آيات من القرآن الكريم

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
ﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ

وَقَوْلُهُ: وَهُمْ راكِعُونَ مَعْطُوف على الصّفة. وَظَاهِرُ مَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهَا عَيْنُ مَعْنَى قَوْلِهِ: يُقِيمُونَ الصَّلاةَ، إِذِ الْمُرَادُ بِ راكِعُونَ مُصَلُّونَ لَا آتُونَ بِالْجُزْءِ مِنَ الصَّلَاةِ الْمُسَمَّى بِالرُّكُوعِ. فَوُجِّهَ هَذَا الْعَطْفُ: إِمَّا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّكُوعِ رُكُوعُ النَّوَافِلِ، أَيِ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ الْمَفْرُوضَةَ وَيَتَقَرَّبُونَ بِالنَّوَافِلِ وَإِمَّا الْمُرَادُ بِهِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ مِنَ الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ، أَيِ الَّذِينَ يُدِيمُونَ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ. وَعَقَّبَهُ بِأَنَّهُمْ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ مُبَادَرَةً بِالتَّنْوِيهِ بِالزَّكَاةِ، كَمَا هُوَ دَأْبُ الْقُرْآنِ. وَهُوَ الَّذِي اسْتَنْبَطَهُ أَبُو بَكْرٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- إِذْ قَالَ: «لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ». ثُمَّ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَتَخَلَّفُونَ عَنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ فَالْوَاوُ عَاطِفَةُ صِفَةٍ عَلَى صِفَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ الْجُمْلَةُ حَالًا. وَيُرَادُ بِالرُّكُوعِ الْخُشُوعُ.
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ وَهُمْ راكِعُونَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ. وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنًى، إِذْ تُؤْتَى الزَّكَاةُ فِي حَالَةِ الرُّكُوعِ، وَرَكَّبُوا هَذَا الْمَعْنَى عَلَى خَبَرٍ تَعَدَّدَتْ رِوَايَاتُهُ وَكُلُّهَا ضَعِيفَةٌ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَلَيْسَ يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ لِضَعْفِ أَسَانِيدِهَا وَجَهَالَةِ رِجَالِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي هَذَا الْقَوْلِ، أَيِ الرِّوَايَةِ، نَظَرٌ، قَالَ:
رَوَى الْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ: جَاءَ ابْنُ سَلَامٍ (أَيْ عَبْدُ اللَّهِ) وَنَفَرٌ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ آمَنُوا (أَيْ مِنَ الْيَهُودِ) فشكوا
للرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعْدَ مَنَازِلِهِمْ وَمُنَابَذَةَ الْيَهُودِ لَهُمْ فَنَزَلَتْ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ثُمَّ إِنَّ الرَّسُولَ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَبَصُرَ بِسَائِلٍ، فَقَالَ لَهُ: هَلْ أَعْطَاكَ أَحَدٌ شَيْئًا، فَقَالَ: نَعَمْ خَاتَمُ فِضَّةٍ أَعْطَانِيهِ ذَلِكَ الْقَائِمُ يُصَلِّي، وَأَشَارَ إِلَى عَلِيٍّ، فكبّر النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَتَلَاهَا رَسُولُ اللَّهِ
. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ بِذِكْرِ عِلَّةِ الْجَوَابِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَهُمُ الْغَالِبُونَ لِأَنَّهُمْ حزب الله.
[٥٧، ٥٨]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : الْآيَات ٥٧ إِلَى ٥٨]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ

صفحة رقم 240

(٥٨)
اسْتِئْنَافٌ هُوَ تَأْكِيدٌ لِبَعْضِ مَضْمُونِ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ [الْمَائِدَة: ٥١] تَحْذِيرٌ مِنْ مُوَالَاةِ أَهْلِ الْكِتَابِ لِيَظْهَرَ تَمَيُّزُ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَحْذِيرٌ مِنْ مُوَالَاةِ الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ بِالْمَدِينَةِ، وَلَا مَدْخَلَ لِلنَّصَارَى فِيهَا، إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَدِينَة نَصَارَى فيهزأوا بِالدِّينِ. وَقَدْ عَدَلَ عَنْ لَفْظِ الْيَهُودِ إِلَى الْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ وَهِيَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً إِلَخْ لِمَا فِي الصِّلَة من الْإِيمَان إِلَى تَعْلِيلِ مُوجِبِ النَّهْيِ.
وَالدِّينُ هُوَ مَا عَلَيْهِ الْمَرْءُ مِنْ عَقَائِدَ وَأَعْمَالٍ نَاشِئَةٍ عَنِ الْعَقِيدَةِ، فَهُوَ عُنْوَانُ عقل المتديّن وروائد آمَالِهِ وَبَاعِثُ أَعْمَالِهِ، فَالَّذِي يَتَّخِذُ دِينَ امْرِئٍ هُزُؤًا فَقَدِ اتَّخَذَ ذَلِكَ الْمُتَدَيِّنَ هُزُؤًا وَرَمَقَهُ بِعَيْنِ الِاحْتِقَارِ، إِذْ عَدَّ أَعْظَمَ شَيْءٍ عِنْدَهُ سُخْرِيَةً، فَمَا دُونُ ذَلِكَ أَوْلَى. وَالَّذِي يَرْمُقُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَيْسَ جَدِيرًا بِالْمُوَالَاةِ، لِأَنَّ شَرْطَ الْمُوَالَاةِ التَّمَاثُلُ فِي التَّفْكِيرِ، وَلِأَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ وَالِاسْتِخْفَافَ احْتِقَارٌ، وَالْمَوَدَّةُ تستدعي تَعْظِيم الْوَدُود.
وَأُرِيدَ بِالْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِ: وَالْكُفَّارَ الْمُشْرِكُونَ، وَهَذَا اصْطِلَاحُ الْقُرْآنِ فِي إِطْلَاقِ لَفْظِ الْكُفَّارِ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ نِفَاقًا مِثْلَ رِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَسُوَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ، فَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يُوَادُّهُمَا اغْتِرَارًا بِظَاهِرِ حَالِهِمَا. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ قَوْمًا مِنَ الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ ضَحِكُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقْتَ سُجُودِهِمْ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانُوا إِذَا نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ قَالُوا: صِيَاحٌ مِثْلُ صِيَاحِ الْعِيرِ،
وَتَضَاحَكُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.

صفحة رقم 241
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية