
(يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوب) قال كثيرون من المفسرين، وعلى رأسهم إمام البلاغة الزمخشري: إن هذه الآية غير مقطوعة عن سابقتها من ناحية السياق اللغوي؛ لأن (يَوْمَ) متعلق بقوله سبحانه: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا): أي اتقوا الله تعالى واسمعوا الحق وأنصتوا إليه يوم القيامة يوم يجمع الله الرسل، ويسألهم عن إجابة أقوامهم لدعواتهم الحق، ويصح أن تكون متعلقة بقوله تعالى: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).
والمعنى، والله سبحانه وتعالى لَا يهدي القوم الفاسقين إلى ما فيه نعيم يوم القيامة، يوم يجمع الله الرسل ويسألهم؛ لأن اليوم ليس بيوم تكليف ولكنه يوم جزاء، ويكون الفسق شاملا للكفر؛ لأن الكافر فاسق عن أمر ربه.
وبعض المفسرين، قطع الآية عما قبلها واعتبرها إنذارا مبتدءا، وقالوا إن قوله سبحانه: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ). متعلق بمحذوف مقدر هو - اذكر - لأهل الكتاب يوم يجمع الله الرسل.... في هذا اليوم المشهود يقول الله تعالى مخاطبا رسله الأكرمين بالتجلى عليهم:
(مَاذَا أُجِبْتُمْ). والمعنى أي إجابة أجبتموها؛ وذكر بالبناء للمفعول، ولم يذكر أقوامهم، فلم يقل ولله المثل الأعلى أي إجابة أجاب أقوامكم، تحقيرا

لأولئك الأقوام، إذ جهلوا مع أسباب العلم، وكفروا مع قيام ذرائع الإيمان، ولأن الصلة بينهم وبين رسلهم قد قطعت يوم القيامة، فلا ينالون شرف الاتصال بهم، إذ الاتصال كان للهداية وقد حرموها.
وكانت إجابة الرسل: (لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي إنك أنت وحدك العالم علما ليس فوقه علم؛ لأن التعبير بصيغة المبالغة:
(عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي لكل ما يغيب عن الناس أجمعين، وما يغيب عنهم.
ولكن لماذا نفوا عن أنفسهم العلم، مع أن عندهم بعض العلم؟ وقد أجيب عن ذلك بأنهم علموا أن المقصود استنكار حال من بعثوا إليهم وتوبيخهم، فساروا على مقتضى السياق، وقالوا: لَا علم لنا في هذا بل أنت الأعلم، وقيل في الجواب عن هذا: إنهم كانوا في حال ذهول، فنفوا عن أنفسهم العلم في حال ذهولهم، وقيل في الجواب أيضا: إنهم استحقروا علمهم بجوار علم الله تعالى، وقيل: إن علمهم كان بمن عاصروهم لَا بمن جاء بعدهم، وقد جاء في الكشاف في توضيح الجواب الأول ما لَا يغني عنه التلخيص، فقال - أي الزمخشري - رضي الله عنه:
(فإن قلت: كيف يقولون لَا علم لنا، وقد علموا بما أجيبوا؟ قلت: يعلمون أن الغرض من السؤال توبيخ أعدائهم، فيكلون الأمر إلى علمه وإحاطته بما منوا به منهم وكابدوا من سوء إجابتهم إظهارا للتشكي، واللجأ إلى ربهم في الانتقام منهم وذلك أعظم على الكفرة، وأفتّ في أعضادهم، وأجلب لحسرتهم وسقوطهم في أيديهم، إذا اجتمع توبيخ الله تعالى وتشكي أنبيائه عليهم، ومثاله أن ينكب بعض الخوارج على السلطان وخاصة من خواصه نكبة قد عرفها السلطان، واطلع على كنهها، وعزم على الانتصار له منه، فيجمع بينها، ويقول: ما فعل بك هذا الخارجي، وهو عالم بما فعل به يريد توبيخه وتبكيته، فيقول له: أنت أعلم بما فعل بي، تفويضا للأمر إلى علم سلطانه، واتكالا عليه، وإظهارا للشكاية، وتعظيما لما حل منه، وقيل: من هول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون عن الجواب،

ثم يجيبون بعد ما تثوب إليهم عقولهم بالشهادة على أنفسهم، وقيل معناه: ساقط مع علمك ومغمور؛ لأنك علام الغيوب، ومن علم الخفيات لم تخف عليه الظواهر التي فيها إجابة الأمم لرسلهم، وقيل: لَا علم لنا ما كان منهم بعدنا، وإنما الحكم للخاتمة، وكيف يخفى عليهم أمرهم، وقد رأوهم سود الوجوه موبخين).
ولقد كان الذين أرسل إليهم منهم من حرَّف الدعوة، وجحد بعضها، ومنهم من آمن، ولكن الذين حرفوا من المسيحيين لم يحرفوا الدعوة فقط، بل تكلموا في شخص المسيح عليه السلام، وأخرجوه من البشرية في زعمهم وافتروا له الألوهية، ولذلك خصه الله تعالى بذكر ما يكون له يوم القيامة، وما أجرى من معجزات على يديه:
* * *