، وَالْخَبَرُ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ، وَبَيْنَ التَّرْكِيبَيْنِ تَفَاوُتٌ غَرِيبٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَذَلِكَ أَنَّ الِاقْتِصَادَ جُعِلَ وَصْفًا، وَالْوَصْفُ أَلْزَمُ لِلْمَوْصُوفِ مِنَ الْخَبَرِ، فَأَتَى بِالْوَصْفِ اللَّازِمِ فِي الطَّائِفَةِ الْمَمْدُوحَةِ، وَأَخْبَرَ عَنْهَا بِقَوْلِهِ:
مِنْهُمْ، وَالْخَبَرُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ اللُّزُومُ وَلَا سِيَّمَا هُنَا، فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ، ثُمَّ قَدْ تَزُولُ هَذِهِ النِّسْبَةُ بِالْإِسْلَامِ فَيَكُونُ التَّعْبِيرُ عَنْهُمْ وَالْإِخْبَارُ بِأَنَّهُمْ مِنْهُمْ، بِاعْتِبَارِ الْحَالَةِ الْمَاضِيَةِ. وَأَمَّا فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّهُمْ مِنْهُمْ حَقِيقَةً لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ، فَجَاءَ الْوَصْفُ
بِالْإِلْزَامِ، وَلَمْ يُجْعَلْ خَبَرًا، وَجُعِلَ خَبَرَ الْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ، لِأَنَّ الْخَبَرَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ اللُّزُومُ، فَهُمْ بِصَدَدِ أَنَّ يُسْلِمَ نَاسٌ مِنْهُمْ فَيَزُولَ عَنْهُمُ الْإِخْبَارُ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَاخْتَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي سَاءَ أَنْ تَكُونَ الَّتِي لَا تَنْصَرِفُ، فَإِنَّ فِيهِ التَّعَجُّبَ كَأَنَّهُ قِيلَ:
مَا أَسْوَأَ عَمَلَهُمْ! وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ هَذَا الْوَجْهِ. وَاخْتَارَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ تَكُونَ الْمُتَصَرِّفَةَ تَقُولُ: سَاءَ الْأَمْرُ يَسُوءُ، وَأَجَازَ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ الْمُتَصَرِّفَةِ فَتُسْتَعْمَلَ اسْتِعْمَالَ نِعْمَ وَبِئْسَ كَقَوْلِهِ: سَاءَ مَثَلًا.
فَالْمُتَصَرِّفَةُ تَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ مَفْعُولٍ أَيْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَغَيْرُ الْمُتَصَرِّفَةِ تَحْتَاجُ إِلَى تَمْيِيزٍ أَيْ: سَاءَ عَمَلًا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هَذَا نِدَاءٌ بِالصِّفَةِ الشَّرِيفَةِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ أَوْصَافِ الْجِنْسِ الْإِنْسَانِيِّ، وَأَمْرٌ بِتَبْلِيغِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَلَّغَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ، فَهُوَ أَمْرٌ بِالدَّيْمُومَةِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَمِيعَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وَأَيَّ شَيْءٍ أُنْزِلَ غَيْرَ مُرَاقِبٍ فِي تَبْلِيغِهِ أَحَدًا وَلَا خَائِفٍ أَنْ يَنَالَكَ مَكْرُوهٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ بِالتَّبْلِيغِ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ وَالْكَمَالِ، لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ: بَلِّغْ، فَإِنَّمَا أُمِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ لَا يَتَوَقَّفَ عَلَى شَيْءٍ مَخَافَةَ أَحَدٍ، وَذَلِكَ أَنَّ رِسَالَتَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَضَمَّنَتِ الطَّعْنَ عَلَى أَنْوَاعِ الْكَفَرَةِ وَفَسَادِ أَحْوَالِهِمْ، فَكَانَ يَلْقَى مِنْهُمْ عَنَتًا، وَرُبَّمَا خَافَهُمْ أَحْيَانًا قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَمَّا بَعَثَنِي اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ ضِقْتُ بِهَا ذَرْعًا وَعَرَفْتُ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُكَذِّبُنِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ».
وَقِيلَ: هُوَ أَمْرٌ بِتَبْلِيغٍ خَاصٍّ أَيْ: مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنَ الرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ الَّذِي غَيَّرَهُ الْيَهُودُ فِي التَّوْرَاةِ وَالنَّصَارَى فِي الْإِنْجِيلِ. وَقِيلَ: أَمْرٌ بِتَبْلِيغِ أَمْرِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَنِكَاحِهَا. وَقِيلَ: بِتَبْلِيغِ الْجِهَادِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ، وَأَنْ لَا يَتْرُكَهُ لِأَجْلِ أَحَدٍ. وَقِيلَ: أَمْرٌ بِتَبْلِيغِ مَعَائِبِ آلِهَتِهِمْ، إِذْ كَانَ قَدْ سَكَتَ عِنْدَ نُزُولِ قَوْلِهِ: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ «١» الْآيَةَ عَنْ عَيْبِهَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَا التَّبْلِيغِ الْخَاصِّ. قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِهِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَّنَهُ مِنْ مَكْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَأَمَرَهُ بِتَبْلِيغِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ فِي أَمْرِهِمْ وَغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ مُبَالَاةٍ بِأَحَدٍ، لِأَنَّ الْكَلَامَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَعْدَهَا هُوَ مَعَهُمْ، فَيَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ أَجْنَبِيَّةً عَمَّا قَبْلَهَا وَعَمَّا بَعْدَهَا.
وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ أَيْ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ بِتَبْلِيغِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وَظَاهِرُ هَذَا الْجَوَابِ لَا يُنَافِي الشَّرْطَ، إِذْ صَارَ الْمَعْنَى: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ لَمْ تَفْعَلْ، وَالْجَوَابُ لَا بُدَّ أن يغاير
الشَّرْطَ حَتَّى يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ. فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَ اللَّهِ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَكَتَمَهَا كُلَّهَا كَأَنَّهُ لَمْ يُبْعَثْ رَسُولًا، كَانَ أَمْرًا شَنِيعًا. وَقِيلَ: إِنْ لَمْ تُبَلِّغْ مِنْهَا أَدْنَى شَيْءٍ وَإِنْ كَلِمَةً وَاحِدَةً فَأَنْتَ كَمَنْ رَكِبَ الْأَمْرَ الشَّنِيعَ الَّذِي هُوَ كِتْمَانُ كُلِّهَا، كَمَا عَظَّمَ قَتْلَ النَّفْسِ بِقَوْلِهِ: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً «١» وَالثَّانِي: أَنْ يُرَادَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ مَا يُوجِبُهُ كِتْمَانُ الْوَحْيِ كُلِّهِ مِنَ الْعِقَابِ، فَوُضِعَ السَّبَبُ مَوْضِعَ الْمُسَبَّبِ، وَيُعَضِّدُهُ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ إِنْ لَمْ تُبَلِّغْ رِسَالَاتِي لَأُعَذِّبَنَّكَ».
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ إِنْ تَرَكْتَ شَيْئًا فَكَأَنَّكَ قَدْ تَرَكْتَ الْكُلَّ، وَصَارَ مَا بَلَّغْتَ غَيْرَ مُعْتَدٍّ بِهِ. فَمَعْنَى: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ، وَإِنْ لَمْ تَسْتَوْفِ. وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ:
سُئِلْتَ فَلَمْ تَبْخَلْ وَلَمْ تُعْطِ نَائِلًا | فَسِيَّانَ لَا ذَمٌّ عَلَيْكَ وَلَا حَمْدُ |
«٢» وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ فِي تَرْتِيبِ الْعُقُوبَاتِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، رَتَّبَ عَلَى مَنْ أَخَذَ شَيْئًا بِالِاخْتِفَاءِ وَالتَّسَتُّرِ، قَطْعَ الْيَدِ مَعَ رَدِّ مَا أَخَذَهُ أَوْ قِيمَتِهِ، وَرَتَّبَ عَلَى مَنْ أَخَذَ شَيْئًا بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وَالْغَصْبِ رَدَّ ذَلِكَ الشَّيْءِ أَوْ قِيمَتِهِ إِنْ فُقِدْ دُونَ قطع اليد. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا خَرَجَ عَلَى قَانُونِ قَوْلِهِ: أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ شِعْرِي بَلَغَ فِي الْكَمَالِ وَالْفَصَاحَةِ وَالْمَتَانَةِ
(٢) سورة الأنبياء: ٢١/ ٢٣.
بِحَيْثُ مَتَى قِيلَ فِيهِ إِنَّهُ شِعْرِي فَقَدِ انْتَهَى مَدْحُهُ إِلَى الْغَايَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُزَادَ عَلَيْهَا، وَهَذَا الْكَلَامُ مُفِيدٌ الْمُبَالَغَةَ التَّامَّةَ مِنْ هَذَا الوجه، فكذا هاهنا. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تُبَلِّغْ رِسَالَتَهُ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ، يَعْنِي: أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِفَ الْبَلِيغُ بِتَرْكِ التَّهْدِيدِ بِأَعْظَمَ مِنْ أَنَّهُ تَرَكَ التَّعْظِيمَ، فَكَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ: رِسَالَاتِهِ عَلَى الْجَمْعِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: عَلَى التَّوْحِيدِ.
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ أَيْ لَا تُبَالِ فِي التَّبْلِيغِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَعْصِمُكَ فَلَيْسَ لَهُمْ تَسْلِيطٌ عَلَى قَتْلِكَ لَا بِمُؤَامَرَةٍ، وَلَا بِاغْتِيَالٍ، وَلَا بِاسْتِيلَاءٍ عَلَيْكَ بِأَخْذٍ وَأَسْرٍ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي اخْتَرَطَ سَيْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَقْتُلَهُ
انْتَهَى، وَهُوَ غَوْرَثُ بْنُ الحرث، وَذَلِكَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ.
وَرَوَى الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ كَانَ يُرْسِلُ رِجَالًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يَحْرُسُونَهُ حَتَّى نَزَلَ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ: إِنِ اللَّهَ قَدْ عَصَمَنِي مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فَلَا أَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَحْرُسُنِي. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَ يَهَابُ قُرَيْشًا فَلَمَّا نَزَلَتِ اسْتَلْقَى وَقَالَ: «مَنْ شَاءَ فَلْيَخْذُلْنِي مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا».
وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ حَدِيثَ رُكَانَةَ مِنْ: وَلَدِ هَاشِمٍ مُشْرِكًا أَفْتَكَ النَّاسِ وَأَشَدَّهُمْ، تَصَارَعَ هُوَ وَالرَّسُولُ، فَصَرَعَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا وَدَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَسَأَلَهُ آيَةً، فَدَعَا الشَّجَرَةَ فَأَقْبَلَتْ إِلَيْهِ. وَقَدِ انْشَقَّتْ نِصْفَيْنِ، ثُمَّ سَأَلَهُ رَدَّهَا إِلَى مَوْضِعِهَا فَالْتَأَمَتْ وَعَادَتْ، فَالْتَمَسَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَدَلَّا عَلَيْهِ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى وَادِ أُضْمٍ حَيْثُ رُكَانَةُ، فَسَارَا نَحْوَهُ وَاجْتَمَعَا بِهِ، وَذَكَرَا أَنَّهُمَا خَافَا الْفَتْكَ مِنْ رُكَانَةَ، فَأَخْبَرَهُمَا خَبَرَهُ مَعَهُ وَضَحِكَ، وَقَرَأَ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.
وَهَذَا وَمَا قَبْلَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ نَزَلَ بِمَكَّةَ أَوْ فِي ذَاتِ الرِّقَاعِ، وَالصَّحِيحُ
أَنَّهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَالرَّسُولُ بِهَا مُقِيمٌ شَهْرًا، وَحَرَسَهُ سَعْدٌ وَحُذَيْفَةُ، فَنَامَ حَتَّى غَطَّ، فَنَزَلَتْ، فَأَخْرَجَ إِلَيْهِمَا رَأْسَهُ مِنْ قُبَّةٍ آدَمَ وَقَالَ: «انْصَرِفُوا أَيُّهَا النَّاسُ فَقَدْ عَصَمَنِي اللَّهُ لَا أُبَالِي مَنْ نَصَرَنِي وَمَنْ خَذَلَنِي» وَأَصْلُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ
: وَأَمَّا شَجُّ جَبِينِهِ وَكَسْرُ رُبَاعِيَّتِهِ يَوْمَ أُحُدٍ فَقِيلَ: الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ أُحُدٍ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتْ قَبْلَهُ فَلَمْ تَتَضَمَّنِ الْعِصْمَةُ هَذَا الِابْتِلَاءَ وَنَحْوَهُ مِنْ أَذَى الْكُفَّارِ بِالْقَوْلِ، بَلْ تَضَمَّنَتِ الْعِصْمَةَ مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، وَأَمَّا مثل هذه ففيها الِابْتِلَاءُ الَّذِي فِيهِ رَفْعُ الدَّرَجَاتِ وَاحْتِمَالُ كُلِّ الْأَذَى دُونَ النَّفْسِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَابْتِلَاءُ الْأَنْبِيَاءِ أَشَدُّ، وَمَا أَعْظَمَ تَكْلِيفَهُمْ. وَأَتَى بِلَفْظِ يَعْصِمُكَ لِأَنَّ الْمُضَارِعَ يَدُلُّ عَلَى الدَّيْمُومَةِ وَالِاسْتِمْرَارِ، وَالنَّاسُ عَامٌّ يُرَادُ بِهِ الْكُفَّارُ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ. وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْإِخْبَارَ بِمُغَيَّبٍ وَوُجِدَ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ، فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ أَحَدٌ بِقَتْلٍ وَلَا أَسْرٍ مَعَ قَصْدِ الَأَعْدَاءِ
لَهُ مُغَالَبَةً وَاغْتِيَالًا. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارُهُ بِذَلِكَ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَا جَمِيعُ مَا أَخْبَرَ بِهِ.
إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ أَيْ إِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ لَا الْهِدَايَةُ، فَمَنْ قَضَيْتُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ وَالْمُوَافَاةِ عَلَيْهِ لَا يَهْتَدِي أَبَدًا، فَيَكُونُ خَاصًّا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَمَّا عَلَى الْعُمُومِ عَلَى أَنْ لَا هِدَايَةَ فِي الْكُفْرِ، وَلَا يَهْدِي اللَّهُ الْكَافِرَ فِي سَبِيلِ كُفْرِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُمَكِّنُهُمْ مِمَّا يُرِيدُونَ إِنْزَالَهُ، بَلْ مِنَ الْهَلَاكِ انْتَهَى. وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ لَا يُعِينُهُمْ عَلَى بُلُوغِ غَرَضِهِمْ مِنْكَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا يَهْدِيهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ. وَالظَّاهِرُ مِنَ الْهِدَايَةِ إِذَا أُطْلِقَتْ مَا فَسَّرْنَاهَا بِهِ أَوَّلًا.
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ
قَالَ رَافِعُ بْنُ سَلَّامِ بْنِ مِشْكَمٍ وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ وَرَافِعُ بْنُ حُرَيْمَلَةَ: يَا مُحَمَّدُ أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّكَ تُؤْمِنُ بِالتَّوْرَاةِ وَنُبُوَّةِ مُوسَى، وَأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ؟ قَالَ:
«بَلَى وَلَكِنَّكُمْ أَحْدَثْتُمْ وَغَيَّرْتُمْ وَكَتَمْتُمْ» فَقَالُوا: إِنَّا نَأْخُذُ بِمَا فِي أَيْدِينَا فَإِنَّهُ الْحَقُّ، وَلَا نُصَدِّقُكَ، وَلَا نَتَّبِعُكَ فَنَزَلَتْ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إِقَامَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَمَا أُنْزِلَ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَنَفْيُ أَنْ يَكُونُوا عَلَى شَيْءٍ جَعَلَ مَا هُمْ عَلَيْهِ عَدَمًا صِرْفًا لِفَسَادِهِ وَبُطْلَانِهِ فَنَفَاهُ من أصله، أو لاحظ فِيهِ، صِفَةٌ مَحْذُوفَةٌ أَيْ: عَلَى شَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ، فَيَتَوَجَّهُ النَّفْيُ إِلَى الصِّفَةِ دُونَ الْمَوْصُوفِ.
وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ.
فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أَيْ لَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ. فَأَقَامَ الظَّاهِرَ مَقَامَ الْمُضْمَرِ تَنْبِيهًا عَلَى الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِعَدَمِ التَّأَسُّفِ، أَوْ هُوَ عَامٌّ فَيَنْدَرِجُونَ فِيهِ. وَقِيلَ: فِي قَوْلِهِ: حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ «١» جَمَعَ فِي الضَّمِيرِ، وَالْمَقْصُودُ التَّفْصِيلُ أَيْ: حَتَّى يُقِيمَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ، وَيُقِيمَ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ الْإِنْجِيلَ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ إِنْ أُرِيدَ مَا فِي الْكِتَابَيْنِ مِنَ التَّوْحِيدِ، فَإِنَّ الشَّرَائِعَ فِيهِ مُتَسَاوِيَةٌ.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَرَأَ عُثْمَانُ، وَأُبَيٌّ وَعَائِشَةُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالْجَحْدَرِيُّ: وَالصَّابِئِينَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ: والصابئون بِكَسْرِ الْبَاءِ وَضَمِّ الْيَاءِ، وَهُوَ مِنْ تَخْفِيفِ الْهَمْزِ كَقِرَاءَةِ: يَسْتَهْزِئُونَ. وَقَرَأَ الْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ: وَالصَّابِئُونَ بِالرَّفْعِ، وَعَلَيْهِ مَصَاحِفُ الْأَمْصَارِ، وَالْجُمْهُورُ. وَفِي تَوْجِيهِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلِ وَنُحَاةِ الْبَصْرَةِ:
أَنَّهُ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَهُوَ مَنَوِيٌّ بِهِ التَّأْخِيرُ، وَنَظِيرُهُ: إِنَّ زَيْدًا وعمرو قائم، التقدير: إِنَّ زَيْدًا قَائِمٌ وَعَمْرٌو قَائِمٌ، فَحُذِفَ خَبَرُ عَمْرٍو لِدَلَالَةِ خَبَرِ إِنَّ عَلَيْهِ، وَالنِّيَّةُ بِقَوْلِهِ: وَعَمْرٌو، التَّأْخِيرُ. وَيَكُونُ عَمْرٌو قَائِمٌ بِخَبَرِهِ هَذَا الْمُقَدَّرِ مَعْطُوفًا عَلَى الْجُمْلَةِ مِنْ إِنَّ زَيْدًا قَائِمٌ، وَكِلَاهُمَا لَا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَوْضِعِ اسْمِ إِنَّ لِأَنَّهُ قَبْلَ دُخُولِ إِنَّ كَانَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ. أَمَّا الْكِسَائِيُّ فَإِنَّهُ أَجَازَ رَفْعَ الْمَعْطُوفِ عَلَى الْمَوْضِعِ سَوَاءٌ كَانَ الِاسْمُ مِمَّا خَفِيَ فِيهِ الْإِعْرَابُ، أَوْ مِمَّا ظَهَرَ فِيهِ. وَأَمَّا الْفَرَّاءُ فَإِنَّهُ أَجَازَ ذَلِكَ بِشَرْطِ خَفَاءِ الْإِعْرَابِ. وَاسْمُ إِنَّ هُنَا خَفِيَ فِيهِ الْإِعْرَابُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَرْفُوعٌ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي هَادُوا: وَرُوِيَ هَذَا عَنِ الْكِسَائِيِّ. وَرُدَّ بِأَنَّ الْعَطْفَ عَلَيْهِ يَقْتَضِي أَنَّ الصَّابِئِينَ تَهَوَّدُوا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ إِنَّ بِمَعْنَى نَعَمْ حَرْفُ جَوَابٍ، وَمَا بَعْدَهُ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ، فَيَكُونُ وَالصَّابِئُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْمَرْفُوعِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ. لِأَنَّ ثُبُوتَ أَنَّ بِمَعْنَى نَعَمْ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ ذَلِكَ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ فَتَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ يَتَقَدَّمُهَا يَكُونُ تَصْدِيقًا لَهُ، وَلَا تَجِيءُ ابْتِدَائِيَّةً أَوَّلَ الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ جَوَابًا لِكَلَامٍ سَابِقٍ. وَقَدْ أَطَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَقْدِيرِ مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ وَنُصْرَتِهِ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَأَوْرَدَ أَسْئِلَةً وَجَوَابَاتٍ فِي الْآيَةِ إِعْرَابِيَّةً تَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي الْبَقَرَةِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادَوْا وَالصَّابِئُونَ.
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا هَذَا إِخْبَارٌ بِمَا صَدَرَ مِنْ أَسْلَافِ الْيَهُودِ مِنْ نَقْضِ الْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَمَا اجْتَرَحُوهُ مِنَ الْجَرَائِمِ الْعِظَامِ مِنْ تَكْذِيبِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَتْلِ بَعْضِهِمْ، وَالَّذِينَ هُمْ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ هُمْ أَخْلَافُ أُولَئِكَ، فَغَيْرُ بِدْعٍ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ لِلرَّسُولِ مِنَ الْأَذَى وَالْعِصْيَانِ، إِذْ ذَاكَ شِنْشِنَةٌ مِنْ أَسْلَافِهِمْ.
كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لَا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذَا فِي الْبَقَرَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا: (فَإِنْ قُلْتَ) : أَيْنَ جَوَابُ الشَّرْطِ؟ فَإِنَّ قَوْلَهُ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ نَابَ عَنِ الْجَوَابِ، لِأَنَّ الرَّسُولَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ فَرِيقَيْنِ، وَلِأَنَّهُ
لَا يَحْسُنُ أَنْ تَقُولَ: إِنْ أَكْرَمْتَ أَخِي أَخَاكَ أَكْرَمْتُ. (قُلْتُ) : هُوَ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ نَاصَبُوهُ. وَقَوْلُهُ: فَرِيقًا كَذَّبُوا، جَوَابٌ مُسْتَأْنَفٌ لِسُؤَالِ قاتل: كَيْفَ فَعَلُوا بِرُسُلِهِمْ؟ انْتَهَى قَوْلُهُ: فَإِنْ قُلْتَ: أَيْنَ جَوَابُ الشَّرْطِ؟ سَمَّى قَوْلَهُ كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ شَرْطًا وَلَيْسَ بِشَرْطٍ، بَلْ كُلَّ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ لِإِضَافَتِهَا إِلَى الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْ مَا الْمَصْدَرِيَّةِ الظَّرْفِيَّةِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا هُوَ مَا يَأْتِي بَعْدَ مَا الْمَذْكُورَةِ، وَصِلَتِهَا مِنَ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ «١» كُلَّمَا أُلْقُوا فِيها «٢» وَأَجْمَعَتِ الْعَرَبُ عَلَى أنه لا يحزم بِكُلَّمَا، وَعَلَى تَسْلِيمِ تَسْمِيَتِهِ شَرْطًا فَذَكَرَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَرِيقًا كَذَّبُوا يَنْبُو عَنِ الْجَوَابِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: لِأَنَّ الرَّسُولَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ فَرِيقَيْنِ، وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، لِأَنَّ الرَّسُولَ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ لَا يُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ. وَأَيُّ نَجْمٍ طَلَعَ، وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ انْقَسَمَ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ: فَرِيقٍ كُذِّبَ، وَفَرِيقٌ قُتِلَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي قَوْلُه: وَلِأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ أَنْ تَقُولَ إِنْ أَكْرَمْتَ أَخِي أَخَاكَ أَكْرَمْتُ، يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ مَنْصُوبِ فِعْلٍ لِلْجَوَابِ عَلَيْهِ. وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، بَلْ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ وَالْكِسَائِيِّ أَنَّ ذَاكَ جَائِزٌ حَسَنٌ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ إِلَّا الْفَرَّاءُ وَحْدَهُ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ أَنَّ كُلَّمَا شَرْطٌ، وَإِلَّا فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَعْتَذِرَ بِهَذَا، بَلْ يَجُوزُ تَقْدِيمُ مَنْصُوبِ الْفِعْلِ الْعَامِلِ فِي كُلَّمَا عَلَيْهِ. فَتَقُولُ فِي كُلَّمَا جِئْتَنِي أَخَاكَ أَكْرَمْتُ، وَعُمُومُ نُصُوصِ النَّحْوِيِّينَ عَلَى ذلك، لأنهم حين حصر، وأما يَجِبُ تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ بِهِ عَلَى الْعَامِلِ وَمَا يَجِبُ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ قَالُوا: وَمَا سِوَى ذَلِكَ يَجُوزُ فِيهِ التَّقْدِيمُ عَلَى الْعَامِلِ وَالتَّأْخِيرُ عَنْهُ، وَلَمْ يَسْتَثْنُوا هَذِهِ الصُّورَةَ، وَلَا ذَكَرُوا فِيهَا خِلَافًا. فَعَلَى هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ يَكُونُ الْعَامِلُ فِي كُلَّمَا قَوْلُهُ: كَذَّبُوا، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ وَلَا يَكُونُ مَحْذُوفًا. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ: كُلَّمَا ظَرْفٌ، وَالْعَامِلُ فِيهِ كَذَّبُوا. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ:
كَذَّبُوا جَوَابُ كُلَّمَا انْتَهَى. وَجَاءَ بِلَفْظِ يَقْتُلُونَ عَلَى حِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ اسْتِفْظَاعًا لِلْقَتْلِ، وَاسْتِحْضَارًا لِتِلْكَ الْحَالِ الشَّنِيعَةِ لِلتَّعَجُّبِ مِنْهَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَيُحَسِّنُ مَجِيئُهُ أَيْضًا كَوْنُهُ رَأْسَ آيَةٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ فَرِيقًا فَقَطْ، وَقَتَلُوا فَرِيقًا وَلَا يَقْتُلُونَهُ إِلَّا مَعَ التَّكْذِيبِ، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْقَتْلِ عَنْ ذِكْرِ التَّكْذِيبِ أَيِ: اقْتَصَرَ ناس على كذيب فَرِيقٍ، وَزَادَ نَاسٌ عَلَى التَّكْذِيبِ الْقَتْلَ.
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
قال ابن الأنباري:
(٢) سورة الملك: ٦٧/ ٧.
نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا عَلَى الْكُفْرِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ، فَلَمَّا بُعِثَ الرَّسُولُ كَذَّبُوهُ بَغْيًا وَحَسَدًا، فَعَمُوا وَصَمُّوا لِمُجَانَبَةِ الْحَقِّ، ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
أَيْ: عَرَّضَهُمْ لِلتَّوْبَةِ بِإِرْسَالِ الرَّسُولِ صَلَّى الله عليه وسلم، وإن لَمْ يَتُوبُوا ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُجْمِعُوا كُلُّهُمْ عَلَى خِلَافِهِ انْتَهَى. وَالضَّمِيرُ فِي:
وَحَسِبُوا، عَائِدٌ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَحُسْبَانُهُمْ سَبَبُهُ اغْتِرَارُهُمْ بِإِمْهَالِ اللَّهِ حِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ وَقَتَلُوا، أَوْ وُقُوعُ كَوْنِهِمْ أَبْنَاءَ اللَّهِ وَأَحِبَّاءَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا تَمَسُّهُمُ النَّارُ إِلَّا مِقْدَارَ الزَّمَانِ الَّذِي عَبَدُوا فِيهِ الْعِجْلَ، وَإِمْدَادُ اللَّهِ لَهُمْ بِطُولِ الْأَعْمَارِ وَسِعَةِ الْأَرْزَاقِ، أَوْ وُقُوعُ كَوْنِ الْجَنَّةِ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى فِي أَنْفُسِهِمْ، وَاعْتِقَادُهُمُ امْتِنَاعُ النَّسْخِ عَلَى شَرِيعَةِ مُوسَى، فَكُلُّ مَنْ جَاءَهُمْ مِنْ رَسُولٍ كَذَّبُوهُ وَقَتَلُوهُ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ. وَالْفِتْنَةُ هُنَا: الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ. فَقِيلَ: فِي الدُّنْيَا بِالْقَحْطِ وَالْوَبَاءِ وَهُوَ الطَّاعُونُ، أَوِ الْقَتْلِ، أَوِ الْعَدَاوَةِ، أَوْ ضِيقِ الْحَالِ، أَوِ الْقُمَّلِ، وَالضَّفَادِعِ، وَالدَّمِ، أَوِ التِّيهِ، وَقِتَالِ الْجَبَّارِينَ، أَوْ مَجْمُوعِ مَا ذُكِرَ أَقْوَالٌ ثَمَانِيَةٌ. وَقِيلَ: فِي الْآخِرَةِ بالافتضاح على رؤوس الْأَشْهَادِ، أَوْ هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَشِدَّتُهُ، أَوِ الْعَذَابُ بِالنَّارِ وَالْخُلُودِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. وَقِيلَ: الْفِتْنَةُ مَا نَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَسَدَّتْ أَنْ وَصِلَتُهَا مَسَدَّ مَفْعُولَيْ حَسِبَ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَعَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ: بِنَصْبِ نُونِ تَكُونَ بِأَنِ النَّاصِبَةِ لِلْمُضَارِعِ، وَهُوَ عَلَى الْأَصْلِ إِذْ حَسِبَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي فِي أَصْلِ الْوَضْعِ لِغَيْرِ الْمُتَيَقَّنِ. وَقَرَأَ النَّحْوِيَّانِ وَحَمْزَةُ بِرَفْعِ النُّونِ، وَأَنْ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ مَحْذُوفٌ، وَالْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ. نَزَلَ الْحُسْبَانُ فِي صُدُورِهِمْ مَنْزِلَةَ الْعِلْمِ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَتْ حَسِبَ فِي الْمُتَيَقَّنِ قَلِيلًا قَالَ الشَّاعِرُ:
حَسِبْتُ التُّقَى وَالْجُودَ خَيْرَ تِجَارَةٍ | رَبَاحًا إِذَا مَا الْمَرْءُ أَصْبَحَ ثَاقِلَا |
ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ قَالَتْ جَمَاعَةٌ: تَوْبَتُهُمْ هَذِهِ رَدُّهُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ الْأَوَّلِ وعماهم وصممهم. قيل: ولو جهم فِي شَهَوَاتِهِمْ فَلَمْ يُبْصِرُوا الْحَقَّ، وَلَمْ يَسْمَعُوا دَاعِيَ اللَّهِ. وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ: تَوْبَتُهُمْ بِبَعْثِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ: بَعْثَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ: فِي زَمَانِ زكريا ويحيى وعيسى عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلِتَوْفِيقِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ. وَالثَّانِي: فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمَنَ جَمَاعَةٌ بِهِ، وَأَقَامَ الْكَثِيرُ مِنْهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ عِبَادَةُ الْعِجْلِ ثُمَّ التَّوْبَةُ عَنْهُ، ثُمَّ الثَّانِي بِطَلَبِ الرُّؤْيَةِ وَهِيَ مُحَالُّ غَيْرُ مَعْقُولٍ فِي صِفَاتِ اللَّهِ قَالَهُ: الزَّمَخْشَرِيُّ جَرْيًا عَلَى مَذْهَبِهِ الِاعْتِزَالِيِّ فِي إِنْكَارِ رُؤْيَةِ اللَّهِ صفحة رقم 327
تَعَالَى. وَقَالَ الْقَفَّالُ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِهَذِهِ الْآيَةِ وَقِيلَ: الْأَوَّلُ بَعْدَ مُوسَى ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ بِبَعْثِ عِيسَى. وَالثَّانِي بِالْكُفْرِ بِالرَّسُولِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمَعْنَى حَسِبَ بَنُو إِسْرَائِيلَ حَيْثُ هُمْ أَبْنَاءُ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ أَنْ لَا يُبْتَلَوْا إِذَا عَصَوُا اللَّهَ، فَعَصَوُا اللَّهَ تَعَالَى وَكَنَّى عَنِ الْعِصْيَانِ بِالْعَمَى وَالصَّمَمِ، ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ إِذْ حَلَّتْ بِهِمُ الْفِتْنَةُ بِرُجُوعِهِمْ عَنِ الْمَعْصِيَةِ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبُدِئَ بِالْعَمَى لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا يَعْرِضُ لِلْمُعْرِضِ عَنِ الشَّرَائِعِ أَنْ لَا يُبْصِرَ مَنْ أَتَاهُ بِهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، ثُمَّ لَوْ أَبْصَرَهُ لَمْ يَسْمَعْ كَلَامَهُ، فَعَرَضَ لَهُمُ الصَّمَمُ عَنْ كَلَامِهِ. وَلَمَّا كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْهِدَايَةِ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُمُ الضَّلَالُ، نُسِبَ الْفِعْلُ إِلَيْهِمْ وَأُسْنِدَ لَهُمْ وَلَمْ يَأْتِ، فَأَعْمَاهُمُ اللَّهُ وَأَصَمَّهُمْ كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ «١» إِذْ هَذَا فِيمَنْ لَمْ تَسْبِقْ لَهُ هِدَايَةٌ، وَأُسْنِدَ الْفِعْلُ الشَّرِيفُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ «٢» لَمْ يَأْتِ، ثُمَّ تَابُوا إِظْهَارًا لِلِاعْتِنَاءِ بِهِمْ وَلُطْفِهِ تَعَالَى بِهِمْ. وَفِي الْعَطْفِ بِالْفَاءِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ يَعْقُبُ الْحُسْبَانَ عِصْيَانُهُمْ وَضَلَالُهُمْ، وَفِي الْعَطْفِ بِثُمَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ تَمَادَوْا فِي الضَّلَالِ زَمَانًا إِلَى أَنْ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَقَرَأَ النَّخَعِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالصَّادِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ مِنْ عَمُوا، جَرَتْ مَجْرَى زُكِمَ الرَّجُلُ وَأَزْكَمَهُ، وَحُمَّ وَأَحَمَّهُ، وَلَا يُقَالُ: زَكَمَهُ اللَّهُ وَلَا حَمَّهُ اللَّهُ، كَمَا لَا يُقَالُ: عُمِيتُهُ وَلَا صُمِمْتُهُ، وَهِيَ أَفْعَالٌ جَاءَتْ مَبْنِيَّةً لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَهِيَ مُتَعَدِّيَةٌ ثُلَاثِيَّةٌ، فَإِذَا بُنِيَتْ لِلْفَاعِلِ صَارَتْ قَاصِرَةً، فَإِذَا أَرَدْتَ بِنَاءَهَا لِلْفَاعِلِ مُتَعَدِّيَةً أَدْخَلْتَ هَمْزَةَ التَّنَقُّلِ وَهِيَ نَوْعٌ غَرِيبٌ فِي الْأَفْعَالِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعُمُوا وَصُمُّوا بِالضَّمِّ عَلَى تَقْدِيرِ عَمَاهُمُ اللَّهُ وَصَمَّهُمْ أَيْ: رَمَاهُمْ بِالْعَمَى وَالصَّمَمِ كَمَا يُقَالُ: نَزَكْتُهُ إِذَا ضَرَبْتَهُ بِالنَّيْزَكِ، وَرَكَبْتُهُ إِذَا ضَرَبْتَهُ بِرُكْبَتِكَ انْتَهَى. وَارْتِفَاعُ كَثِيرٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْمُضْمَرِ. وَجَوَّزُوا أَنْ يَرْتَفِعَ عَلَى الْفَاعِلِ، وَالْوَاوُ عَلَامَةٌ لِلْجَمْعِ لَا ضَمِيرٌ عَلَى لُغَةِ أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ، وَلَا يَنْبَغِي ذَلِكَ لِقِلَّةِ هَذِهِ اللُّغَةِ. وَقِيلَ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تقديره هم أي: الْعَمَى وَالصَّمُّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: مُبْتَدَأٌ وَالْجُمْلَةُ قَبِلَهُ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ. وَضُعِّفَ بِأَنَّ الْفِعْلَ قَدْ وَقَعَ مَوْقِعَهُ، فَلَا يُنْوَى بِهِ التَّأْخِيرُ. وَالْوَجْهُ هُوَ الْإِعْرَابُ الْأَوَّلُ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: كَثِيرًا مِنْهُمْ بِالنَّصْبِ.
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ هَذَا فِيهِ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، وَنَاسَبَ خَتْمُ الْآيَةِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى بَصِيرٍ، إِذْ تَقَدَّمَ قَبْلَهُ فَعَمُوا.
(٢) سورة المائدة: ٥/ ٧١.
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَقَائِلُو ذَلِكَ: هُمُ الْيَعْقُوبِيَّةُ، زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَلَّى فِي شَخْصِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى مَقَالَتَهُمْ بِقَوْلِ مَنْ يَدَّعُونَ إلهيته وهو عيسى، أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فِي أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ مَرْبُوبُونَ، وَأَمَرَهُمْ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْوَصْفِ الْمُوجِبِ لِلْعِبَادَةِ وَهُوَ الرُّبُوبِيَّةُ. وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَيْهِمْ فِي فَسَادِ دَعْوَاهُمْ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِي يُعَظِّمُونَهُ وَيَرْفَعُونَ قَدْرَهُ عَمَّا لَيْسَ لَهُ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ مَقَالَتَهُمْ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ تَعَالَى عَنْهُ هُوَ مذكور في إنجيلهم يقرأونه وَلَا يَعْمَلُونَ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَسِيحِ:
يَا مَعْشَرَ بَنِي الْمَعْمُودِيَّةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: يَا مَعْشَرَ الشُّعُوبِ قُومُوا بِنَا إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ، وَإِلَهِي وَإِلَهِكُمْ، وَمُخَلِّصِي وَمُخَلِّصِكُمْ.
إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ الظَّاهِرُ أنه كَلَامِ الْمَسِيحِ، فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْقَوْلِ. وَفِيهِ أَعْظَمُ رَدْعٍ مِنْهُ عَنْ عِبَادَتِهِ، إِذْ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ مَنَعَهُ اللَّهُ دَارَ مَنْ أَفْرَدَهُ بِالْعِبَادَةِ، وَجَعَلَ مَأْوَاهُ النَّارَ. إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ «١». وَقِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَأْنَفٌ، أَخْبَرَ بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ.
وفي الحديث الصحيح من حَدِيثِ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: «أن اللَّهَ حَرَّمَ النَّارَ عَلَى مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ».
وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ عِيسَى، أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ مَنْ تَجَاوَزَ وَوَضَعَ الشَّيْءَ غَيْرَ مَوْضِعِهِ فَلَا نَاصِرَ لَهُ، وَلَا مُسَاعِدَ فِيمَا افْتَرَى وَتَقَوَّلَ، وَفِي ذَلِكَ رَدْعٌ لَهُمْ عَمَّا انْتَحَلُوهُ فِي حَقِّهِمْ مِنْ دَعْوَى أَنَّهُ إِلَهٌ، وَأَنَّهُ ظلم إذ جَعَلُوا مَا هُوَ مُسْتَحِيلٌ فِي الْعَقْلِ وَاجِبًا وُقُوعُهُ، أَوْ فَلَا نَاصِرَ لَهُ وَلَا مُنَجِّيَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، أَخْبَرَ أَنَّهُمْ ظَلَمُوا وَعَدَلُوا عَنِ الْحَقِّ فِي أَمْرِ عِيسَى وَتَقَوُّلِهِمْ عَلَيْهِ، فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ هَؤُلَاءِ هُمُ الْمَلْكِيَّةُ مِنَ النَّصَارَى الْقَائِلُونَ بِالتَّثْلِيثِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، أَحَدُ أَلِهَةٍ ثَلَاثَةٍ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَرَادُوا بِذَلِكَ أن الله تعالى وعيسى وَأُمَّهُ آلِهَةٌ ثَلَاثَةٌ، وَيُؤَكِّدُهُ
أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ «١» مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً «٢» أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ «٣» مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ «٤». وَحَكَى الْمُتَكَلِّمُونَ عَنِ النَّصَارَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ:
جَوْهَرٌ وَاحِدٌ ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ: أَبٌ، وَابْنٌ، وَرُوحُ قُدُسٍ. وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، كَمَا أَنَّ الشَّمْسَ تَتَنَاوَلُ الْقُرْصَ وَالشُّعَاعَ وَالْحَرَارَةَ، وَعَنَوْا بِالْأَبِ الذَّاتَ، وَبِالِابْنِ الْكَلِمَةَ، وَبِالرُّوحِ الْحَيَاةَ. وَأَثْبَتُوا الذَّاتَ وَالْكَلِمَةَ وَالْحَيَاةَ وَقَالُوا: إِنَّ الْكَلِمَةَ الَّتِي هِيَ كَلَامُ اللَّهِ اخْتَلَطَتْ بِجَسَدِ عِيسَى اخْتِلَاطَ الْمَاءِ بِالْخَمْرِ، أَوِ اخْتِلَاطَ اللَّبَنِ بِالْمَاءِ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْأَبَ إِلَهٌ، وَالِابْنَ إِلَهٌ، وَالرُّوحَ إِلَهٌ، وَالْكُلُّ إِلَهٌ وَاحِدٌ. وَهَذَا مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ أَنَّ الثَّلَاثَةَ لَا تَكُونُ وَاحِدًا، وَأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ ثَلَاثَةً، وَلَا يَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ فِي ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ إِلَّا الْإِضَافَةُ، لِأَنَّكَ لَا تَقُولُ ثَلَّثْتُ الثَّلَاثَةَ. وَأَجَازَ النَّصْبَ فِي الَّذِي يَلِي اسْمَ الْفَاعِلِ الْمُوَافِقَ لَهُ فِي اللَّفْظِ أحمد بن يحيى ثعلب، وَرَدُّوهُ عَلَيْهِ جَعَلُوهُ كَاسْمِ الْفَاعِلِ مَعَ الْعَدَدِ الْمُخَالِفِ نَحْوَ: رَابِعُ ثَلَاثَةٍ، وَلَيْسَ مِثْلَهُ إِذْ تَقُولُ: رَبَّعْتُ الثَّلَاثَةَ أَيْ صَيَّرْتُهُمْ بِكَ أَرْبَعَةً.
وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ مَعْنَاهُ لَا يَكُونُ إِلَهٌ فِي الْوُجُودِ إِلَّا مُتَّصِفًا بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَأَكَدَّ ذَلِكَ بِزِيَادَةِ مِنِ الِاسْتِغْرَاقِيَّةِ وَحَصْرِ إِلَهِيَّتِهِ فِي صِفَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ. وَإِلَهٌ رَفْعٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ إِلَهٍ عَلَى الْمَوْضِعِ. وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ إِتْبَاعَهُ عَلَى اللَّفْظِ، لِأَنَّهُ يُجِيزُ زِيَادَةَ مِنْ فِي الْوَاجِبِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا إِلَهٌ فِي الْوُجُودِ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ أَيْ: مَوْصُوفٌ بِالْوَحْدَانِيَّةِ لَا ثَانِيَ لَهُ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أَيْ عَمَّا يَفْتَرُونَ وَيَعْتَقِدُونَ فِي عِيسَى مِنْ أَنَّهُ هُوَ اللَّهُ، أَوْ أَنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، أَوْعَدَهُمْ بِإِصَابَةِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالسَّبْيِ وَالْقَتْلِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَقَدَّمَ الْوَعِيدَ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِسِمَاتِ الْحُدُوثِ إِبْلَاغًا فِي الزَّجْرِ أَيْ: هَذِهِ الْمَقَالَةُ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، بِحَيْثُ لَا تَخْتَلِفُ الْعُقُولُ فِي فَسَادِهَا، فَلِذَلِكَ تَوَعَّدَ أَوَّلًا عَلَيْهَا بِالْعَذَابِ، ثُمَّ أَتْبَعَ الْوَعِيدَ بِالِاسْتِدْلَالِ بِسِمَاتِ الْحُدُوثِ عَلَى بُطْلَانِهَا.
وَلَيَمَسَّنَّ: اللَّامُ فِيهِ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ قَبْلَ أَدَاةِ الشَّرْطِ، وَأَكْثَرُ مَا يَجِيءُ هَذَا التَّرْكِيبُ وَقَدْ صَحِبَتْ إِنِ اللام المؤذنة بالقسم المحذوف كقوله:
(٢) سورة الجن: ٧٢/ ٣. [.....]
(٣) سورة الأنعام: ٦/ ١٠١.
(٤) سورة المؤمنون: ٢٣/ ٩١.
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ «١» وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ: وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ «٢» وَمِثْلُهُ: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ «٣» وَمَعْنَى مَجِيءِ إِنَّ بغير باء، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَبْلَ إِنْ قَسَمٌ مَحْذُوفٌ إِذْ لَوْلَا نِيَّةُ الْقَسَمِ لَقَالَ: فَإِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَيِ: الَّذِينَ ثَبَتُوا عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ. وَأَقَامَ الظَّاهِرَ مُقَامَ الْمُضْمَرِ، إِذْ كَانَ الرَّبْطُ يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ: لَيَمَسَّنَّهُمْ، لِتَكْرِيرِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ كَفَرَ وَلِلْإِعْلَامِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا بِمَكَانٍ مِنَ الْكُفْرِ، إِذْ جَعَلَ الْفِعْلَ فِي صِلَةِ الَّذِينَ وَهِيَ تَقْتَضِي كَوْنَهَا مَعْلُومَةً لِلسَّامِعِ مَفْرُوغًا مِنْ ثُبُوتِهَا، واستقرارها لهم ومن فِي مِنْهُمْ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ كَائِنًا مِنْهُمْ، وَالرَّبْطُ حَاصِلٌ بِالضَّمِيرِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: كَافِرَهُمْ وَلَيْسُوا كُلُّهُمْ بَقُوا عَلَى الْكُفْرِ، بَلْ قَدْ تَابَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ. وَمَنْ أَثْبَتَ أَنَّ مِنْ تَكُونُ لِبَيَانِ الْجِنْسِ أَجَازَ ذَلِكَ هُنَا، وَنَظَّرَهُ بِقَوْلِهِ:
فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ «٤».
أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ هَذَا لُطْفٌ بِهِمْ وَاسْتِدْعَاءٌ إِلَى التَّنَصُّلِ مِنْ تِلْكَ الْمَقَالَةِ الشَّنْعَاءِ بَعْدَ أَنْ كَرَّرَ عَلَيْهِمُ الشَّهَادَةَ بِالْكُفْرِ. وَالْفَاءُ فِي أَفَلَا لِلْعَطْفِ، حَجَزَتْ بَيْنَ الِاسْتِفْهَامِ وَلَا النَّافِيَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَلَا. وَعَلَى طَرِيقَةِ الزَّمَخْشَرِيِّ تَكُونُ قَدْ عَطَفَتْ فِعْلًا عَلَى فِعْلٍ، كَأَنَّ التَّقْدِيرَ: أَيَثْبُتُونَ عَلَى الْكُفْرِ فَلَا يَتُوبُونَ، وَالْمَعْنَى عَلَى التَّعَجُّبِ مِنِ انْتِفَاءِ تَوْبَتِهِمْ وَعَدَمِ اسْتِغْفَارِهِمْ، وَهُمْ أَجْدَرُ النَّاسِ بِذَلِكَ، لِأَنَّ كُفْرَهُمْ أَقْبَحُ الْكُفْرِ، وَأَفْضَحُ فِي سُوءِ الِاعْتِقَادِ، فَتَعَجَّبَ مِنْ كَوْنِهِمْ لَا يَتُوبُونَ مِنْ هَذَا الْجُرْمِ الْعَظِيمِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ كَقَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ «٥». قَالَ: إِنَّمَا كَانَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الصِّيغَةِ طَلَبُ التَّوْبَةِ وَالْحَثُّ عَلَيْهَا، فَمَعْنَاهُ: تُوبُوا إِلَى اللَّهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ مِنْ ذَنْبِكُمُ الْقَوْلَيْنِ الْمُسْتَحِيلَيْنِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: رَفَقَ جَلَّ وَعَلَا بِهِمْ بِتَحْضِيضِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى التَّوْبَةِ وَطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْحَثِّ وَالتَّحْضِيضِ عَلَى التَّوْبَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لَا مِنْ حَيْثُ مَدْلُولُ اللَّفْظِ، لِأَنَّ أَفَلَا غَيْرُ مَدْلُولِ أَلَا الَّتِي لِلْحَضِّ وَالْحَثِّ.
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا يَحْصُلُ قَبُولُ التَّوْبَةِ وَالْغُفْرَانِ لِلْحَوْبَةِ، وَالْمَعْنَى: كَيْفَ لَا تُوجَدُ التَّوْبَةُ مِنْ هَذَا الذَّنَبِ وَطَلَبُ الْمَغْفِرَةِ وَالْمَسْئُولُ مِنْهُ ذَلِكَ مُتَّصِفٌ بِالْغُفْرَانِ التَّامِّ وَالرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ لهؤلاء وغيرهم؟
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ٢٣.
(٣) سورة الأنعام: ٦/ ١٢١.
(٤) سورة الحج: ٢٢/ ٣٠.
(٥) سورة المائدة: ٥/ ٩١.
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ لَمَّا رَدَّ عَلَى النَّصَارَى قَوْلَهُمُ الْأَوَّلَ بِقَوْلِ الْمَسِيحِ: اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ «١» وَالثَّانِي بِقَوْلِهِ: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ «٢» أَثْبَتَ لَهُ الرِّسَالَةَ بِصُورَةِ الْحَصْرِ، أَيْ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ شَيْءٌ مِمَّا تَدَّعِيهِ النَّصَارَى مِنْ كَوْنِهِ إِلَهًا وَكَوْنِهِ أَحَدَ آلِهَةٍ ثَلَاثَةٍ، بَلْ هُوَ رَسُولٌ مِنْ جِنْسِ الرُّسُلِ الَّذِينَ خَلَوْا وَتَقَدَّمُوا، جَاءَ بِآيَاتٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَمَا جَاءُوا، فَإِنْ أَحْيَا الْمَوْتَى وَأَبْرَأَ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ عَلَى يَدِهِ، فَقَدْ أَحْيَا الْعَصَا وَجَعَلَهَا حَيَّةً تَسْعَى، وَفَلَقَ الْبَحْرَ، وَطَمَسَ عَلَى يَدِ مُوسَى، وَإِنْ خَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ فَقَدْ خَلَقَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ وَأُنْثَى. وَفِي قَوْلِهِ: إِلَّا رَسُولٌ رَدٌّ عَلَى الْيَهُودِ حَيْثُ ادَّعَوْا كَذِبَهُ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ، وَحَيْثُ ادَّعَوْا أَنَّهُ لَيْسَ لِرِشْدَةٍ. وَقَرَأَ حَطَّانُ: مِنْ قَبْلِهِ رُسُلٌ بِالتَّنْكِيرِ.
وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ هَذَا الْبِنَاءُ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنَ الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ، إِذْ بِنَاءُ هَذَا التَّرْكِيبِ مِنْهُ سِكِّيتٌ وَسِكِّيرٌ، وَشِرِّيبٌ وَطِبِّيخٌ، مِنْ سَكَتَ وَسَكِرَ، وَشَرِبَ وَطَبَخَ. وَلَا يَعْمَلُ مَا كَانَ مَبْنِيًّا مِنَ الثُّلَاثِيِّ الْمُتَعَدِّي كَمَا يَعْمَلُ فَعُولٌ وَفَعَّالٌ وَمِفْعَالٌ، فَلَا يُقَالُ: زَيْدٌ شِرِّيبٌ الْمَاءَ، كَمَا تَقُولُ: ضَرَّابٌ زَيْدًا، وَالْمَعْنَى: الْإِخْبَارُ عَنْهَا بِكَثْرَةِ الصِّدْقِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
ويحتمل أن يكون من التَّصْدِيقِ، وَبِهِ سُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ. وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَ أَنَّهُ مِنَ التَّصْدِيقِ. وَهَذَا الْقَوْلُ خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ هَذَا الْبِنَاءِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَمُّهُ صِدِّيقَةٌ أي وما أمه لا كَبَعْضِ النِّسَاءِ الْمُصَدِّقَاتِ لِلْأَنْبِيَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ بِهِمْ، فَمَا مَنْزِلَتُهُمَا إِلَّا مَنْزِلَةُ بَشَرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا نَبِيٌّ، وَالْآخَرُ صَحَابِيٌّ، فَمِنْ أَيْنَ اشْتَبَهَ عَلَيْكُمْ أَمْرُهُمَا حَتَّى وَصَفْتُمُوهُمَا بِمَا لَمْ يُوصَفْ بِهِ سَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ وَصَحَابَتِهِمْ؟ مَعَ أَنَّهُ لَا تَمَيُّزَ وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَهُمْ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ انْتَهَى. وَفِيهِ تَحْمِيلُ لَفْظِ الْقُرْآنِ مَا لَيْسَ فِيهِ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَمُّهُ صِدِّيقَةٌ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا الْإِخْبَارُ عَنْهَا بِصِفَةِ كَثْرَةِ الصِّدْقِ، وَجَعَلَهُ هُوَ مِنْ بَابِ الْحَصْرِ فَقَالَ: وَمَا أَمُّهُ إِلَّا كَبَعْضِ النِّسَاءِ الْمُصَدِّقَاتِ إِلَى آخِرِهِ، وَهَكَذَا عَادَتُهُ يُحَمِّلُ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ مَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ. قَالَ الْحَسَنُ: صَدَّقَتْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَتَاهَا كَمَا حَكَى تَعَالَى عَنْهَا: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ «٣». وَقِيلَ: صَدَّقَتْ بِآيَاتِ رَبِّهَا، وَبِمَا أَخْبَرَ بِهِ وَلَدُهَا. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِمُبَالَغَتِهَا فِي صِدْقِ حَالِهَا مَعَ اللَّهِ، وَصِدْقِهَا فِي بَرَاءَتِهَا مِمَّا رَمَتْهَا بِهِ اليهود. وقيل: وصفها
(٢) سورة المائدة: ٥/ ٧٣.
(٣) سورة الصافات: ٣٧/ ١٠٥.