آيات من القرآن الكريم

قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ
ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ

قيل: إن الله عز ذكره كان أمرهم بقتال من فيها من أهل الكفر به وفرض عليهم دخولها، (١) فاستوجب القوم الخسارة بتركهم إذًا فرض الله عليهم من وجهين: أحدُهما: تضييع فرض الجهاد الذي كان الله عز ذكره فرضه عليهم= والثاني: خلافهم أمر الله في تركهم دخول الأرض، وقولهم لنبيهم موسى ﷺ إذ قال لهم:"ادخلوا الأرض المقدسة":"إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون".
* * *
وكان قتادة يقول في ذلك بما:
١١٦٥٥ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم" أمروا بها، كما أمروا بالصلاة والزكاة والحجِّ والعُمْرة.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن جواب قوم موسى عليه السلام، إذ أمرهم بدخول الأرض المقدسة: أنهم أبوا عليه إجابته إلى ما أمرهم به من ذلك، (٢) واعتلّوا عليه في ذلك بأن قالوا، إن في الأرض المقدسة التي تأمرنا بدخولها، قومًا جبارين لا طاقة لنا بحربهم، ولا قوة لنا بهم. وسموهم"جبّارين"، لأنهم كانوا لشدة بطشهم وعظيم خلقهم، (٣) فيما ذكر لنا، قد قهروا سائر الأمم غيرهم.

(١) في المطبوعة: "كان أمره"، والصواب من المخطوطة.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "إجابة إلى ما أمرهم"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "بشدة بطشهم"، والسياق يقتضي ما أثبت.

صفحة رقم 171

وأصل"الجبار"، المصلح أمر نفسه وأمر غيره، ثم استعمل في كل من اجترَّ نفعا إلى نفسه بحق أو باطل طلبَ الإصلاح لها، حتى قيل للمتعدِّي إلى ما ليس له= بغيًا على الناس، وقهرًا لهم، وعتوًّا على ربه="جبار"، وإنما هو"فعّال" من قولهم:"جبر فلان هذا الكسر"، إذا أصلحه ولأمه، ومنه قول الراجز: (١)

قَدْ جَبَرَ الدِّينَ الإلهُ فَجَبَرْ وَعَوَّرَ الرَّحمنُ مَنْ وَلَّي العَوَرْ (٢)
يريد: قد أصلح الدين الإله فصلح. ومن أسماء الله تعالى ذكره"الجبار"، لأنه المصلحُ أمرَ عباده، القاهرُ لهم بقدرته.
* * *
ومما ذكرته من عظم خلقهم ما:-
١١٦٥٦ - حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قصة ذكرها من أمر مُوسى وبني إسرائيل، قال، ثم أمرهم بالسير إلى أريحا= وهي أرض بيت المقدس= فساروا، حتى إذا كانوا قريبًا منهم، بعث موسى اثنى عشر نقيبًا من جميع أسباط بني إسرائيل، فساروا يريدون أن يأتوه بخبر الجبَّارين، فلقيهم رجل من الجبارين، يقال له:"عاج"، (٣) فأخذ الاثنى عشر فجعلهم في حُجْزَته، وعلى رأسه حَمْلة حطب، (٤) وانطلق بهم
(١) هو العجاج.
(٢) ديوانه: ١٥، واللسان (جبر) (عور)، وهو أول أرجوزته التي مدح بها عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وقد مضت منها أبيات، وذكرنا خبرها فيما سلف، انظر ١: ١٩٠/٢: ١٥٧/٣: ٢٢٩/٤: ٣٢١. وقوله: "قد جبر الدين الإله"، من قولهم: "جبرت العظم" متعديًا، "فجبر"، لازمًا، أي: انجبر العظم نفسه. و"العور" في هذا الشعر هو قبح الأمر وفساده، وترك الحق فيه، وليس من عور العين. و"عور الشيء" قبحه. يدعو فيقول: قبح الله من اتبع الفساد واستقبله بوجهه. من قولهم"ولي الشيء وتولاه"، أي اتبعه وفي التنزيل: "ولكل وجهة هو موليها"، أي مستقبلها ومتبعها، فهذا تفسير البيت بلا خلط في تفسيره.
(٣) في المطبوعة: "عوج"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو موافق لما سلف رقم: ١١٥٧٢، وتاريخ الطبري.
(٤) انظر ما سلف ص ١١٢ تعليق: ١، ٢، وما غيره، مصحح المطبوعة السالفة هناك.

صفحة رقم 172

إلى امرأته فقال، انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا!! فطرحهم بين يديها، فقال: ألا أطحنهم برجلي؟ فقالت امرأته: لا بل خلِّ عنهم حتى يُخْبروا قومهم بما رأوا! ففعل ذلك. (١)
١١٦٥٧ - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان قال، قال أبو سعيد، قال عكرمة، عن ابن عباس قال: أمر موسى أن يدخل مدينة الجبَّارين. قال: فسار موسى بمن معه حتى نزل قريبًا من المدينة =وهي أريحاء= فبعث إليهم اثنى عشر عينًا، من كل سبطٍ منهم عينًا، ليأتوه بخبر القوم. قال: فدخلوا المدينة، فرأوا أمرًا عظيمًا من هيئتهم وجثثهم وعظمهم، فدخلوا حائطًا لبعضهم، فجاء صاحب الحائط ليجتني الثمار من حائطه، فجعل يجتني الثمار وينظر إلى آثارهم، وتتبعهم. فكلما أصاب واحدًا منهم أخذه فجعله في كمه مع الفاكهة، وذهب إلى ملكهم فنثرهم بين يديه، فقال الملك: قد رأيتم شأننا وأمرنا، اذهبوا فأخبروا صاحبكم. قال: فرجعوا إلى موسى فأخبروه بما عايَنُوا من أمرهم.
١١٦٥٨ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"إن فيها قومًا جبَّارين"، ذكر لنا أنهم كانت لهم أجسام وخِلَقٌ ليست لغيرهم.
١١٦٥٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: إن موسى عليه السلام قال لقومه:"إني سأبعث رجالا يأتونني بخبرهم"= وإنه أخذ من كل سبط رجلا فكانوا اثنى عشر نقيبًا، فقال:"سيروا إليهم وحدِّثوني حديثهم وما أمرهم، ولا تخافوا، إن الله معكم ما أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برُسله، وعزرتموهم، وأقرضُتم الله قرضًا حسنًا"= وإنّ القوم ساروا حتى هجموا عليهم، (٢) فرأوا أقوامًا لهم أجسام عجبٌ عظمًا

(١) الأثر: ١١٦٥٦- مضى مطولا برقم: ١١٥٧٢، وهو في تاريخ الطبري ١: ٢٢١، ٢٢٢.
(٢) في المطبوعة: "ثم إن القوم"، وأثبت ما في المخطوطة.

صفحة رقم 173

وقوة، وإنه =فيما ذكر= أبصرهم أحد الجبَارين، وهم لا يألون أن يخفُوا أنفسهم حين رأوا العجب. فأخذ ذلك الجبّار منهم رجالا فأتى رئيسَهم، فألقاهم قدّامه، فعجبوا وضحكوا منهم. فقال قائل منهم:"فإنّ هؤلاء زعموا أنهم أرادوا غزوكم"!! (١) وأنه لولا ما دفع الله عنهم لقُتلوا، وأنهم رجعوا إلى موسى عليه السلام فحدّثوه العجب.
١١٦٦٠ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"اثنى عشر نقيبًا" من كل سبط من بني إسرائيل رجل، أرسلهم موسى إلى الجبارين، فوجدُوهم يدخل في كُمِّ أحدهم اثنان منهم، يلقونهم إلقاءً، ولا يحمل عنقود عِنبهم إلا خمسة أنفُسٍ بينهم في خشبة، ويدخُل في شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس، أو أربعة. (٢)
١١٦٦١ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.
١١٦٦٢ - حدثني محمد بن الوزير بن قيس، عن أبيه، عن جويبر، عن الضحاك:"إن فيها قومًا جبارين" قال: سِفْلة لا خَلاقَ لهم. (٣)
* * *

(١) في المطبوعة: "إن هؤلاء"، بحذف الفاء، وأثبت ما في المخطوطة.
(٢) الأثر: ١١٦٦٠- مضى هذا الأثر برقم: ١١٥٧٣، ١١٥٧٤.
(٣) الأثر: ١١٦٦٢-"محمد بن وزير بن قيس الواسطي"، روى عن أبيه، وابن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان، وغيرهم. روى عنه الترمذي وابن أبي حاتم، وغيرهما. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٤/١/١١٥.
وأبوه"وزير بن قيس الواسطي"، روى عن جويبر. مترجم في ابن أبي حاتم ٤/٢/٤٤.

صفحة رقم 174

القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (٢٢) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز ذكره عن قولِ قوم موسى لموسى، جوابًا لقوله لهم:"ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم"، فقالوا:"إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها"، يعنون: [حتى يخرج] من الأرض المقدسة الجبارون الذين فيها، (١) جبنًا منهم، وجزعًا من قتالهم. وقالوا له: إن يخرج منها هؤلاء الجبارون دخلناها، وإلا فإنا لا نُطيق دخولها وهم فيها، لأنه لا طاقة لنا بهم ولا يَدَان. (٢)
١١٦٦٣ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، أن كالب بن يافنا، أسكت الشعْبَ عن موسى ﷺ فقال لهم: إنا سنعلو الأرض ونرثُها، وإن لنا بهم قوّة! وأما الذين كانوا معه فقالوا: لا نستطيع أن نصل إلى ذلك الشعب، من أجل أنهم أجرأ منا! ثم إن أولئك الجواسيس أخبروا بني إسرائيل الخبر، وقالوا: إنّا مررنا في أرض وحسسناها، فإذا هي تأكل ساكنها، ورأينا رجالهَا جسامًا، ورأينا الجبابرة بني الجبابرة، وكنا في أعينهم مثل الجراد! فأرجفت الجماعة من بني إسرائيل، فرفعوا أصواتهم بالبكاء. فبكى الشعب تلك الليلة، ووسوسُوا على موسى وهارون، (٣) فقالوا لهما: يا ليتنا مِتنا في أرض مصر! وليتنا نموت في هذه البرية، ولم يدخلنا الله هذه الأرض لنقع في الحرب، فتكون نساؤنا وأبناؤنا وأثقالنا غنيمًة! ولو كنا قعودًا في أرض مصر، كان خيرًا لنا وجعل الرجل يقول لأصحابه: تعالوا نجعل علينا رأسًا وننصرف إلى مصر.
* * *

(١) ما بين القوسين زيادة يقتضيها السياق.
(٢) في المطبوعة: "ولا يد"، وفي المخطوطة"ولا يدان" غير منقوطة.
(٣) "وسوس عليه"، انظر تفسيرها في الأثر رقم: ١١٦٩٧ ص: ١٩٥، تعليق: ٧.

صفحة رقم 175
جامع البيان في تأويل آي القرآن
عرض الكتاب
المؤلف
أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري
تحقيق
أحمد شاكر
الناشر
مؤسسة الرسالة
الطبعة
الأولى، 1420 ه - 2000 م
عدد الأجزاء
24
التصنيف
كتب التفسير
اللغة
العربية