والأصح أن الآية عامة في جميع المؤمنين لأن الَّذِينَ لجماعة، ومن عمومياتها ما يأتي:
قال جابر بن عبد الله: قال عبد الله بن سلام للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إن قومنا من قريظة والنضير قد هجرونا وأقسموا ألا يجالسونا، ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل، فنزلت هذه الآية
، فقال: رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين أولياء.
وأولياء الله: هم الموصوفون بالآية لا غيرهم: الذين يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويخشعون لله تعالى. والمراد: يأتون بصلاة الفرض في أوقاتها بجميع حقوقها، ويؤدون الزكاة المفروضة بطيب نفس.
٦- من فوض أمره إلى الله، وامتثل أمر رسوله، ووالى المسلمين، فهو من حزب الله، وحزب الله: جند الله وأنصاره والمنفذون أوامره، والمجتنبون نواهيه. وإذا توافرت هذه الصفات كانوا هم الغالبين: إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ
[الصافات ٧٧/ ١٧٣].
النهي عن موالاة الكفار وأسبابه
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٥٧ الى ٦٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١)
وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣)
الإعراب:
وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ: الْكُفَّارَ معطوف بالنصب على الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ. وقرئ بالجر عطفا على الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ.
أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ في موضع نصب بتنقمون.
وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ.. ما في الموضعين بمعنى «الذي» في موضع جر بالعطف على اسم الله تعالى. وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ عطف على بِاللَّهِ وتقديره: آمنا بالله وبأن أكثركم فاسقون.
مَثُوبَةً تمييز منصوب، والعامل فيه بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ.
مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ: إما مجرور بدلا من بِشَرٍّ بدل الشيء من الشيء وإما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف مع حذف مضاف وتقديره: «هو لعن من لعنه الله» فحذف المبتدأ وإما منصوب على الذم بتقدير فعل وتقديره: أذكر أو أذمّ من لعنه الله. وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ معطوف على لَعَنَهُ وكذلك وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ولم يأت بضمير جمع في عَبَدَ حملا على لفظ مِنْ.
مَكاناً منصوب على التمييز. وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ في موضع نصب على الحال.
وكذلك خَرَجُوا بِهِ أي: دخلوا كافرين وخرجوا كافرين. والباء باء الحال كقولهم: خرج زيد بسلاحه، أي متسلحا.
البلاغة:
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ للحث والإثارة.
هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ هذا من قبيل تأكيد المدح بما يشبه الذم وبالعكس فقد جعلوا التمسك بالإيمان موجبا للإنكار.
لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ من باب التهكم، حيث استعملت المثوبة في العقوبة.
شَرٌّ مَكاناً نسب الشر للمكان وهو لأهله مبالغة في الذم.
المفردات اللغوية:
هُزُواً مهزوءا به وسخرية. وَلَعِباً مِنَ لبيان الجنس، واللعب: ضد الجد.
وَالْكُفَّارَ المشركين. وَاتَّقُوا اللَّهَ بترك موالاتهم. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ صادقين في إيمانكم.
وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ أي والذين إذا دعوتم إلى الصلاة بالأذان والإقامة. اتَّخَذُوها الصلاة. هُزُواً وَلَعِباً بأن يستهزءوا بها ويتضاحكوا. ذلِكَ الاتخاذ. بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم.
هَلْ تَنْقِمُونَ تنكرون وتعيبون بالقول أو بالفعل. المعنى ما تنكرون إلا إيماننا ومخالفتكم في عدم قبوله، المعبر عنه بالفسق اللازم عنه، وليس هذا مما ينكر عقلا وعرفا.
مَثُوبَةً ثوابا وجزاء، من ثاب إليه إذا رجع، والجزاء يرجع إلى صاحبه.
الطَّاغُوتَ: كل ما عبد من دون الله، كالشيطان والأصنام، وعبادة الطاغوت مجاز عن طاعته. وروعي في قوله مِنْهُمُ معنى «من» وفيما قبله لفظها وهم اليهود. أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً لأن مأواهم النار. وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ طريق الحق، وأصل السواء: الوسط.
وذكر بِشَرٍّ... وأَضَلُّ في مقابلة قول اليهود الذين قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم لما ذكر عيسى: لا نعلم شرا من دينكم. وقوله: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ عطف على آمَنَّا.
وَإِذا جاؤُكُمْ منافقو اليهود. وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ أي دخلوا إليكم متلبسين بالكفر.
وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا من عندكم متلبسين به، ولم يؤمنوا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ أي يكتمونه من النفاق.
وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ أي اليهود. يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ يقعون في الكذب.
وَالْعُدْوانِ الظلم. وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ المال الحرام الدنيء كالرشوة في القضاء والربا وغير ذلك.
عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ الكذب.
لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ أي يصنعونه من ترك النهي عن ذلك كله.
سبب النزول: نزول الآية (٥٧) :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: روى أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري الأصفهاني (٢٧٤ هـ) عن ابن عباس قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ونافقا، وكان رجل من المسلمين يوادهما، فأنزل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ إلى قوله: بِما كانُوا يَكْتُمُونَ.
وبه قال:
أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم نفر من يهود فيهم أبو ياسر بن أخطب، ونافع بن أبي نافع، وغازي بن عمرو، فسألوه: فمن نؤمن به من الرسل؟ قال: أؤمن بالله: وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ، وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى، وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته، وقالوا: لا نؤمن بعيسى، ولا بمن آمن به، فأنزل الله فيهم: قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ، هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ، وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ، وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ الآية.
وفي رواية: فلما ذكر عيسى، قالوا: لا نعلم دينا شرا من دينكم.
وفي رواية عن ابن عباس: أن قوما من اليهود والمشركين ضحكوا من المسلمين وقت سجودهم، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا.
المناسبة:
نهى الله تعالى في الآيات السابقة عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء (حلفاء وأنصارا) من دونه لأن بعضهم أولياء بعض، ثم كرر النهي هنا للتأكيد عن اتخاذ الكفار عامة أولياء، لإيذائهم المؤمنين ومقاومتهم دينهم.
التفسير والبيان:
موضوع هذه الآيات التنفير من موالاة أعداء الإسلام وأهله من أهل الكتاب والمشركين الذين يهزؤون بشرائع الإسلام المطهرة، ويتخذونها نوعا من اللعب.
يا أيها المؤمنون لا تتخذوا الكفار من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين الذين يهزؤون بدينكم، ويتخذون شعائره وشرائعه لونا من اللعب، لا تتخذوهم أولياء أي حلفاء وأنصارا، فإن الهازئ بالشيء معاند له وساخر به وغير مؤمن به وعدوّ له ولأهله، وإن تظاهروا بالمودة، كما قال تعالى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا: آمَنَّا، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ، إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ
[البقرة ٢/ ١٤].
واتقوا الله وخافوا عذابه ووعيده أيها المؤمنون إن كنتم صادقي الإيمان تحترمون أحكامه وتلتزمون حدوده، أو كنتم مؤمنين بشرع الله الذي اتخذه هؤلاء هزوا ولعبا.
وكذلك إذا ناديتم إلى الصلاة بالأذان، اتخذوها أيضا هزوا ولعبا لأنهم لا يعقلون معاني عبادة الله وشرائعه، وهذه صفات أتباع الشيطان الذي إذا سمع الأذان أدبر حتى لا يسمع التأذين.
ثم ناقشهم الحق تعالى فقال: قل يا محمد لهؤلاء أهل الكتاب الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا: هل تنكرون أو تعيبون علينا إلا إيماننا الثابت الراسخ بالله ورسله، وإيماننا بما أنزل إلينا وبما أنزل من الكتب قبل على الرسل، وما هذا بعيب ولا مذمة؟ فيكون الاستثناء منقطعا، كما في قوله تعالى: وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج ٨٥/ ٨] وقوله: وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ [التوبة ٩/ ٧٤].
ولأن أكثركم فاسقون، أي متمردون خارجون عن حقيقة الدين، وليس لكم من الدين إلا التعصب والمظاهر والتقاليد الجوفاء.
وقوله: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ معطوف على آمَنَّا بمعنى: وما تنقمون منا إلا الجمع بين إيماننا وبين الحكم عليكم بتمردكم وخروجكم عن الإيمان، كأنه قيل: وما تنكرون منا إلا مخالفتكم، حيث دخلنا في دين الإسلام، وأنتم خارجون منه.
ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف، أي واعتقاد أنكم فاسقون.
ويمكن عطفه على المجرور، أي ما تنقمون منا إلا الإيمان بالله وبما أنزل إلينا وبأن أكثركم فاسقون.
وعبر بالأكثر لأن بعض أهل الكتاب ما يزالون متمسكين بأصول الدين من توحيد الإله وعبادته، والتزام الحق والعدل، وحب الخير.
ثم أجابهم تعالى عن استهزائهم بقوله: قل لهم يا محمد، هل أنبئكم أي أخبركم أيها المستهزئون بديننا الذين تقولون: «لا نعلم شرا من دينكم» وأعلمكم بما هو شر من أهل ذلك، أو من دين من لعنه الله، بتقدير مضاف محذوف قبل كلمة ذلِكَ. واستدعى ذلك سؤالا آخر منهم عن الذي هو شر: ما هو؟
فأجاب تعالى: والذي هو شر من ذلك: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أي هل أخبركم بشر مما تقولون وتظنونه بنا هو جزاء من لعنه الله. كقوله تعالى: قُلْ: أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ: النَّارُ [الحج ٢٢/ ٧٧٢]. وفي هذا انتقال من تبكيت لهم بإقامة الحجة على هزئهم ولعبهم إلى ما هو أشد منه تبكيتا وتشنيعا عليهم، وهو التذكير بسوء حال أسلافهم مع أنبيائهم، وما كان من جزاء الله لهم على فسقهم.
ومن لعنه الله، أي أبعده وطرده من رحمته، واللعنة تلزم الغضب الإلهي، وهو يستلزم اللعنة إذ هي منتهى المؤاخذة لمن غضب الله عليه.
وغضب عليه، أي غضبا لا يرضى عنه أبدا.
وجعل منهم القردة والخنازير غضبا منه عليهم وسخطا، فعجل لهم الخزي والنكال في الدنيا، وذلك مثل قوله تعالى المتقدم: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ، فَقُلْنا لَهُمْ: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [البقرة ٢/ ٦٥] وقوله فيما يأتي: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [الأعراف ٧/ ١٦٦] والجمهور على أنهم مسخوا حقيقة، فكانوا قردة وخنازير وانقرضوا، والقردة:
أصحاب السبت، والخنازير: كفار مائدة عيسى، وروي أيضا أن المسخين كانا في أصحاب السبت لأن شبابهم مسخوا قردة، ومشايخهم مسخوا خنازير.
والدليل على انقراضهم
ما رواه مسلم وغيره عن ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن القردة والخنازير، أهي مما مسخ الله؟ فقال: «إن الله لم يهلك قوما- أو قال: لم يمسخ قوما- فيجعل لهم نسلا ولا عقبا، وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك».
ونقل الطبري عن مجاهد وغيره في قوله: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ أي أذلة صاغرين «١».
وعبد الطاغوت، أي جعل منهم من صير الطاغوت معبودا من دون الله، والطاغوت: كل ما عبد من دون الله، كالأصنام والشيطان والعجل، فكانت عبادتهم للعجل مما زينه لهم الشيطان، فصارت عبادتهم له عبادة للشيطان.
أولئك المتصفون بما ذكر من المخازي والمعايب شر مكانا مما تظنون بنا إذ لا مكان لهم في الآخرة إلا النار، وهم أضل عن قصد الطريق الوسط المعتدل وهو
الحق الذي لا يعلوه شيء. والتعبير بكلمتي بِشَرٍّ... وأَضَلُّ ليس للمفاضلة لأن هذا الدين خير محض وإنما هذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر، من قبيل المشاكلة للفظهم والمجاراة لهم في اعتقادهم، كقوله عز وجل: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان ٢٥/ ٢٤].
ثم بيّن الله تعالى حال المنافقين، فقال: وَإِذا جاؤُكُمْ.. أي إذا جاء منافقو اليهود قالوا: آمنا بالرسول وبما أنزل عليه، والحال أنهم مستصحبون للكفر مقيمون عليه في قلوبهم، فإذا دخلوا عندك يا محمد أو عليكم أو خرجوا من عندكم فحالهم سواء، لم يتحولوا عن كفرهم، وهذه صفة معروفة للمنافقين منهم: أنهم يصانعون المؤمنين في الظاهر، وقلوبهم منطوية على الكفر، ودأبهم الخداع والمكر، كما قال تعالى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا: آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ؟ [البقرة ٢/ ٧٦].
وهم جميعا أغبياء لأن الله أعلم بما كانوا يكتمون، أي عالم بسرائرهم وما تنطوي عليه ضمائرهم، وإن تظاهروا للناس بخلاف الحقيقة، فإن الله عالم الغيب والشهادة أعلم بهم منهم، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء، ولم يختلف وضعهم من الكيد والمكر والخبث والكذب والخيانة حين دخولهم على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى المؤمنين وحين خروجهم: وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ، سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ [المائدة ٥/ ٤١].
فهم بهذا شذاذ لأن من كان يجالس الرسول صلّى الله عليه وسلّم بوعي وأدب، سرعان ما يقذف الله في قلبه نور الإيمان، ولربما كان يقصد قتله إذا رآه وسمع كلامه.
ثم أضاف القرآن من أوصافهم شرا مما ذكر، فقال تعالى: وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ... أي وترى أيها النبي كثيرا من هؤلاء اليهود المستهزئين بدينك يبادرون إلى ارتكاب الإثم والظلم والمعاصي والاعتداء على الناس وأكلهم أموالهم بالباطل،
لبئس العمل كان عملهم، وبئس الاعتداء اعتداؤهم، فما أقبح أعمالهم وأسوأ أفعالهم! ثم حض الله تعالى علماءهم على النهي عن قول الإثم وأكل السحت فقال:
يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ.. قال البيضاوي: هذا للحض، فإنإذا دخل على الماضي أفاد التوبيخ، وإذا دخل على المستقبل أفاد التحضيض، أي هلا كان ينهاهم الربانيون (وهم العلماء العمال أرباب الولايات عليهم) والأحبار (هم العلماء فقط) «١» عن تعاطي ذلك؟ لبئس ما كانوا يصنعون من تركهم ذلك ورضاهم بالمنكر، كأنهم جعلوا أكثر إثما من مرتكبي المنكرات لأن كل عامل لا يسمى صانعا، ولا كل عمل يسمى صناعة حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه، كما قال الزمخشري «٢». وقال القرطبي: والصنع بمعنى العمل إلا أنه يقتضي الجودة «٣».
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: هي أشد آية في القرآن، أي ليس في القرآن ما هو أشد توبيخا للعلماء من هذه الآية. وقال الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها، أي أنها حجة على العلماء إذا قصروا في الهداية والإرشاد، وتركوا النهي عن الشرور والآثام التي تفسد نظام الحياة للفرد والمجتمع.
فقه الحياة أو الأحكام:
الآية تأكيد صريح لما سبق من قطع الموالاة مع الكفار عامة لأنهم يستهزءون بشرائع الإسلام وأحكامه، وبخاصة وقت النداء أي الأذان للصلاة.
قال الكلبي: كان إذا أذن المؤذن، وقام المسلمون إلى الصلاة، قالت اليهود:
(٢) الكشاف: ١/ ٤٧١
(٣) تفسير القرطبي: ٦/ ٢٣٧
قد قاموا لا قاموا، وكانوا يضحكون إذا ركع المسلمون وسجدوا، وقالوا في حق الأذان: لقد ابتدعت شيئا لم نسمع به فيما مضى من الأمم، فمن أين لك صياح مثل صياح العير؟ فما أقبحه من صوت، وما أسمجه من أمر.
وعن مشروعية الأذان قال العلماء: ولم يكن الأذان بمكة قبل الهجرة، وإنما كانوا ينادون: «الصلاة جامعة» فلما هاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم وصرفت القبلة إلى الكعبة أمر بالأذان، وبقي «الصلاة جامعة» للأمر يعرض كصلاة الجنازة وصلاة العيد وصلاة الكسوفين. وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أهمه أمر الأذان حتى أريه عبد الله بن زيد، وعمر بن الخطاب، وأبو بكر الصديق رضي الله عنهم.
وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم سمع الأذان ليلة الإسراء في السماء.
ثم أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بلالا فأذّن بالصلاة أذان الناس اليوم. وزاد بلال في الصبح: «الصلاة خير من النوم» فأقرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
والأذان من شعائر الإسلام، وهو العلامة الدالة المفرقة بين دار الإسلام ودار الكفر،
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا بعث سرية قال لهم: «إذا سمعتم الأذان فأمسكوا وكفّوا، وإن لم تسمعوا الأذان فأغيروا- أو قال: فشنوا الغارة».
لذا قال عطاء ومجاهد والأوزاعي وداود: الأذان فرض، ولم يقولوا على الكفاية. وقال مالك: إنما يجب الأذان في المساجد للجماعات حيث يجتمع الناس، ثم اختلف أصحابه على قولين: أحدهما- سنة مؤكدة واجبة على الكفاية في المصر ونحوه من القرى. والثاني- هو فرض على الكفاية. وحكى الطبري عن مالك قال: إن ترك أهل مصر الأذان عامدين، أعادوا الصلاة.
واتفق الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور والطبري على أن المسافر إذا ترك الأذان عامدا أو ناسيا أجزأته صلاته، وكذلك لو ترك الإقامة عندهم، وهم أشد كراهة لتركه الإقامة، أي فهما سنة مؤكدة.
واتفق مالك والشافعي وأصحابهما على أن الأذان مثنى مثنى، والإقامة مرة مرة، إلا أن الشافعي يربع التكبير الأول، عملا بحديث أبي محذورة.
وكذلك اتفق مالك والشافعي على الترجيع في الأذان، وذلك رجوع المؤذن إذا قال: «أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، أشهد أن محمدا رسول الله مرتين» رجّع فمدّ من صوته جهده.
وقال الحنفية: الأذان والإقامة جميعا مثنى مثنى، والتكبير عندهم في أول الأذان وأول الإقامة: «الله أكبر» أربع مرات، ولا ترجيع عندهم في الأذان، عملا بما رآه في المنام عبد الله بن زيد وفي حديثه: «فأذن مثنى وأقام مثنى».
ورأى الإمام أحمد أنه يجوز تربيع التكبير أو تثنيته في أول الأذان، ويجوز الترجيع وعدمه، ويجوز تثنية الإقامة وإفرادها، إلا قوله: «قد قامت الصلاة» فإن ذلك مرتان على كل حال، كل ذلك جائز لأنه قد ثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جميع ذلك، وعمل به أصحابه.
واختلفوا في التثويب لصلاة الصبح: وهو قول المؤذن: الصلاة خير من النوم، فقال المالكية والشافعية: يسن ذلك مرتين في أذان صلاة الفجر، لحديث أبي محذورة فيما رواه الخمسة (أحمد وأهل السنن)، ولا يسن ذلك عند الحنفية والحنابلة.
وأجمع أهل العلم على أن من السنة ألا يؤذن للصلاة إلا بعد دخول وقتها إلا الفجر، فإنه يؤذن لها قبل طلوع الفجر في قول مالك والشافعي وأحمد،
لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الشيخان عن ابن عمر وعائشة: «إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم»
وقال الحنفية: لا يؤذن لصلاة الصبح حتى يدخل وقتها،
لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم لمالك بن الحويرث وصاحبه فيما
أخرجه الجماعة السبعة عن مالك: «إذا حضرت الصلاة فأذّنا، ثم أقيما، وليؤمكما أكبركما»
وقياسا على سائر الصلوات.
وأجاز مالك وأبو حنيفة وأصحابهما أن يؤذن المؤذن ويقيم غيره لأن بلالا أذن وأقام عبد الله بن زيد.
وقال الشافعي: من أذن فهو يقيم، لحديث زياد بن الحارث الصّدائي:
«إن أخا صداء أذّن ومن أذّن فهو يقيم».
ويترسّل المؤذن في أذانه، ولا يطرّب به كما يفعله كثير من الجهال.
ويستحب لسامع الأذان أن يحكيه إلى آخر التشهدين، وإن أتمه جاز، وهذا مذهب المالكية
لحديث الجماعة عن أبي سعيد الخدري: «إذا سمعتم النداء، فقولوا مثل ما يقول المؤذن».
ويستحب عند الجمهور أن يقول السامع مثلما يقول المؤذن إلا في الحيعلتين فيقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله» لحديث عمر في صحيح مسلم.
ودل قوله تعالى: قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا على توبيخ أهل الكتاب على تعيير المسلمين بشيء لا محل لإنكاره أو ذمه أو تعييبه.
وأرشد قوله تعالى: يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ.. إلى النعي على العلماء توانيهم في القيام بواجبهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد وبخ الله علماء اليهود في تركهم النهي عن المنكر. ودلت الآية أيضا على أن تارك النهي عن المنكر كمرتكب المنكر، فالآية توبيخ للعلماء في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وجاء في صحيح الترمذي: «إن الناس إذا رأوا الظالم، ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده».