
قصة قابيل وهابيل وأول جريمة قتل في الدنيا
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٢٧ الى ٣٢]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١)
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢)
الإعراب:
إِنِّي أُرِيدُ.. أصله: إنني بثلاث نونات، فحذفت الثانية لأنه أقل تغييرا من حذف الأولى والثالثة.
أَوْ فَسادٍ.. مجرور بالعطف على: نَفْسٍ. وقرئ: فسادا: بالنصب على المصدر.
البلاغة:
قَتَلَ.. وأَحْيَا بينهما طباق.

وَمَنْ أَحْياها فيه استعارة، والمراد استبقاها لأن إحياء النفس حقيقة من مقدورات الله وحده.
لَئِنْ بَسَطْتَ.. ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ بينهما طباق السلب.
المفردات اللغوية:
وَاتْلُ أي اقرأ يا محمد عَلَيْهِمْ على قومك نَبَأَ خبر ابْنَيْ آدَمَ هابيل وقابيل بِالْحَقِّ متعلق باتل إِذْ قَرَّبا قُرْباناً ما يتقرب به إلى الله تعالى من الذبائح وغيرها، وهو مصدر في الأصل، يستوي فيه الواحد وغيره، وقربانهما: كبش لهابيل وزرع لقابيل فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وهو هابيل، بأن نزلت نار من السماء فأكلت قربانه وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ وهو قابيل، فغضب وأضمر الحسد في نفسه إلى أن حج آدم.
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ اللام لام القسم، أي لئن مددت يدك إلي لتقتلني.
تَبُوءَ ترجع بعقاب يعادل الإثم، وباء بالنعمة وباء بالذنب: التزم وأقر فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ زينت وشجعت مِنَ الْخاسِرِينَ بقتله، ولم يدر ما يصنع به لأنه أول ميت على وجه الأرض من بني آدم، فحمله على ظهره يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ ينبش التراب بمنقاره وبرجليه ويثيره على غراب ميت معه، حتى واراه يُوارِي يستر سَوْأَةَ أَخِيهِ ما يسوء ظهوره وهو العورة والمراد الجثة. يا وَيْلَتى الويلة: الفضيحة والبلية، أي وا فضيحتاه، والويل: حلول الشر.
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ بسبب ذلك الذي فعله قابيل بِالْبَيِّناتِ الآيات الواضحة أَنَّهُ أي الشأن بِغَيْرِ... فَسادٍ فِي الْأَرْضِ أي بغير فساد أتاه من كفر أو زنى أو قطع طريق أو نحوه أَحْياها امتنع عن قتلها لَمُسْرِفُونَ مجاوزون الحد بالكفر والقتل وغير ذلك، والإسراف البعد عن حد الاعتدال.
المناسبة:
أورد الله تعالى هذه القصة لبيان تأثير الحسد والحقد وحب الذات، وأن ذلك يؤدي إلى المخاطر والمهالك والقبائح، فقضى على رابطة الأخوة التي تجمع بين الأخوين، وأدى إلى سفك الدماء. وأمثلة ذلك كثيرة، فبعد أن ذكر تعالى حسد اليهود للنبي صلّى الله عليه وسلّم، حتى هموا أن يقتلوه مع صحابته، ذكر هنا قصة ابني آدم، حسدا من الأخ على أخيه، فوجه اتصال الآية بما قبلها التنبيه من الله تعالى

على أن ظلم اليهود ونقضهم المواثيق والعهود كظلم ابن آدم لأخيه.
التفسير والبيان:
أخبر الله تعالى عن سوء عاقبة الحسد في قصة ابني آدم وهما قابيل وهابيل، كيف قتل الأول أخاه، بغيا عليه، وحسدا له فيما وهبه الله من النعمة وتقبل القربان الذي أخلص فيه لله عز وجل، ففاز المقتول بالمغفرة ودخول الجنة، وخاب القاتل وخسر في الدارين، فقال:
اقرأ يا محمد، واقصص على هؤلاء البغاة الحسدة حفدة القردة والخنازير، من اليهود وأمثالهم خبر ابني آدم، وهما قابيل وهابيل، في رأي جماعة من السلف والخلف، اقرأ واتل ذلك عليهم بالحق، أي بالبيان الصحيح الواقعي الواضح الذي لا كذب ولا وهم ولا زيادة ولا نقصان فيه، كما قال تعالى: إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمران ٣/ ٦٢] وقال: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [الكهف ١٨/ ١٣] وقال: ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ [مريم ١٩/ ٣٤].
وسبب القصة: أن الله تعالى شرع لآدم عليه السلام أن يزوج بناته من بنيه لضرورة الحال، فكان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى، فيزوج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر، وكانت أخت هابيل دميمة، وأخت قابيل وضيئة، فأراد أن يستأثر بها على أخيه، فأبى آدم ذلك، إلا بتقريب قربان، فمن تقبل منه فهي له، فتقبل من هابيل، ولم يتقبل من قابيل.
اتل عليهم حين قربا قربانا، فتقبل الله من هابيل قربانه وهو الكبش السمين لتقواه وإخلاصه، ولم يتقبل من قابيل قربانه وهو زرع قليل من سنبل القمح، لقلة التقوى والإخلاص. وكيف كان القبول؟
روي عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما أن أحدهما كان صاحب حرث

وزرع، فقرّب شرّ ما عنده وأردأه، غير طيبة به نفسه، وكان الآخر صاحب غنم، وقرّب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها، طيبة به نفسه. وذكر بعضهم أن القربان المقبول كانت تجيء النار من السماء لتأكله، ولا تأكل غير المقبول.
فصعد الأخوان مع أبيهم آدم الجبل، فوضعا قربانهما، ثم جلس الثلاثة، وهم ينظرون إلى القربان، فبعث الله نارا، حتى إذا كانت فوقهما، دنا منها عنق، فاحتمل قربان هابيل، وترك قربان قابيل. فقال قابيل: يا هابيل، تقبّل قربانك، وردّ علي قرباني، لأقتلنك، فقال هابيل: قربت أطيب مالي، وقربت أنت أخبث مالك، وإن الله لا يقبل إلا الطيب، إنما يتقبل الله من المتقين، أي الذين يخافون عقاب الله باجتناب الشرك وسائر المعاصي كالرياء والشح واتباع الأهواء، قال تعالى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران ٣/ ٩٢]
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم: «إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا».
فلما قالها غضب قابيل، فرفع الحديدة وضربه بها، فقال: ويلك يا قابيل، أين أنت من الله، كيف يجزيك بعملك؟ فقتله وطرحه في حفرة من الأرض، وحثا عليه التراب.
وقال هابيل الرجل الصالح: إن مددت إلي يدك لتقتلني، لا أقابلك على صنيعك الفاسد بمثله، فأكون أنت وأنا سواء في الخطيئة، ثم بيّن علة امتناعه عن القتل: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ أي إني أخشى عقاب الله وعذابه من أن أصنع كما تريد أن تصنع، بل أصبر وأحتسب لأن الاعتداء على الأرواح من أكبر الجرائم. وفي هذا التصريح بعدم الإقدام على جريمة القتل، فلا ينطبق عليه الوضع الوارد في
الحديث الذي رواه أحمد والشيخان وغيرهم من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول الله، هذا القاتل! فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه».

ثم تابع هابيل المقتول عظته البالغة المؤثرة المذكرة بعذاب الآخرة، لعلها تمنع أخاه من قتله: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ أي إني أريد بالابتعاد عن مقابلة الجريمة بمثلها أن تتحمل إثمي وإثمك، وتلتزم بإثم قتلك إياي، وإثمك الذي كان منك قبل قتلي، وهذا رأي أكثر العلماء.
وحينئذ تكون بما حملت من الإثمين من أهل النار في الآخرة، والنار جزاء كل ظالم،
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد وأبو داود وابن حبان عن أبي موسى الأشعري: «كن كخيري ابني آدم».
يتبين من هذا أنه نفّره وحذره من القتل بثلاث مواعظ: الخوف من الله، تحمل الإثمين: إثم القتل وإثم نفسه، كونه من أصحاب النار ومن الظالمين.
ثم أخبر تعالى أن هذه المواعظ كلها لم ينزجر بها، فحسّنت وسولت له نفسه وشجعته على قتل أخيه، فقتله، فأصبح من جملة الذين خسروا أنفسهم من الدنيا والآخرة، وأي خسارة أعظم من جريمة القتل هذه؟! ثم حار القاتل وضاقت به الدنيا ولم يدر كيف يفعل بجثة أخيه، فاستفاد من تجربة غيره وهو الغراب، مما دل على جهله وسذاجته وقلة معرفته.
فبعث الله غرابين أخوين، فاقتتلا، فقتل أحدهما صاحبه، فحفر له حفرة، ثم حثا عليه التراب، فلما رآه قال: وا فضيحتي، وهذا اعتراف على نفسه باستحقاق العذاب، أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب؟! أي هل بلغ عجزي وضعفي وقلة معرفتي أن كنت دون الغراب علما وتصرفا؟ فدفن أخاه، ووارى جثته، وأصبح نادما على ما فعل، وهذا شأن كل مخطئ، يرتكب المعصية، ثم يندم عليها.
إلا أنه لم تقبل توبته، بالرغم من المبدأ المعروف في
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الندم توبة» «١»
لأنه لم يندم ولم يتب من المعصية، وإنما كان ندمه على قتل أخيه

لأنه لم ينتفع بقتله، وسخط عليه بسببه أبواه وإخوته «١»، لذا كان من الذين سنوا سنة سيئة، عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده إلى يوم القيامة،
روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه: «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم كفل- نصيب- من دمها لأنه أول من سنّ القتل».
ومن نتائج هذا القتل، وبسبب هذا الجرم الفظيع، والفعل القبيح الذي فعله أحد الأخوين بالآخر ظلما وعدوانا تقرر تشريع القصاص، وفرض حكمه على بني إسرائيل لأن التوراة أول كتاب حرّم فيه القتل، وذلك الحكم: أن من قتل نفسا بغير نفس أي بغير سبب موجب للقصاص الذي شرعه الله تعالى بقوله: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها- أي في التوراة- أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ.. الآية [المائدة ٥/ ٤٥]، أو قتل بغير سبب فساد في الأرض بالإخلال بالأمن والطمأنينة، كقطاع الطرق وعصابات اللصوص، فاستحل القتل بلا سبب ولا جناية، فكأنما قتل الناس جميعا لأنه لا فرق عند الله بين نفس ونفس، والعدوان على نفس عدوان على المجتمع البشري كله، لذا قال تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً، فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً [النساء ٤/ ٩٣].
ومن أحياها أي حرم قتلها، وامتنع من القتل، فكأنما أحيا الناس جميعا، بتوفير الأمن والطمأنينة لهم، وإزالة القلق والهلع من نفوسهم.
وهذا دليل على أن نفس الإنسان ليست ملكه، وإنما هي ملك للمجتمع الذي يعيش فيه، فمن اعتدى على نفس ولو بالانتحار، استحق العذاب الشديد يوم القيامة، ومن أحيا نفسا بأي سبب كان، فكأنما أحيا الخلق كلهم.
ثم وجه الله تعالى تقريعا وتوبيخا لبني إسرائيل على ارتكابهم المحارم بعد

علمهم بها، وإسرافهم في القتل، وغلظة نفوسهم في الماضي وفي عهد النبوة، مثل فعل بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع من اليهود حول المدينة، الذين كانوا يقاتلون مع الأوس والخزرج في حروب الجاهلية، ويقاتلون مع المشركين في حروبهم ضد المسلمين بعد الهجرة.
ومضمون التوبيخ: أن رسل الله الكرام جاءوهم بالبينات، أي بالحجج والبراهين والدلائل الواضحة الدالة على الأحكام المقررة عليهم، المستهدفة تهذيب نفوسهم وتطهير أخلاقهم، ومع ذلك كان الكثيرون منهم مسرفين في القتل وفي ارتكاب جرائم البغي والعدوان. وهذا وإن كان صادرا من أسلاف اليهود في الماضي، فهو منسوب أيضا إلى الأمة بكاملها لرضا الخلف عن فعل السلف، فكانت الأمة متكافلة متضامنة فيما بينها كالجسد الواحد.
فقه الحياة أو الأحكام:
العبرة في قصة ابني آدم أن الحسد كان سبب أول جريمة قتل في البشر، وأنه هو أسّ المفاسد والمعايب والرذائل في المجتمع، فالأمة المتحاسدة متمزقة متعادية متباغضة، لا تجتمع على خير، ولا تلتقي على فضيلة، ولا تتعاون على برّ وصلاح وتقدم، مما يؤدي إلى الضعف والذل والهوان وعبودية أفرادها لمن سواهم.
والمستفاد من الآية أنه إن همّ اليهود بالفتك بمحمد، فليس ذلك جديدا عليهم، فقد قتلوا الأنبياء قبله، وقتل قابيل هابيل، والشر قديم، والتذكير بهذه القصة مفيد لأنها قصة صدق، وليست حديثا موضوعا من نسج الخيال، وفيها تبكيت لمن خالف الإسلام، وتسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
وجمهور المفسرين على أن ابني آدم هما ابناه لصلبه، وهما قابيل وهابيل وكان قربان قابيل حزمة من سنبل لأنه كان صاحب زرع، واختارها من أردإ زرعه، بل إنه وجد فيها سنبلة طيبة ففركها وأكلها وكان قربان هابيل كبشا

لأنه كان صاحب غنم، أخذه من أجود غنمه، فتقبّل قربانه، قال القرطبي:
فرفع إلى الجنة، فلم يزل يرعى فيها إلى أن فدي به الذبيح عليه السلام، قاله سعيد بن جبير وغيره.
وسبب القصة: التنازع على الزواج من أخت قابيل توأمته المولودة معه، فقد كان آدم عليه السلام يزوج الذكر من هذا البطن الأنثى من البطن الآخر، ولا تحل له أخته توأمته، فولدت حواء مع قابيل أختا جميلة واسمها «إقليمياء» ومع هابيل أختا ليست كذلك، واسمها «ليوذا» فلما أراد آدم تزويجهما قال قابيل: أنا أحق بأختي، فأمره آدم فلم يأتمر، وزجره فلم ينزجر، فاتفقوا على تقديم القربان «١».
وكانت النتيجة قبول قربان هابيل لصلاحه بدليل قوله لأخيه: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. قال ابن عطية: المراد بالتقوى هنا اتقاء الشرك بإجماع أهل السنة فمن اتقاه وهو موحّد فأعماله المصدّقة لنيته مقبولة وأما المتقى الشرك والمعاصي فله الدرجة العليا من القبول والختم بالرحمة.
وكان استسلام هابيل لتهديد أخيه قابيل بالقتل معتمدا على أسس ثلاثة: الخوف الحقيقي من الله تعالى، والخشية من تحمل إثمين: إثم قتله وإثم فعل المقتول الذي عمله قبل القتل، والابتعاد عن أن يكون من أصحاب النار ومن الظالمين. وهذه المبادئ من أصول المواعظ التي تنفر من الإقدام على جريمة القتل وغيرها.
ودل قوله: فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ على أنهم كانوا في ذلك الوقت مكلفين قد لحقهم الوعد والوعيد. واستدل بعضهم بهذا القول على أن قابيل كان كافرا لأن لفظ أَصْحابِ النَّارِ إنما ورد في الكفار حيث وقع في القرآن.

قال القرطبي: وهذا مردود هنا بما ذكرناه عن أهل العلم في تأويل الآية. ومعنى مِنْ أَصْحابِ النَّارِ مدة كونك فيها «١».
وإقدام قابيل على القتل جعله من الخاسرين في الدنيا والآخرة، وتضمنت الآية بيان حال الحاسد، حتى إنه قد يحمله حسده على إهلاك نفسه بقتل أقرب الناس إليه قرابة، وأمسّهم به رحما، وأولاهم بالحنو عليه.
ودلت الآية: فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً على الاستفادة من تجارب الآخرين.
وبالرغم من أن قابيل أصبح من النادمين، فلم يكن ندمه جاعلا له من التائبين لأن ندمه لم يكن على القتل وإنما على حمل أخيه على ظهره سنة، أو لأنه لم ينتفع بقتله، وسخط عليه أبواه وإخوته، أو لأجل ترك أخيه بالعراء استخفافا به بعد قتله، فلما رأى فعل الغراب بدفن الغراب الآخر ندم على قساوة قلبه «٢».
ودلت آية: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ.. على تشريع القصاص في حق القاتل على بني إسرائيل. وقوله: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ ليس إشارة إلى قصة قابيل وهابيل، بل هو إشارة إلى ما ذكر في هذه القصة من أنواع المفاسد الحاصلة بسبب القتل الحرام وهو القتل العمد العدوان، ومنها قوله: فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ ومنها قوله: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ.
وتخصيص بني إسرائيل بالذكر، وإن كان القتل حراما والقصاص عاما في جميع الأديان والملل لأنهم أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل الأنفس مكتوبا، وكان قبل ذلك قولا مطلقا، فغلظ الأمر على بني إسرائيل بالكتاب بحسب طغيانهم وسفكهم الدماء، فهم مع علمهم بشناعة القتل أقدموا على قتل الأنبياء
(٢) تفسير الرازي: ١١/ ٢١٠ [.....]