
جزاء السّارق
السّرقة من الأموال الخاصة أو من الأموال العامة كأموال الدولة أو القطاع العام أو الخاص من أعظم الجرائم في الإسلام، فهي حرام حرمة شديدة، ومنكر عظيم، وأكل لأموال الناس بالباطل، لا يحل في شرع ولا دين ولا قانون في الدنيا لأن إباحة السرقة تخل بأمن الناس في أموالهم وتهز مبدأ الثقة والطمأنينة، وتزعزع استقرار الاقتصاد والتجارة وغيرها من موارد الرزق. والغصب والخيانة والنهب ونحو ذلك كالسرقة أخذ ملك الآخرين بغير حق.
لذا كانت جريمة السرقة مستوجبة الحدّ وهو قطع اليد في شريعة القرآن، وهذه العقوبة، وإن كانت قاسية، فهي العقوبة الوحيدة الزاجرة للاعتداء على الأموال وأخذها بغير حق. قال الله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠)
[المائدة: ٥/ ٣٨- ٤٠].
نزلت هذه الآية في طعمة بن أبيرق حين سرق درع جار له، يدعى قتادة بن النعمان في جراب دقيق به خرق، وخبّأها عند زيد بن السمين اليهودي، فتناثر الدقيق من بيت قتادة إلى بيت زيد هذا، فلما تنبّه قتادة للسرقة، التمسها- أي الدرع- عند طعمة، فلم يجدها، وحلف ما أخذها، وماله بها علم، ثم تنبهوا إلى الدقيق المتناثر، فتبعوه حتى وصلوا إلى بيت زيد، فأخذوا الدرع منه، فقال: دفعها إلي طعمة، وشهد ناس من اليهود بذلك، وهمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يجادل عن طعمة لأن الدرع وجد عند غيره، فنزل قوله تعالى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
[النّساء: ٤/ ١٠٧] ثم نزلت آية السّرقة لبيان حكمها.

وروى أحمد وغيره عن عبد الله بن عمرو: أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقطعت يدها اليمنى، فقالت: هل لي من توبة يا رسول الله؟ فأنزل الله في سورة المائدة: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
والمعنى: فيما فرض عليكم أو يتلى عليكم حكم السارق والسارقة، فمن سرق من ذكر أو أنثى، فاقطعوا يا ولاة الأمور أيديهما أي من الرّسغ كما أوضحت السّنة النّبوية، جزاء لهما على سرقتهما وما كسبت أيديهما، ولانتهاك حرمة مال الآخرين، لأن السرقة قد تجرّ إلى الدفاع عن المال وإلى القتل، وتنكيلا وإهانة وتحقيرا لهما من الله لأن فعلهما خسيس ودنيء يستوجب الإذلال، والزجر عن العودة للسرقة، وإيقاع عبرة لغيرهما، والله قوي غالب في تنفيذ أوامره، حكيم في تدبيره وصنعه وتشريعه، لا يشرع إلا ما فيه الحكمة والمصلحة، واختيار الأنسب للجريمة.
أما من تاب من بعد ظلمه بالسرقة، وأناب إلى الله، ورجع عن السرقة، وردّ أموال الناس إليهم، وأصلح نفسه وزكّاها بعمل البر والتقوى، فإن الله يقبل توبته، فلا يعذّبه في الآخرة، وإن الله غفور لذنوب عباده التائبين، رحيم بهم إذا صلحوا.
ألم تعلم أيها الرسول وكل مؤمن أن الله هو المالك لجميع السماوات والأرض ومن فيهما، يتصرف في ذلك بالعدل والحكمة والعلم الواسع والفضل العظيم، ومن فضله ورحمته أنه يقبل التوبة عن عباده، ويرحم التائبين، ومن حكمته وعدله أنه وضع حدّا للسرقة لزجر اللصوص وردعهم، توفيرا للأمن والاستقرار، وتحقيقا لمصالح العباد، والله هو القادر على كل شيء من التعذيب والرحمة.
ومن خلال التجربة والتطبيق تبين أن الحدود الشرعية هي المحققة لمصلحة الناس العامة والخاصة، فلا مانع من الجريمة أحكم وأعدل وأصلح من حدود الله المقررة في القرآن المجيد.

لكن ينبغي أن نعلم أن حدّ السرقة لا يقام على السراق إلا بشروط كثيرة، فيشترط أن يكون السارق بالغا عاقلا، لا صبيّا ولا مجنونا، وألا يكون مأذونا له في الدخول إلى مكان الأموال، لا ضيفا أو خادما، ولا قريبا ذا رحم محرم من المسروق منه، ولا مالكا للمسروق، وأن يكون المسروق مقدّرا بنصاب شرعي وهو دينار ذهبي فأكثر في رأي الحنفية، أو ربع دينار في مذهب الجمهور، وأن يكون المسروق مالا متقوما، أي يباح الانتفاع به شرعا، لا كنحو خمر أو خنزير أو كلب أو ميتة أو دم مثلا.
وهناك شرط عام في الحدود كلها وهو ألا توجد شبهة فالحدود تدرأ بالشبهات، وباب الشبهة واسع يجعل إمكان تطبيق الحدّ نادرا، وينتقل حينئذ إلى عقوبة تعزيرية أخرى غير الحدّ، كالحبس والضرب والتوبيخ. ومن تاب من فعله وأصلح نفسه، سقطت عقوبته، والله يحبّ التائبين.
المسارعة في الكفر
أنزل الله تعالى الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل والقرآن متضمنة الشرائع الإلهية لتنظيم الحياة البشرية لأن الحياة التي لا يضبطها تشريع أو قانون هي حياة فوضوية تشبه حياة الغابة، لا سعادة ولا أمن ولا قرار فيها، القوي يأكل الضعيف، والكبير يستبدّ بالصغير، والمتنفّذ يظلم غيره ويجور في حكمه وتعامله معه بحسب أهوائه ونزواته ومطامعه وشهواته. لذا استنكر القرآن الكريم معاداة الشرائع والكتب الإلهية، ووصف المتجاوزين لأحكامها بأنهم يسارعون في الكفر ويبادرون إلى الضلال ويعملون بالأخلاق المرذولة، فقال الله تعالى مسرّيا ومقوّيا نفس نبيّه محمد صلّى الله عليه وسلّم بسبب ما كان يلقى من طوائف المنافقين وبني إسرائيل: