آيات من القرآن الكريم

أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬ ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ

وروى الترمذي وقال حديث حسن صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلّى الله عليه وسلّم قال له: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله»
وهذا الحديث بعد الآيات نص واضح يعيّن أو يوجب الاستعانة بالله تعالى وحده، دون سواه.
وأما الآيتان (٣٦- ٣٧) فذكرتا نوعين من الوعيد:
الأول- استحالة قبول الفداء من الكفار يوم القيامة، وثبوت استحقاقهم العذاب الأليم.
والثاني- تمنيهم الخروج من عذاب النار، وإلزامهم بالعذاب المقيم أي الدائم الثابت الذي لا يزول ولا يحول. فكلما رفعهم لهب النار إلى أعلى جهنم، ضربتهم الزبانية بالمقامع الحديد، فيردوهم إلى أسفلها.
واستدل بعضهم بهذه الآية على أنه تعالى يخرج من النار من قال: «لا إله إلا الله» على سبيل الإخلاص لأنه تعالى جعل الإقامة الدائمة في النار من تهديدات الكفار وأنواع ما خوفهم به من الوعيد الشديد، ولولا أن هذا المعنى مختص بالكفار، وإلا لم يكن لتخصيص الكفار به معنى «١».
حد السرقة
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠)

(١) تفسير الرازي: ١١/ ٢٢٢

صفحة رقم 177

الإعراب:
وَالسَّارِقُ مبتدأ، وفي خبره وجهان: أحدهما- أن يكون خبره مقدرا، وتقديره: فيما يتلى عليكم السارق والسارقة، هذا مذهب سيبويه. والثاني- مذهب الأخفش والمبرد والكوفيين: أن الخبر: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ودخلت الفاء في الخبر لأنه لم يرد سارقا بعينه، وإنما أراد: كل من سرق فاقطعوا: وهو يتضمن معنى الشرط والجزاء، فتدخل الفاء في خبر المبتدأ.
وإنما قال: أَيْدِيَهُما بالجمع لأنه يريد أيمانهما، وهي قراءة شاذة. وكل ما في البدن منه عضو واحد يثنى بلفظ الجمع، وليس للإنسان إلا يمين واحدة، فنزل منزلة ما ليس في البدن منه إلا عضو واحد، مثل قوله تعالى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التحريم ٦٦/ ٤]. ويجوز تثنيته بلفظ المثنى مثل: رأيت وجهيهما، ويجوز أيضا بلفظ المفرد مثل: رأيت وجههما.
جَزاءً بِما كَسَبا: جزاء: إما منصوب نصب المصادر والعامل فيه معنى الكلام المتقدم، فكأنه قال: جازوهما جزاء، وإما منصوب لأنه مفعول لأجله، والتقدير: فاقطعوا أيديهما لأجل الجزاء. نَكالًا بدل من قوله: جزاء.
المفردات اللغوية:
وَالسَّارِقُ من يأخذ المال خفية من حرز مثله فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما محل القطع من الرسغ، والذي يقطع به هو ربع دينار فصاعدا عند الجمهور غير الحنفية نَكالًا مِنَ اللَّهِ عقوبة لهما تمنع الناس من ارتكاب السرقة وَاللَّهُ عَزِيزٌ غالب على أمره حَكِيمٌ في خلقه.
فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ رجع عن السرقة وَأَصْلَحَ عمله فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي أن التوبة تسقط حق الله، ولا تسقط حق الآدمي العبد بالقطع ورد المال.
لكن بينت السنة أنه إن عفا عنه المسروق منه قبل الرفع إلى الإمام، سقط القطع، وهو مذهب الشافعي ومالك وأحمد وأبي يوسف، وكذا يسقط الحد بهبة المسروق إلى السارق بعد الرفع إلى الإمام في رأي أبي حنيفة ومحمد.
سبب النزول:
نزلت هذه الآية في طعمة بن أبيرق حين سرق درع جار له يدعى قتادة بن

صفحة رقم 178

النعمان في جراب دقيق به خرق، وخبأها عند زيد بن السمين اليهودي، فتناثر الدقيق من بيت قتادة إلى بيت زيد، فلما تنبه قتادة للسرقة، التمسها عند طعمة، فلم توجد، وحلف ما أخذها، وما له بها علم، ثم تنبهوا إلى الدقيق المتناثر، فتبعوه، حتى وصل إلى بيت زيد فأخذوها منه، فقال: دفعها إلي طعمة، وشهد ناس من اليهود بذلك، وهمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يجادل عن طعمة لأن الدرع وجد عند غيره، فنزل قوله تعالى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
الآية المتقدمة، ثم نزلت هذه الآية لبيان حكم السرقة «١».
وأخرج أحمد وغيره عن عبد الله بن عمرو أن امرأة سرقت على عهد رسول الله، فقطعت يدها اليمنى، فقالت: هل لي من توبة يا رسول الله؟
فأنزل الله في سورة المائدة: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ، فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «٢».
المناسبة:
هناك تناسب واضح بين حكم السرقة وحكم الحرابة، فالحرابة كما يقول الحنفية: سرقة كبري، والأخرى: سرقة صغرى، فبعد أن بيّن الله تعالى عقوبة المحاربين الذين يفسدون في الأرض، وأمر الناس بتقوى الله حتى يبتعدوا عن الحرام والمعاصي، ذكر عقوبة اللصوص الذين يأخذون المال خفية، ومن أنواع عقاب المحاربين في آية الحرابة: قطع الأيدي والأرجل من خلاف، وعقاب السرقة: قطع اليد.
التفسير والبيان:
يأمر تعالى ولاة الأمور ويحكم بقطع يد السارق والسارقة، فمن سرق من

(١) أسباب النزول للواحدي: ص ١١١
(٢) أسباب النزول للسيوطي.

صفحة رقم 179

رجل أو امرأة، تقطع يده من الرسغ، ويبدأ بقطع اليد اليمنى، فإن عاد قطعت رجله اليسرى من مفصل القدم، ثم اليد اليسرى، ثم الرجل اليمنى، ثم يعزر ويحبس
لما رواه الدارقطني من أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إذا سرق السارق فاقطعوا يده، ثم إذا عاد فاقطعوا رجله اليسرى»
وهذا رأي المالكية والشافعية. وقال الحنفية والحنابلة: لا يقطع أصلا بعد اليد اليمنى والرجل اليسرى.
وصرح القرآن بحكم السارقة لحدوث السرقة كثيرا من النساء كالرجال، مما يقتضي الزجر، وإن كان الغالب في تشريع الأحكام إدراج النساء في حكم الرجال.
والسرقة: أخذ المال خفية من حرز المثل، والحرز نوعان: حرز بنفسه:
وهو المكان كالدار والصندوق، وحرز بغيره وهو الحافظ: كالأماكن العامة المحروسة بحارس، والمتاع الذي يوجد صاحبه عنده. والحرز: هو ما نصب عادة لحفظ أموال الناس.
ولا تقطع يد السارق إلا إذا كان بالغا عاقلا، كما هو الشأن في المطالبة بجميع التكاليف الشرعية ومنها عقوبات الحدود، لا فرق فيها بين الجماعة والفرد، وألا تكون هناك شبهة كالسرقة من المحارم والضيف من المضيف،
لحديث رواه ابن عدي عن ابن عباس: «ادرؤوا الحدود بالشبهات»
وأن يؤخذ المال من الحرز إما بنفسه أو بالحافظ، لما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الثمر المعلّق فقال: «.. ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين، فبلغ ثمن المجن، فعليه القطع».
وأن يكون المسروق بالغا مقدار النصاب الشرعي.
وللفقهاء رأيان أو ثلاثة في تقدير نصاب السرقة، فقال الحسن البصري

صفحة رقم 180

وداود الظاهري: يجب القطع بسرقة القليل والكثير لظاهر الآية، وللحديث الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الجمل فتقطع يده».
وقال الجمهور: تقطع يد السارق في ربع دينار أو ثلاثة دراهم فصاعدا لما رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن (الجماعة) من
حديث عائشة رضي الله عنها: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا»
ولما
في الصحيحين عن ابن عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قطع في مجنّ- ترس- ثمنه ثلاثة دارهم»
وهذا قول الخلفاء الراشدين الأربعة.
ورأى الحنفية: أن نصاب السرقة دينار أو عشرة دراهم، فلا قطع فيما دون عشرة دراهم،
لما رواه أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا قطع فيما دون عشرة دراهم».
ولولا أن هذا الحديث ضعيف لأمكن ترجيح مذهب الحنفية من قبيل الاحتياط، ولأن الحدود تدرأ بالشبهات، ولأن ثمن المجنّ الذي قطع النبي صلّى الله عليه وسلّم بسرقته مختلف في تقديره، فقدر بثلاثة دراهم أو بأربعة أو بخمسة أو بعشرة دراهم، والأخذ بالأكثر في باب الحدود أولى، درءا للشبهة.
وتثبت السرقة إما بالإقرار أو بالبينة (شاهدين) ويسقط الحد بالعفو عن السارق أو التوبة قبل رفع الأمر إلى الإمام الحاكم، وبملك المسروق بالهبة وغيرها، ولو بعد رفع الأمر إلى الحاكم في مذهب أبي حنيفة ومحمد. وبشرط كون الملك قبل رفع الأمر إلى القضاء في مذهب الجمهور،
لما رواه أصحاب السنن من حديث ابن عباس: أن لصا سرق رداء صفوان بن أمية من تحت رأسه، حينما كان متوسدا عليه حين نام في المسجد، فاستيقظ صفوان واستاق اللص إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمر بقطع يده، فقال صفوان: إني لم أرد هذا، هو عليه صدقة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فهلا قبل أن تأتيني به».

صفحة رقم 181

ويجب رد المسروق بعينه إن كان قائما، وبقيمته إن كان مستهلكا عند الشافعية والحنفية
لما رواه أحمد وأصحاب السنن والحاكم عن سمرة: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه».
ولا يجب ردّ القيمة حال الاستهلاك عند الحنفية إذ لا يجتمع حد وضمان،
لما أخرجه النسائي عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يغرم السارق إذا أقيم عليه الحد»
لكنه حديث مرسل. وتوسط المالكية فقالوا: إن كان السارق موسرا عند الحد، وجب عليه القطع والغرم، تغليظا عليه، وإن كان معسرا لم يتبع بقيمته، ويجب القطع فقط، ويسقط الغرم، تخفيفا عنه، بسبب عذره بالفاقة والحاجة.
ثم علل سبحانه وتعالى حكم حد السرقة، فقال: جَزاءً بِما كَسَبا، نَكالًا مِنَ اللَّهِ أي أن قطع يد السارق والسارقة جزاء لهما بعملهما وكسبهما السيء، نكالا أي إهانة وتحقيرا ومنعا من العودة للسرقة، وعبرة لغيرهما. وهذه العقوبة وإن نفر منها بعض الناس، لكنها العقوبة المناسبة التي هي الأشد تأثيرا ومنعا للسرقة، وتوفيرا لأمن الناس على أموالهم وأنفسهم، ولا يدرك أحد ما للسرقة من مخاطر نفسية وعصبية، وما لها من أثر في إحداث القلق والرعب في النفوس، لا سيما في الليالي الظلماء، إلا من تعرض للسرقة، فهي فضلا عن كونها خسارة ماحقة، تجعل الشخص معدوما يائسا بائسا يحتاج إلى الاقتراض ليؤمن قوته وقوت أسرته، ويتمنى أن يعثر على السارق ليقضي عليه، هي مثيرة للقلق والهلع، فيصبح الحي الذي تعرض لسرقة فأكثر مهددا كله بالأخطار، فلا يكاد ينام إنسان وهو مطمئن، وإذا اقتحم اللص منزلا في الليل أو في النهار، أوقع السكان في الذعر، وربما حدث القتل وإطلاق النار، وفي ذلك ضرر وأذى لا يمكن حصر حدوده أو التنبؤ بنتائجه، فكم من إنسان شاب شعره، وكم من امرأة وطفل فقدا أعصابهما، وكم من مخاوف أقضت مضاجع الناس في بيوتهم، حتى إن القتل لا يكاد في رأيي يعادل السرقة أحيانا لأنه حادث فردي ينتهي أثره

صفحة رقم 182

فورا بالنسبة لغير أسرة القتيل، وهو ينحصر بما يكون من علاقة خاصة بين القاتل والمقتول، أما السرقة فإن تأثيرها جماعي ودائم، تبعد بنحو دائم أصحاب الأموال والمتاجر والمزارع والمصانع من الطمأنينة والثقة، وتهدد ثرواتهم بالضياع والخسارة.
ثم أكد الله تعالى ضرورة حد السارق فقال: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أي غالب في تنفيذ أوامره، يمضيها كيف يشاء، قوي في انتقامه من السّراق، حكيم في صنعه وتشريعه، لا يشرع إلا ما فيه المصلحة والحكمة، ويضع الحدود والعقوبات بما يراه الأنسب والأقطع لدابر الجريمة، واستئصال شأفة المجرمين، وزجر أمثالهم من التفكير في مثل جريمتهم، وكأنه يقول: لا تتساهلوا في شأن السراق واشتدوا في تطبيق حدهم، ففي ذلك الخير كله وعينه، وإن كره الحاقدون وانتقد الجاهلون.
ثم بيّن الله تعالى حكم التائبين الذين ندموا على ما فعلوا وأصلحوا أحوالهم فقال: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ.. أي فمن تاب من بعد سرقته، وأناب إلى الله، ورجع عن السرقة، ورد أموال الناس أو بدلها إليهم، وأصلح نفسه وزكاها بأعمال التقوى والبر، وكانت توبته بنية صادقة مع العزم على ترك العود، فإن الله يقبل توبته، فلا يعذبه في الآخرة.
وأما القطع فلا تسقطه التوبة عند جمهور الفقهاء، وتسقطه في رأي الحنابلة، وهو الأولى لأن ذكر الغفور الرحيم يدل على سقوط العقوبة وهي القطع.
وأكد الله تعالى عدالة حد السرقة وأنه جاء على وفق الحكمة والعدل والرحمة فقال: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ.. أي ألم تعلم أيها الرسول وكل مبلّغ حكم الله أن الله هو المالك لجميع من في السموات والأرض، وهو المدبر له، والحاكم فيه الذي

صفحة رقم 183

لا معقب لحكمه، وهو الفعال لما يريد، ولا يفعل إلا ما فيه الحكمة والعدل والرحمة، حتى يتوافر الأمن للفرد والجماعة، وتطمئن النفوس على أموالها، لتنصرف إلى أعمالها وهي آمنة على البيت والأهل وأماكن العمل، ومن حكمته:
أنه وضع العقاب للمحاربين المفسدين في الأرض واللصوص المهددين حرمة المال وحرية الإنسان، وأنه يغفر للتائبين من الفريقين، إذا صدقوا في التوبة وأصلحوا أعمالهم لأن الهدف ليس هو العقاب لذاته، وإنما تحقيق الصلاح ونشر الأمن وإشاعة الطمأنينة، ومن حكمته وعدله أنه يعذب العصاة تربية وزجرا لهم ولأمثالهم وتأمينا لمصالح العباد، ومن رحمته: أنه يرحم التائبين ويسقط عنهم العقاب، وهو القادر على كل شيء من التعذيب والرحمة، والله أرحم بعباده من أنفسهم، وأشد من رحمة الأم بولدها، فهذا العقاب للحرابة والسرقة لمصلحتهم ومصلحة إخوانهم في المجتمع، فليس لأحد أن يتباكى على يد أثيم أو يشفق على يد عضو في المجتمع لأن هذا العضو فاسد ضار يهدم ويخرب وليس فيه أمل بخير إذا لم يصلح حاله.
فقه الحياة أو الأحكام:
العقاب دواء المنحرف الذي لا علاج له بغير التأديب، وليس من العدل ولا من الرحمة والحكمة والمصلحة أن تسود الجريمة في المجتمع، ويعيش الناس في فوضى واضطراب، وقلق واشمئزاز.
وتشريع الإله في كل الخير لمن أراد السعادة لنفسه ولأمته، وليس أدل على فشل التشريعات الجزائية الوضعية من أن الجريمة في بلادها تزداد وتكثر، ويتفنن المجرمون في أنواع الجريمة، لعدم توافر العقاب الزاجر الفعال الذي يستأصل الجريمة أو يقلل من وجودها.
والبلاد التي يطبق فيها التشريع الجنائي الإسلامي مثل واضح بارز في العالم

صفحة رقم 184

لانتشار الأمن والطمأنينة على الأنفس والأموال، ولا يظنن أحد أن هذه البلاد ملأى بالمشوهين ومقطوعي الأيدي والأرجل، وإنما تطبيق الحدود نادر تقريبا، لأنه لا يطبق حد إلا إذا توافرت شروط كثيرة، تتجاوز العشرة، مما أدى إلى تضييق الحد بسبب الشبهة وانتفاء شرط من الشروط أو الضوابط، ولا تقطع أكثر من يد أو يدين في بلاد سكانها نحو عشرة ملايين. ففي السرقة مثلا لا يجب القطع إلا بجمع أوصاف في السارق، وفي الشيء المسروق، وفي الموضع المسروق منه، وفي صفته.
أما ما يعتبر في السارق فخمسة أوصاف: وهي البلوغ والعقل، وأن يكون غير مالك للمسروق منه، وألا يكون له عليه ولاية، فلا قطع بين السيد والعبد بأخذ أحدهما مال الآخر.
والسرقة من السارق توجب القطع عند المالكية، كالسرقة من الغاصب لأنّ حرمة المالك باقية عليه لم تنقطع عنه. وقال الشافعي: لا يقطع لأنه سرق من غير مالك ومن غير حرز.
وأما ما يعتبر في الشيء المسروق فأربعة أوصاف: وهي النصاب كما تقدم بيانه، وأن يكون مما يتموّل ويتملك ويحل بيعه. أما ما لا يتمول ولا يحل بيعه كالخمر والخنزير فلا يقطع أحد بسرقته باتفاق حاشا الحر الصغير عند الإمام مالك وابن القاسم. وقيل: لا قطع بسرقته، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة لأنه ليس بمال. ورد المالكية: هو من أعظم المال ولم يقطع السارق في المال لعينه، وإنما قطع لتعلق النفوس به، وتعلقها بالحر أكثر من تعلقها بالعبد.
وإن كان مما يجوز تملكه ولا يجوز بيعه كالكلب المأذون في اتخاذه ولحوم الضحايا، فقال أشهب: يقطع سارق المأذون في اتخاذه، وكذا سارق لحم

صفحة رقم 185

الأضحية أو جلدها إذا كان قيمة ذلك ثلاثة دراهم، وقال ابن القاسم: لا يقطع سارق الكلب، وهو مذهب المالكية، فلا يقطع من سرق كلبا ولو معلّما أو للحراسة
لأنه نهى صلّى الله عليه وسلّم عن بيعه.
وأما آلات الملاهي فيقطع إن كان يبقى منها بعد إفساد صورتها وإذهاب منفعتها المقصودة ربع دينار فأكثر.
وكذلك الحكم في أواني الذهب والفضة التي لا يجوز استعمالها ويؤمر بكسرها، يقوم ما فيها من ذهب أو فضة دون صنعة، وكذلك الصليب من الذهب أو الفضة.
والوصف الثالث: ألا يكون للسارق فيه ملك، كمن سرق ما رهنه أو ما استأجره، ولا شبهة ملك كالذي يسرق من المغنم أو من بيت المال لأن للسارق فيه نصيبا، وتقطع يد السارق من بيت المال في رأي الإمام مالك لعموم لفظ السرقة.
والوصف الرابع: أن يكون مما تصح سرقته كالمال والعبد الصغير لأن ما لا تصح سرقته كالعبد الكبير فلا قطع فيه.
وأما ما يعتبر في المسروق منه: فوصف واحد وهو الحرز لمثل ذلك الشيء المسروق، وجملة القول فيه: أن كل شيء له مكان معروف، فمكانه حرزه، وكل شيء معه حافظ فحافظه حرزه، فالدور والمنازل حرز لما فيها، غاب عنها أهلها أو حضروا، وكذلك بيت المال حرز لجماعة المسلمين، والسارق لا يستحق فيه شيئا، في رأي المالكية.
ومن سرق من المغانم بعد تعين الحقوق بالقسمة فعليه القطع، ومن أخذ منها شيئا قبل القسمة فوق حقه قطع، وإلا لم يقطع.
والقبر والمسجد حرز، فيقطع النباش عند الأكثر، وقال أبو حنيفة:

صفحة رقم 186

لا قطع عليه لأنه سرق من غير حرز مالا معرضا للتلف لا مالك له لأن الميت لا يملك.
وظهور الدواب حرز لما حملت، وأفنية الحوانيت حرز لما وضع فيها في موقف البيع، سواء كان معه أهله، أم سرقت بليل أو نهار. وكذلك موقف الشاة في السوق مربوطة أو غير مربوطة، والدواب على مرابطها والسيارات في الشوارع حرز لها، سواء كان معها أهلها أم لا. والسفينة حرز لما فيها، سواء كانت سائبة أو مربوطة، فإن سرقت السفينة نفسها فهي كالدابة إن كانت سائبة فليست بمحرزة، وإن كانت مربوطة فهي محرزة. وإن كان معها أحد فهي محرزة بالحافظ، كالدابة بباب المسجد أو في السوق ليست محرزة إلا أن يكون معها حافظ. ومن ربطها بفناء المسجد أو اتخذ موضعا مربطا لدوابه، فإنه حرز لها.
ولا خلاف في أن الساكنين في دار واحدة كالفنادق التي يسكن فيها كل رجل بيته على حدة، يقطع من سرق منهم من بيت صاحبه إذا أخذ، وقد خرج بسرقته إلى قاعة الدار، وإن لم يدخل بها بيته، ولا خرج بها من الدار.
ولا يقطع الأبوان بسرقة مال ابنهما،
لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه ابن ماجه عن جابر: «أنت ومالك لأبيك»
ويقطع الولد في رأي جمهور المالكية في سرقة مال الأبوين لأنه لا شبهة له فيه. وقال الحنفية وابن وهب وأشهب من المالكية: لا يقطع لأن الابن ينبسط في مال أبيه في العادة. وقال مالك:
لا يقطع الجد لأنه أب.
وقال أبو حنيفة وأبو ثور: لا قطع على أحد من ذوي المحارم مثل العمة والخالة والأخت وغيرهم.
وقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق: يقطع من سرق من هؤلاء.

صفحة رقم 187

وأما سارق المصحف فيقطع إذا كانت قيمته ما تقطع فيه اليد، وهو رأي الشافعي وأبي يوسف وأبي ثور وابن القاسم. وقال أبو حنيفة: لا يقطع من سرق مصحفا.
وأما الطرار (النشال) فقال مالك والأوزاعي والشافعي: يقطع. وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن وإسحاق: إن كانت الدراهم مصرورة في ظاهر كمّه فطرّها فسرقها لم يقطع، وإن كانت مصرورة إلى داخل الكمّ، فأدخل يده فسرقها قطع.
وأما إقامة الحدود في السفر وفي دار الحرب: فقال مالك والليث بن سعد:
تقام الحدود في أرض الحرب، ولا فرق بين دار الحرب والإسلام لعموم القرآن وهو الصحيح.
وقال أبو حنيفة: إذا غزا الجند أرض الحرب، وعليهم أمير، فإنه لا يقيم الحدود في عسكره، إلا أن يكون إمام مصر أو الشام أو العراق أو ما أشبهه، فيقيم الحدود في عسكره،
لحديث جنادة بن أبي أمية عند الترمذي قال: «كنا مع بسر بن أرطاة في البحر، فأتي بسارق يقال له: مصدر قد سرق بختية «١»، فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا تقطع الأيدي في الغزو» ولولا ذلك لقطعته.
واتفق العلماء على أنه إذا اشترك جماعة في سرقة، فحصل لكل واحد منهم نصاب، فيقطع الكل. أما إذا كان المسروق كله نصابا، فلا يقطع أحد في رأي أبي حنيفة والشافعي لأن كل واحد منهم لم يسرق نصابا. وقال المالكية: إن كان لكل واحد قدرة على حمله بانفراده، لا يقطع أحد، وإن احتاجوا في إخراجه إلى تعاون بعضهم، فيقطعون جميعا.

(١) البختية: الأنثى من الجمال البخت، وهي جمال طوال الأعناق.

صفحة رقم 188

وقال الحنابلة: يقطعون جميعا، لضرورة حفظ المال.
وإن اشترك اثنان في نقب وتعاونا فيه، قطعا عند المالكية والحنابلة، وإن انفرد أحدهما بالإخراج فالقطع عليه خاصة، وقال أبو حنيفة: إن شارك في النقب ودخل وأخذ قطع وإلا فلا قطع. وقال الشافعي: لا قطع على من نقب ولم يسرق، وأما من سرق من نقب غيره، فإنه سرق من حرز مهتوك الحرمة.
ولو دخل أحدهما فأخرج المتاع إلى باب الحرز، فأدخل الآخر يده فأخذه، فعليه القطع عند الجمهور، ولا قطع عليه عند أبي حنيفة.
وإن أخطأ الحاكم فقطع يد السارق اليسرى بدل اليمنى، لا يزاد عليه، استحسانا، في قول أكثر العلماء.
وإذا وجب حد السرقة فقتل السارق رجلا، فقال مالك يقتل ويدخل القطع فيه. وقال الشافعي: يقطع ويقتل لأنهما حقان لمستحقين، فوجب أن يوفى لكل واحد منهما حقه، وهذا هو الصحيح، كما اختار ابن العربي والقرطبي.
والحكمة في البدء بالسارق قبل السارقة في هذه الآية، وفي الزنى بالزانية قبل الزاني: هو أن حب المال على الرجال أغلب، وشهوة الاستمتاع على النساء أغلب، فبدأ بما تكون الدواعي منه أكثر على ارتكاب الجرم.
والمستفاد من قوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ:
هو أنه لا قرابة بين الله تعالى وبين أحد توجب المحاباة حتى يقول قائل: نحن أبناء الله وأحباؤه، والحدود تقام على كل من يقارف موجب الحد أي يرتكب الجرم.
وقد سبق مثل هذه الجملة في الرد على مزاعم اليهود والنصارى.

صفحة رقم 189
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية