
فذلك دليل على كذبكم. وإنما هم في الحقيقة كسائر البشر يحاسبهم على الطاعة والمعصية.
وأوضحت الآية الثالثة: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا مهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم في تبيان أمر النجاة والسعادة الأبدية، وإناطتها بالإيمان والعمل الصالح، فالجنة لمن أطاع الله ورسوله، والنار لمن عصى الله ورسوله، وفي تقرير أحكام الحياة وقوانين المجتمع لئلا أو كراهية أن تقولوا: ما جاءنا من مبشر ولا منذر.
وكان بين ميلاد عيسى والنبي صلّى الله عليه وسلّم خمسمائة وتسع وستون سنة.
تذكير موسى قومه بنعمة الله ومطالبتهم بدخول الأرض المقدسة وموقفهم الرافض
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٢٠ الى ٢٦]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤)
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦)

الإعراب:
أَنْبِياءَ ممنوع من الصرف لأن فيه ألف التأنيث. خاسِرِينَ منصوب على الحال من واو فَتَنْقَلِبُوا وهو العامل في الحال. قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ.. مِنَ الَّذِينَ: في موضع رفع صفة رَجُلانِ وكذلك قوله تعالى: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا جملة فعلية في موضع رفع صفة رَجُلانِ.
أَبَداً ما دامُوا فِيها أبدا: منصوب ظرف زمان. وما في ما دامُوا ظرفية زمانية مصدرية، وتقديره: لن ندخلها أبدا مدة دوامهم فيها. وما دامُوا: في موضع نصب على البدل من قوله تعالى: أَبَداً وهو بدل بعض من كل.
إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي: أَخِي إما منصوب عطفا على نَفْسِي، أو عطفا على اسم رَجُلانِ ويحذف خبره لدلالة الأول عليه وتقديره: وإن أخي لا يملك إلا نفسه وإما مرفوع بالابتداء عطفا على موضع (إن وما عملت فيه) ويضمر الخبر كالأول أو معطوف على ضمير أَمْلِكُ وحسن العطف على الضمير المرفوع لوجود الفصل بين المتعاطفين. أَرْبَعِينَ سَنَةً ظرف منصوب، ويتعلق بيتيهون فيكون التحريم مؤبدا، أو يتعلق بمحرّمة فلا يكون التحريم مؤبدا، وجملة يَتِيهُونَ حالية من الهاء والميم في عَلَيْهِمْ.
البلاغة:
وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً تشبيه بليغ، أي كالملوك في رغد العيش والطمأنينة، فحذف أداة الشبه ووجه الشبه.
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا جملة اعتراضية لبيان مدى فضل الله على الصالحين.
المفردات اللغوية:
جَعَلَ فِيكُمْ منكم. مُلُوكاً أحرارا تملكون أنفسكم وأموالكم وأهلكم بعد أن كنتم في أيدي القبط، وصرتم أصحاب خدم وحشم.

ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ من المن والسلوى وفلق البحر وغير ذلك. الْمُقَدَّسَةَ المطهرة. كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أمركم بدخولها وهي الشام. وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ تتراجعوا وتنهزموا خوف العدو. خاسِرِينَ في سعيكم. جَبَّارِينَ جمع جبار: وهو الرجل الطويل القوي المتكبر.
قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ قال لهم رجلان يخافون مخالفة أمر الله، وهما يوشع وكالب من النقباء الاثني عشر الذين بعثهم موسى عليه السلام لكشف أحوال الجبابرة. أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بالعصمة، فكتما ما اطلعا عليه من حالهم إلا عن موسى، بخلاف بقية النقباء، فأفشوا، فجبن القوم.
ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ باب القرية، ولا تخشوهم، فإنهم أجساد بلا قلوب. فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ قالا ذلك تيقنا بنصر الله وإنجاز وعده. قاعِدُونَ عن القتال. قالَ أي موسى حينئذ. رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وإلا أَخِي ولا أملك غيرهما، فأجبرهم على الطاعة.
فَافْرُقْ فافصل. فَإِنَّها أي الأرض المقدسة. مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أن يدخلوها.
يَتِيهُونَ يتحيرون. فَلا تَأْسَ تحزن.
المناسبة:
الواو في قوله: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ واو عطف، وهو متصل بقوله:
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ كأنه قيل: أخذ عليهم الميثاق وذكرهم موسى عليه السلام نعم الله تعالى، وأمرهم بمحاربة الجبارين، فخالفوا في القول في الميثاق، وخالفوه في محاربة الجبارين.
أي بعد أن أقام الله الدليل على صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وناقش أهل الكتاب في ذلك، ذكر موقفين من مواقف اليهود يدلان على عنادهم، أولهما: جحود نعم الله الكثيرة عليهم، وثانيهما: عصيانهم أوامر موسى بدخول أرض فلسطين ومحاربة الجبارين، ليكون ذلك مواساة للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتعريفا له أن صدودهم عن الحق خلق متأصل فيهم.

التفسير والبيان:
أخبر الله تعالى عن كليمه موسى بن عمران عليه السلام حينما ذكّر قومه بنعم الله عليهم في جمعه لهم بين خيري الدنيا والآخرة لو استقاموا على طريق الاستقامة. فقال: واذكر يا محمد لبني إسرائيل وسائر الناس الذين تبلغهم دعوتك حين قال موسى لقومه بعد أن أنقذهم من ظلم فرعون وقومه: تذكروا نعما ثلاثا:
١- تذكروا نعمة الله عليكم بتتابع الأنبياء فيكم من لدن أبيكم إبراهيم إلى من بعده، حتى ختموا بعيسى عليه السلام، ثم أوحى الله إلى خاتم النبيين من ولد إسماعيل بن إبراهيم، وبنو إسرائيل من نسل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وكان جميع أنبيائهم من بعد موسى يحكمون بالتوراة.
ومن المعلوم: أن النبوة: هي الإخبار ببعض الأمور الغيبية التي تقع في المستقبل بوحي أو إلهام من الله عز وجل. والخلاصة: أنه لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء.
٢- وجعلكم ملوكا، أي أحرارا بعد أن كنتم مملوكين في أيدي القبط، فأنقذكم الله، فسمى إنقاذكم ملكا. وقيل: الملك: هو من له مسكن وخادم، وقيل: من له مال لا يحتاج معه إلى تكلف الأعمال وتحمل المشاق. والخلاصة:
أنهم أحرار عندهم ما يكفيهم من زوجة وخادم ودار، بدليل
ما رواه أبو داود عن أبي سعيد الخدري مرفوعا: «كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا»
وروى أبو داود أيضا عن زيد بن أسلم: «من كان له بيت وخادم فهو ملك»
وعرف اليوم يؤيد هذا، فيقال للمخدوم المالك مسكنه الهانئ في معيشته: «ملك زمانه».
٣- وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين: عالمي زمانهم، من فلق البحر،

وإغراق العدو، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى وغير ذلك من الأمور العظام.
ثم أمرهم موسى بدخول فلسطين ومجاهدة الأعداء فقال لهم: يا قوم الأرض المقدسة (الطاهرة) : أرض بيت المقدس، أو فلسطين، للسكنى لا للملك لأن بيت المقدس مقر الأنبياء ومسكن المؤمنين الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي قسمها لكم وسماها، فقد وعد الله إبراهيم بحق السكنى في تلك البلاد المقدسة، لا أنها ملك لهم لأن هذا مخالف للواقع، فاستنباط اليهود من ذلك الوعد أنه لا بد أن يعود لهم ذلك الملك ليس بصحيح لأن الله قال بعدئذ: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ قال ابن عباس: كانت هبة، ثم حرمها عليهم بشؤمهم وعصيانهم. ولأن قوله:
كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ مشروط بقيد الطاعة، فلما لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط.
وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ أي لا تتراجعوا وتدبروا من خوف الجبابرة، ولا تنكلوا عن الجهاد، فتصبحوا خاسرين ثواب الدنيا والآخرة.
وقيل: المراد لا ترجعوا عن الدين الصحيح إلى الشك في نبوة موسى عليه السلام، وإلى الوثنية والفساد في الأرض.
قال النقباء الذين أرسلهم موسى عليه السلام للتجسس في الأرض المقدسة:
إن فيها قوما جبارين أي طوالا عتاة يجبرون الناس على ما أرادوا. وكانوا من الكنعانيين، وإنا لن ندخلها أبدا حتى يخرجوا منها، فإن خرجوا منها فإنا داخلون فيها. وإنما قالوا هذا على سبيل الاستبعاد كقوله تعالى: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الأعراف ٧/ ٤٠].

وهذا دليل آخر على امتناعهم عن الدخول، وعدم أحقيتهم بشيء من تراب فلسطين الطاهرة.
قال رجلان من النقباء الذين يخافون الله تعالى- وقد أنعم الله عليهما بالهداية والإيمان والطاعة والتوفيق لما يرضيه، والثقة بعون الله تعالى، والاعتماد على نصرة الله، وهما الرجلان الصالحان من قوم موسى: يوشع بن نون، وكالب بن يوفنا- قالا: ادخلوا عليهم باب المدينة، فإذا فعلتم ذلك نصركم الله، وأيدكم بجنده، وكنتم الغالبين.
وإن توكلتم على الله واتبعتم أمره ووافقتم رسوله، نصركم الله على أعدائكم وأيدكم، ودخلتم البلد التي كتبها الله لكم، والتوكل على الله صفة المؤمنين.
ومع هذا كرر اليهود الرفض وأصروا على العناد والتمرد، ولم تنفعهم عظة الرجلين الصالحين شيئا، وقالوا يا موسى: لن ندخلها أبدا ما داموا فيها، وأبدا:
تعليق للنفي المؤكد بالدهر المتطاول، وقولهم: ما دامُوا فِيها بيان للأبد، فاذهب أنت وربك الذي أمرك بالجهاد والخروج من مصر والإتيان إلى هنا، فقاتلا الجبارين، إنا هاهنا قاعدون عن الجهاد منتظرون.
وهذا قول في غاية التنكر لموسى عليه السلام، والبعد عن الأدب معه.
فقال موسى غاضبا حزينا باثا شكواه إلى الله وحسرته، معتذرا من عصيان قومه: رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي أي لا يطيعني أحد منهم، فيمتثل أمر الله، ويجيب إلى ما دعوت إليه إلا أنا وأخي هارون. وفي هذا إيماء إلى أنه لم يكن على ثقة من ثبات يوشع وكالب حال وجود العدد القليل، فاقض وافصل بيني وبين هؤلاء الفاسقين الخارجين عن طاعتك، فتحكم لنا بما نستحق، وتحكم عليهم بما يستحقون.

وهذا في معنى الدعاء عليهم. ولذلك وصل به قوله: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ على وجه التسبيب.
ويصح أن يكون المعنى: فباعد بيننا وبينهم، وخلصنا من صحبتهم كقوله تعالى: وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [التحريم ٦٦/ ١١].
قال الله تعالى لما دعا عليهم موسى عليه السلام حين نكلوا عن الجهاد:
فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ أي إن الأرض المقدسة محرم عليهم دخولها قدر مدة أربعين سنة، فتاهوا في صحراء مقفرة أي ساروا فيها متحيرين لا يهتدون طريقا، والتيه: المفازة أو البيداء أو البرية التي يتاه فيها، لا يدرون أين مصيرهم. روي أنهم لبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ (وقال ابن عباس: وهي تسعة فراسخ) يسيرون في كل يوم جادّين، حتى إذا سئموا وأمسوا، إذا هم في الموضع الذي ابتدؤوا منه، يسيرون ليلا، وقد يسيرون نهارا، وكان يطلع لهم عمود من نور بالليل يضيء لهم، ويظللهم الغمام من حر الشمس نهارا، وينزل عليهم المن والسلوى، حتى انقرضوا كلهم إلا من لم يبلغ العشرين.
قيل: وكانوا ستمائة ألف، ومات هارون في التيه ومات موسى بعده فيه بسنة، وكان رحمة لهما وعذابا لأولئك، وسأل موسى ربه أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر فأدناه.
ونبئ يوشع بعد سن الأربعين، وأمر بقتال الجبارين، فسار بمن بقي، وقاتلهم، وكان يوم الجمعة، ووقفت له الشمس ساعة حتى فرغ من قتالهم.
روى أحمد في مسنده حديثا: «إن الشمس لم تحبس على بشر إلا ليوشع، ليالي سار إلى بيت المقدس».
وتتمة كلام الله تسلية لموسى عنهم: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ أي فلا تحزن على القوم المتمردين فيما حكمت عليهم به، فإنهم مستحقون لذلك.

وتساءل الزمخشري وغيره: كيف يوفق بين قوله فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ وبين قوله الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وأجابوا بوجهين:
أحدهما- أن يراد كتبها لكم بشرط أن تجاهدوا أهلها، فلما أبوا الجهاد قيل:
فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ.
والثاني- أن يراد فإنها محرمة عليهم أربعين سنة، فإذا مضت الأربعون، كان ما كتب «١».
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت هذه القصة تقريع اليهود وبيان فضائحهم ومخالفتهم لله ولرسوله، ونكولهم عن طاعتهما فيما أمر به كل منهما من الجهاد، فضعفت أنفسهم عن مقاتلة الأعداء، مع أن معهم موسى كليم الله يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم، بالرغم مما شاهدوا من فعل الله بعدوهم فرعون من إغراقه مع جنوده في اليم، وهم ينظرون، لتقر به أعينهم.
وإذا كان أسلافهم تمردوا على موسى وعصوه، فكذلك أحفادهم تمردوا على محمد عليه السلام، وهو تسلية له.
وهذا يدل على قبح طبائع اليهود وإمعانهم في مخالفة أوامر الله، بالرغم من تذكير موسى لهم بنعم الله الكثيرة عليهم وأهمها ثلاث:
١- بعث كثير من الأنبياء في بني إسرائيل.
٢- وجعلهم ملوكا: أي يملكون أمرهم لا يغلبهم فيه غالب، بعد أن كانوا مملوكين لفرعون مقهورين، فأنقذهم الله وأغرق عدوهم.

٣- وإعطاؤهم ما لم يعط أحد من عالمي زمانهم.
وقد أمرهم موسى بمجاهدة الأعداء من الكنعانيين الجبارين في فلسطين، وبدخول الأرض المقدسة (المطهرة أو المباركة) فتمردوا وأبوا الدخول، بالرغم من تبشير الرجلين الصالحين من النقباء (يوشع وكالب) لهم بالنصر والغلبة والفتح، وقالا: ولا يهولنكم عظم أجسامهم، فقلوبهم ملئت رعبا منكم، فأجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة.
وتمادوا بعناد وإفراط على الله، فرفضوا الدخول إلى الأرض المقدسة وقالوا لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا، إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ وهذا منهم كفر لأنهم شكّوا في رسالة موسى.
فدعا موسى عليه السلام عليهم، وطلب فصل القضاء بينه وبينهم.
فاستجاب الله دعاءه وعاقبهم في التيه أربعين سنة، ومات هارون وموسى في التيه.
روى مسلم في صحيحة عن أبي هريرة قال: أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام، فلما جاءه صكّه ففقأ عينه، فرجع إلى ربه، فقال: «أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت» قال: فرد الله إليه عينه وقال: «ارجع إليه، فقل له:
يضع يده على متن ثور، فله بما غطت يده بكل شعرة سنة» قال: «أي رب ثم مه» قال: «ثم الموت» قال: «فالآن» فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فلو كنت ثمّ، لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر». وفعل موسى مع الملك لأنه لم يعرفه، وأنه رأى رجلا دخل منزله بغير إذنه، يريد نفسه، فدافع عن نفسه، فلطم عينه، ففقأها.
وكان العقاب الإلهي لبني إسرائيل المتمردين عن الطاعة هو تصفيتهم وتجديد بنية الشعب، وظهور جيل جديد من الشباب يتحملون المسؤولية، وكانوا أهلا للجهاد ومقاومة الجبارين، وجعلهم أئمة وارثين.