آيات من القرآن الكريم

إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ۚ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ
ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ

الجزء الثاني عشر
[تتمة سورة المائدة]

بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم

[سورة المائدة (٥) : آية ٤٤]
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ.
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا تَنْبِيهٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى لِلْيَهُودِ الْمُنْكِرِينَ لِوُجُوبِ الرَّجْمِ، وَتَرْغِيبٌ لَهُمْ فِي أَنْ يَكُونُوا كَمُتَقَدِّمِيهِمْ مِنْ مُسْلِمِي أَحْبَارِهِمْ وَالْأَنْبِيَاءِ الْمَبْعُوثِينَ إِلَيْهِمْ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ حُصُولُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْهُدَى وَالنُّورِ، فَالْهُدَى مَحْمُولٌ عَلَى بَيَانِ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ وَالتَّكَالِيفِ، وَالنُّورُ بَيَانٌ لِلتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ.
قَالَ الزَّجَّاجُ فِيها هُدىً أَيْ بَيَانُ الْحُكْمِ الَّذِي جَاءُوا يَسْتَفْتُونَ فِيهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُورٌ بَيَانُ أَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احتج القائلون بأن شرع من قبلنا لا زم عَلَيْنَا إِلَّا إِذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى صَيْرُورَتِهِ مَنْسُوخًا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ فِي التَّوْرَاةِ هَدًى وَنُورًا. وَالْمُرَادُ كَوْنُهُ هُدًى وَنُورًا فِي أُصُولِ الشَّرْعِ وَفُرُوعِهِ، وَلَوْ كَانَ مَنْسُوخًا غَيْرَ مُعْتَبَرِ الْحُكْمِ بِالْكُلِّيَّةِ لَمَا كَانَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ الْهُدَى وَالنُّورُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِأُصُولِ الدِّينِ فَقَطْ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْهُدَى وَالنُّورَ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُمَا مَعًا هُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِأُصُولِ الدِّينِ لَزِمَ التَّكْرَارُ، وَأَيْضًا إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي مَسْأَلَةِ الرَّجْمِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ دَاخِلَةً فِي الْآيَةِ، لِأَنَّا وَإِنِ اخْتَلَفْنَا فِي أَنَّ غَيْرَ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ هَلْ يَدْخُلُ فِيهَا أَمْ لَا، لَكِنَّا تَوَافَقْنَا عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِيهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا يُرِيدُ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ كَانُوا بَعْدَ مُوسَى، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى بَعَثَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أُلُوفًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَيْسَ مَعَهُمْ كِتَابٌ، إِنَّمَا بَعَثَهُمْ بِإِقَامَةِ التَّوْرَاةِ حَتَّى يَحُدُّوا حُدُودَهَا وَيَقُومُوا بِفَرَائِضِهَا وَيُحِلُّوا حَلَالَهَا وَيُحَرِّمُوا حَرَامَهَا.
فَإِنْ قِيلَ: كُلُّ نَبِيٍّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا.
قُلْنَا فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ أَسْلَمُوا أَيِ انْقَادُوا لِحُكْمِ التَّوْرَاةِ، فَإِنَّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ لَمْ تَكُنْ شَرِيعَتُهُ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ، وَالَّذِينَ كَانُوا مُنْقَادِينَ لِحُكْمِ التَّوْرَاةِ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ مَبْعَثِ مُوسَى إِلَى مَبْعَثِ عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بالنبيين الذين

صفحة رقم 365

أَسْلَمُوا هُوَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ عَلَى الْيَهُودِيَّيْنِ بِالرَّجْمِ، وَكَانَ هَذَا حُكْمَ التَّوْرَاةِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ تَعْظِيمًا لَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النَّحْلِ: ١٢٠] وَقَوْلِهِ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ [النِّسَاءِ: ٥٤] وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ قَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ مَا كَانَ حَاصِلًا لِأَكْثَرِ الْأَنْبِيَاءِ. الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: هَذَا رَدٌّ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِأَنَّ بَعْضَهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: الْأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ يَهُودٌ أَوْ نَصَارَى، فَقَالَ تَعَالَى: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا يَعْنِي الْأَنْبِيَاءَ مَا كَانُوا مَوْصُوفِينَ بِالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، بَلْ كَانُوا مُسْلِمِينَ للَّه مُنْقَادِينَ لِتَكَالِيفِهِ. الرَّابِعُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا يَعْنِي الَّذِينَ كَانَ مَقْصُودُهُمْ مِنَ الْحُكْمِ بِالتَّوْرَاةِ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ وَإِظْهَارَ أَحْكَامِ اللَّه تَعَالَى وَالِانْقِيَادَ لِتَكَالِيفِهِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى قُبْحِ طَرِيقَةِ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَإِنَّ غَرَضَهُمْ مِنَ ادِّعَاءِ الْحُكْمِ بِالتَّوْرَاةِ أَخْذُ الرَّشْوَةِ وَاسْتِتْبَاعُ الْعَوَامِّ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ لِلَّذِينَ هادُوا فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: الْمَعْنَى أَنَّ النَّبِيِّينَ إِنَّمَا يَحْكُمُونَ بِالتَّوْرَاةِ لِلَّذِينِ هَادُوا، أَيْ لِأَجْلِهِمْ وَفِيمَا بَيْنَهُمْ، وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ عَلَى مَعْنَى إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ لِلَّذِينِ هَادُوا يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَمَّا الرَّبَّانِيُّونَ فَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، وَأَمَّا الْأَحْبَارُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْفُقَهَاءُ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي وَاحِدِهِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّمَا هُوَ «حِبْرٌ» بِكَسْرِ الْحَاءِ، يُقَالُ ذَلِكَ لِلْعَالِمِ وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ لِمَكَانِ الْحِبْرِ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَكُونُ صَاحِبَ كُتُبٍ، وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَقُولُ: حَبْرٌ بِفَتْحِ الْحَاءِ. قَالَ اللَّيْثُ: هُوَ حِبْرٌ وَحَبْرٌ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِهَا. وقال الأصمعي: لا أدري أهو الحبر أو الْحَبْرُ، وَأَمَّا اشْتِقَاقُهُ فَقَالَ قَوْمٌ: أَصْلُهُ مِنَ التَّحْبِيرِ وَهُوَ التَّحْسِينُ،
وَفِي الْحَدِيثِ «يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنَ النَّارِ ذَهَبَ حَبْرُهُ وَسَبْرُهُ»
أَيْ جَمَالُهُ وَبَهَاؤُهُ، وَالْمُحَبِّرُ لِلشَّيْءِ الْمُزَيِّنُ، وَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ أَكْمَلَ أَقْسَامِ الْفَضِيلَةِ وَالْجَمَالِ وَالْمَنْقَبَةِ لَا جَرَمَ سُمِّيَ الْعَالِمُ بِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ:
اشْتِقَاقُهُ مِنَ/ الْحِبْرِ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَالْكِسَائِيِّ وَأَبِي عُبَيْدَةَ، واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ يَحْكُمُ بِالتَّوْرَاةِ النَّبِيُّونَ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ، وَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ الرَّبَّانِيِّينَ أَعْلَى حَالًا مِنَ الْأَحْبَارِ، فَثَبَتَ أَنْ يَكُونَ الرَّبَّانِيُّونَ كَالْمُجْتَهِدِينَ، وَالْأَحْبَارُ كَآحَادِ الْعُلَمَاءِ.
ثُمَّ قَالَ: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: حِفْظُ كِتَابِ اللَّه عَلَى وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُحْفَظَ فَلَا يُنْسَى. الثَّانِي: أَنْ يُحْفَظَ فَلَا يُضَيَّعُ، وَقَدْ أَخَذَ اللَّه عَلَى الْعُلَمَاءِ حِفْظَ كِتَابِهِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْفَظُوهُ فِي صُدُورِهِمْ وَيَدْرُسُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُضَيِّعُوا أَحْكَامَهُ وَلَا يُهْمِلُوا شَرَائِعَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ صِلَةَ الْأَحْبَارِ عَلَى مَعْنَى الْعُلَمَاءُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى يَحْكُمُونَ بِمَا اسْتُحْفِظُوا، وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ أَيْ هَؤُلَاءِ النَّبِيُّونَ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ كَانُوا شُهَدَاءَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا فِي التَّوْرَاةِ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَمِنْ عِنْدِ اللَّه، فَلَا جَرَمَ كَانُوا يُمْضُونَ أَحْكَامَ التَّوْرَاةِ وَيَحْفَظُونَهَا عَنِ التحريف والتغيير.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَرَّرَ أَنَّ النَّبِيِّينَ وَالرَّبَّانِيِّينَ وَالْأَحْبَارَ كَانُوا قَائِمِينَ بِإِمْضَاءِ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ مِنْ غَيْرِ مُبَالَاةٍ،

صفحة رقم 366

خَاطَبَ الْيَهُودَ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنَعَهُمْ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّغْيِيرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ إِقْدَامَ الْقَوْمِ عَلَى التَّحْرِيفِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِخَوْفٍ وَرَهْبَةٍ، أَوْ لِطَمَعٍ وَرَغْبَةٍ، وَلَمَّا كَانَ الْخَوْفُ أَقْوَى تَأْثِيرًا مِنَ الطَّمَعِ قَدَّمَ تَعَالَى ذِكْرَهُ فَقَالَ: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَالْمَعْنَى إِيَّاكُمْ وَأَنْ تُحَرِّفُوا كِتَابِي لِلْخَوْفِ مِنَ النَّاسِ وَالْمُلُوكِ وَالْأَشْرَافِ، فَتُسْقِطُوا عَنْهُمُ الْحُدُودَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِمْ وَتَسْتَخْرِجُوا الْحِيَلَ فِي سُقُوطِ تَكَالِيفِ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ، فَلَا تَكُونُوا خَائِفِينَ مِنَ النَّاسِ، بَلْ/ كُونُوا خَائِفِينَ مِنِّي وَمِنْ عِقَابِي.
وَلَمَّا ذَكَرَ أَمْرَ الرَّهْبَةِ أَتْبَعَهُ بِأَمْرِ الرَّغْبَةِ، فَقَالَ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا أَيْ كَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ تَغْيِيرِ أَحْكَامِي لِأَجْلِ الْخَوْفِ وَالرَّهْبَةِ، فَكَذَلِكَ أَنْهَاكُمْ عَنِ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ لِأَجْلِ الطَّمَعِ فِي الْمَالِ وَالْجَاهِ وَأَخْذِ الرَّشْوَةِ فَإِنَّ كُلَّ مَتَاعِ الدُّنْيَا قَلِيلٌ، وَالرَّشْوَةُ الَّتِي تَأْخُذُونَهَا مِنْهُمْ فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ، وَالرَّشْوَةُ لِكَوْنِهَا سُحْتًا تَكُونُ قَلِيلَةَ الْبَرَكَةِ وَالْبَقَاءِ وَالْمَنْفَعَةِ، فَكَذَلِكَ الْمَالُ الَّذِي تَكْتَسِبُونَهُ قَلِيلٌ مِنْ قَلِيلٍ، ثُمَّ أَنْتُمْ تُضَيِّعُونَ بِسَبَبِهِ الدِّينَ وَالثَّوَابَ الْمُؤَبَّدَ، وَالسَّعَادَاتِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا.
وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ إِقْدَامُهُمْ عَلَى التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ لِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ، لِلْخَوْفِ مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَلِأَخْذِ الرَّشْوَةِ مِنَ الْعَامَّةِ، وَلَمَّا مَنَعَهُمُ اللَّه مِنَ الْأَمْرَيْنِ ونبّه عَلَى مَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الدَّنَاءَةِ وَالسُّقُوطِ كَانَ ذَلِكَ بُرْهَانًا قَاطِعًا فِي الْمَنْعِ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ.
ثُمَّ إِنَّهُ أَتْبَعَ هَذَا الْبُرْهَانَ الْبَاهِرَ بِالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فَقَالَ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَهْدِيدُ الْيَهُودِ فِي إِقْدَامِهِمْ عَلَى تَحْرِيفِ حُكْمِ اللَّه تَعَالَى فِي حَدِّ الزَّانِي الْمُحْصَنِ، يَعْنِي أَنَّهُمْ لَمَّا أَنْكَرُوا حُكْمَ اللَّه الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فِي التَّوْرَاةِ وَقَالُوا: إِنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، فَهُمْ كَافِرُونَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَا يَسْتَحِقُّونَ اسْمَ الْإِيمَانِ لَا بِمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ وَلَا بِمُحَمَّدٍ وَالْقُرْآنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَتِ الْخَوَارِجُ: كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّه فَهُوَ كَافِرٌ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، أَمَّا الْخَوَارِجُ فَقَدِ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالُوا: إِنَّهَا نَصٌّ فِي أَنَّ كُلَّ مَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّه فَهُوَ كَافِرٌ، وَكُلُّ مَنْ أَذْنَبَ فَقَدْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّه، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا.
وَذَكَرَ الْمُتَكَلِّمُونَ وَالْمُفَسِّرُونَ أَجْوِبَةً عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ فَتَكُونُ مُخْتَصَّةً بِهِمْ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَاوَلَ دَفْعَ هَذَا السُّؤَالِ فَقَالَ:
الْمُرَادُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ كَلَامٌ أُدْخِلَ فِيهِ كَلِمَةُ (مَنْ) فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ، فَيَكُونَ لِلْعُمُومِ. وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ: الْمُرَادُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه مِنَ الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ فَهُوَ زِيَادَةٌ فِي النَّصِّ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. الثَّانِي:
قَالَ عَطَاءٌ: هُوَ كُفْرٌ دُونَ/ كُفْرٍ. وَقَالَ طَاوُسٌ: لَيْسَ بِكُفْرٍ يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ كَمَنْ يَكْفُرُ باللَّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَكَأَنَّهُمْ حَمَلُوا الْآيَةَ عَلَى كُفْرِ النِّعْمَةِ لَا عَلَى كُفْرِ الدِّينِ، وَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ لَفْظَ الْكُفْرِ إِذَا أُطْلِقَ انْصَرَفَ إِلَى الْكُفْرِ فِي الدِّينِ. وَالثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه فَقَدْ فَعَلَ فِعْلًا يُضَاهِي أَفْعَالَ الْكُفَّارِ، وَيُشْبِهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْكَافِرِينَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ. وَالرَّابِعُ: قَالَ

صفحة رقم 367
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية