
التّذكير بنعم الله على عيسى ابن مريم عليه السّلام
إن حساب الأنبياء والرّسل عليهم السّلام يوم القيامة على مهامهم وأعمالهم يكون بالتذكير بنعم الله عليهم، وسؤالهم عن القيام بواجباتهم، والمراد بذلك أممهم، فيقول لهم مثلا على سبيل التوبيخ والتأديب لأقوامهم: هل فعلتم ما أمرتكم به؟ كما إذا وجه السؤال للبنت الموءودة في جاهلية العرب، والمراد سؤال من وأدها ودفنها حيّة. وقد يوجّه السؤال للأمم مباشرة مثل قوله تعالى:
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) [الأعراف: ٧/ ٦].
وهنا نجد صورة واضحة لسؤال الرّسل، والمراد التعريض بأممهم. قال الله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠٩ الى ١١١]
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [المائدة: ٥/ ١٠٩- ١١١].
والمعنى: تذكّروا واحذروا أيها الناس حين يجمع الله يوم القيامة الرّسل والأمم والخلائق المرسلين إليهم، فيكلم الله الرّسل أولا، والمراد بذلك أقوامهم، فيقول
(٢) في المضجع زمن الرّضاعة.
(٣) من الثلاثين إلى الأربعين وقت القوة.
(٤) تصور وتقدّر.
(٥) الأعمى خلقة.
(٦) أنصار عيسى عليه السّلام.

الحق لهم: ماذا أجابت به الأمم من إيمان وطاعة وإقرار، أو كفر وإنكار واستكبار وعصيان، وهذا السؤال للأنبياء الرّسل إنما هو لتقوم الحجة على الأمم، ويبتدئ حسابهم على نحو واضح بيّن.
فيجيب الرّسل على سبيل الأدب والذّهول بسبب هول الحال وعالم الحساب: لا علم لنا بالنسبة إلى علمك، فأنت تعلم السّر وأخفى، إنك أنت علام الغيوب، أي ما خفي وغاب، مثلما تعلم المشهودات الحاضرة المعروفة لكل إنسان، فليس علمنا بكاف ولا محقق للغاية الكاملة مثل علمك الواسع المحيط بكل شيء.
قال ابن عباس- ورأيه الصواب-: معنى الآية: لا علم لنا إلا علما أنت أعلم به منا.
واذكر يا محمد حين قال الله تعالى لعيسى عليه السّلام معددا معجزاته ونعمه عليه: تذكّر نعمتي عليك وعلى والدتك حين أيّدتك بجبريل روح القدس عليه السّلام، وجعلتك نبيّا داعيا إلى الله في صغرك وكبرك، تكلم الناس في فراش المهد وأنت طفل صغير رضيع، أنطقتك في هذه الحال حيث لا ينطق إنسان، فشهدت ببراءة أمّك وطهارتها، وكان ذلك معجزة بقدرة الله وتيسيره: قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) [مريم: ١٩/ ٣٠- ٣١].
ثم علّمتك التّوراة والإنجيل والعلم النافع الذي هو الحكمة، وجعلتك قادرا على الكتابة والخط والفهم السّديد.
واذكر يا عيسى حين مكّنتك من صناعة الطيور وخلقها، فتصوّر من الطين صورة كصورة الطائر، فتنفخ فيها، فتكون طيرا له روح وحركة بإذن الله وإرادته، لا بقدرتك البشرية، ولكنها معجزة تحققت على يديك، كسائر معجزات الرّسل. والإذن

المتكرر في هذه الآيات معناه التمكين من الله، مع العلم بما يصنع عيسى، بقصد دعوة الناس إلى الإيمان برسالته، لا من أجل المباهاة مثلا.
واذكر حين كنت تشفي المرضى وتبرئ الأكمه (الذي ولد أعمى) والأبرص بإذن الله تعالى، وحين تخرج الموتى من قبورهم أحياء بإذن الله وتقديره. وحين كففت ورددت عنك بني إسرائيل، فحميتك من أذاهم ومكرهم، وأتيتهم بالبراهين القاطعة الدّالة على صدق نبوّتك ورسالتك من الله، فكذّبوك واتّهموك بأنك ساحر، وهمّوا بصلبك وقتلك، فنجّيتك منهم، ورفعتك إلي، وكفيتك شرّهم.
واذكر يا عيسى حين ألهمت أصحابك الحواريين أن يؤمنوا بي وبرسولي عيسى، فأعلنوا إيمانهم قائلين: آمنّا بالله وبرسوله، واشهد بأنّا مسلمون منقادون لله سرّا وعلانية. إن المقصود من التذكير في عالم الحساب يوم القيامة بمعجزات عيسى عليه السّلام، هو الدعوة إلى توحيد الله تعالى، وإظهار عيسى بأنه مجرد بشر رسول موحى إليه من ربّه، والتذكير بتصحيح العقائد الفاسدة، وفهم المعجزة الجارية على يد نبي أو رسول أنها بفعل الله حقيقة، ولكنها تعلن وتظهر في الظاهر على يد الرسول. وهذه نعم ثمان تعدّ معجزات لسيدنا عيسى عليه السّلام لحمل الناس على التّصديق بنبوّته ورسالته.
مائدة عيسى عليه السّلام
إن العقل البشري عاجز محصور محدود، فلا يصح لعقلاء البشر أن يفهموا مقدورات الله العظمى ومعجزات الأنبياء بالمعايير المألوفة المشاهدة بحسب العادة لأن قدرة الله أعظم وأشمل وأكبر من مجرد استيعاب الإنسان العادي، وإذا كان الله تعالى يرزق عباده بالمواد الأولية من الأرزاق التي تحتاج إلى طبخ وطهي أحيانا،