وذمّنا شين، هم قوم جهلة ذوو طباع جافة قاسية. وكانوا سبعين رجلا، وكان المنادي منهم الأقرع بن حابس، في رواية الترمذي عن البراء بن عازب، وكان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم نام للقائلة، جاؤوا شفعاء في أسارى بني عنبر، فأعتق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم نصفهم، وفادى على النصف، ولو صبروا لأعتق جميعهم بغير فداء.
وقال مقاتل: كانوا تسعة عشر: منهم قيس بن عاصم، والزّبرقان بن بدر، والأقرع بن حابس، وسويد بن هاشم، وخالد بن مالك، وعطاء بن حابس، والقعقاع بن معبد، ووكيع بن وكيع، وعيينة بن حصن، وهو الأحمق المطاع.
١٢- لو انتظروا خروجه صلّى اللَّه عليه وسلّم، لكان أصلح لهم في دينهم ودنياهم، وكان صلّى اللَّه عليه وسلّم لا يحتجب عن الناس إلا في أوقات يشتغل فيها بمهمات نفسه، فكان إزعاجه في تلك الحالة من سوء الأدب.
١٣- قوله: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ حث على التوبة والإنابة إلى اللَّه تعالى.
الآداب العامة
- ١- وجوب التثبت من الأخبار
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ٦ الى ٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨)
الإعراب:
فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ أَنْ تُصِيبُوا: في تقديره وجهان: إما كراهية أن تصيبوا، أو لئلا تصيبوا. وبِجَهالَةٍ: حال من فاعل تبينوا، أي جاهلين.
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ أن وما بعدها سادّ مسدّ مفعولي اعْلَمُوا.
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ إما مفعول لأجله، أو مصدر مؤكد لما قبله.
البلاغة:
أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ التفات عن الخطاب للغيبة بعد قوله: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ.
بين حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وبين وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ ما يسمى بالمقابلة.
المفردات اللغوية:
فاسِقٌ خارج عن حدود الدين أو الشرع، مأخوذ من قولهم: فسق الرطب: إذا خرج من قشره، والفسوق: الخروج من الشيء والانسلاخ منه بِنَبَإٍ خبر فَتَبَيَّنُوا أي اطلبوا بيان الحقيقة ومعرفة الصدق من الكذب، وقرئ: فتثبتوا من الثبات أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً أي خشية ذلك أو كراهة إصابتكم فَتُصْبِحُوا تصيروا عَلى ما فَعَلْتُمْ من الخطأ بالقوم نادِمِينَ مغتمين غما لازما، متمنين أنه لم يقع.
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ أي فلا تقولوا الباطل، فإن اللَّه يخبره بالحال لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ الذي تخبرون به على خلاف الواقع لَعَنِتُّمْ لوقعتم في العنت وهو الجهد والهلاك والإثم وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ.. استدراك ببيان عذرهم، وهو أنهم من فرط حبهم للإيمان وكراهتهم الكفر، حملهم على ذلك لما سمعوا قول الفاسق وَزَيَّنَهُ حسّنه الْكُفْرَ تغطية نعم اللَّه تعالى بجحودها الْفُسُوقَ الخروج عن الحد الْعِصْيانَ المخالفة أُولئِكَ البعض المتبينون هُمُ الرَّاشِدُونَ الثابتون على دينهم، وهذه جملة معترضة، والخطاب لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، مأخوذ من الرشاد: وهو إصابة الحق واتباع طريق الاستقامة.
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً تعليل لقوله: حَبَّبَ وَكَرَّهَ فإن التحبيب والرشد فضل من اللَّه وإنعام وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوال المؤمنين وما بينهم من التفاضل حَكِيمٌ في إنعامه عليهم بالتوفيق.
سبب النزول: نزول الآية (٦) :
إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ: ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة.
أخرج ابن جرير وأحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن أبي الدنيا وابن مردويه بسند جيد عن ابن عباس: أن الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، بعثه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى بني المصطلق مصدّقا «١»، وكان بينهما إحنة «٢»، فلما سمعوا به ركبوا إليه، فلما سمع بهم خافهم، فرجع فقال: إن القوم همّوا بقتلي، ومنعوا صدقاتهم، فهمّ النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بغزوهم، فبيناهم في ذلك إذ قدم وفدهم، وقالوا: يا رسول اللَّه، سمعنا برسولك، فخرجنا نكرمه، ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة، فاتهمهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وقال: «لتنتهنّ أو لأبعثنّ إليكم رجلا هو عندي كنفسي، يقاتل مقاتلتكم، ويسبي ذراريكم» ثم ضرب بيده على كتف علي رضي اللَّه عنه، فقالوا: نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم.
وقيل: بعث إليهم خالد بن الوليد، فوجدهم منادين بالصلاة، متهجدين، فسلموا إليه الصدقات، فرجع.
ولا خلاف في أن الشخص الذي جاء بالنبإ هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط. والآية وإن وردت لسبب خاص فهي عامة لبيان التثبت، وترك الاعتماد على قول الفاسق، قال الحسن البصري: فو اللَّه لئن كانت نزلت في هؤلاء القوم خاصة، إنها لمرسلة إلى يوم القيامة، ما نسخها شيء.
وأكد الرازي ذلك بأن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد سيء بعيد، لأنه توهّم وظنّ فأخطأ، والمخطئ لا يسمى فاسقا، كيف والفاسق في أكثر المواضع: المراد به
(٢) الإحنة: الحقد، جمع إحن.
من خرج عن ربقة الإيمان، لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ [المنافقون ٦٣/ ٦] وقوله تعالى: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف ١٨/ ٥٠] وقوله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ، كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها [السجدة ٣٢/ ٢٠] «١».
لكن أكثر المفسرين على أن الوليد كان ثقة عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فصار فاسقا بكذبه، والظاهر أنه سمي فاسقا تنفيرا وزجرا عن الاستعجال في الأمر من غير تثبت، فهو متأول ومجتهد، وليس فاسقا على الحقيقة.
المناسبة:
بعد أن أمر اللَّه تعالى المؤمنين بأمرين: وهما طاعة اللَّه تعالى والرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، وخفض الصوت عند الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، لبيان وجوب احترامه، أردفه بأمر ثالث وهو وجوب التثبت من الأخبار، والتحذير من الاعتماد على مجرد الأقوال، منعا من إلقاء الفتنة بين أفراد المؤمنين وجماعتهم. وهذا أدب اجتماعي عام ضروري للحفاظ على وحدة الأمة، واستئصال أسباب المنازعات فيما بينها.
التفسير والبيان:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ، فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ أي يا أيها الذين صدقوا باللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، إن أتاكم فاجر لا يبالي بالكذب بخبر فيه إضرار بأحد، فتبينوا الحقيقة، وتثبتوا من الأمر، ولا تتعجلوا بالحكم حتى تتبصروا في الأمر والخبر لتتضح الحقيقة وتظهر، خشية أن تصيبوا قوما بالأذى، وتلحقوا بهم ضررا لا يستحقونه، وأنتم جاهلون حالهم، فتصيروا على ما حكمتم عليهم بالخطإ نادمين على ذلك، مغتمين له، متمنين عدم وقوعه.
وفي تنكير فاسِقٌ وبِنَبَإٍ دلالة على العموم في الفساق والأنباء، كأنه قال: أيّ فاسق جاءكم بأي نبأ، فتوقفوا وتطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة، ولا تعتمدوا قول الفاسق، لأن من لا يتحامى جنس الفسوق لا يتحامى الكذب الذي هو نوع منه «١».
والآية دالة على أن خبر الواحد العدل حجة، وشهادة الفاسق لا تقبل.
ثم ذكّرهم بوجود رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بينهم ليعظموه ويسألوه، فقال:
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ أي اعلموا أن معكم رسول اللَّه، فعظموه ووقروه وانقادوا لأمره، فإنه أعلم بمصالحكم، ولا تقولوا قولا باطلا، ولا تتسرعوا بالحكم على الناس من غير تبين حقيقة الخبر، ولو أطاعكم في كثير مما تخبرونه به من الأخبار، وتشيرون عليه من الآراء غير الصائبة، لأدى ذلك إلى الوقوع في العنت، وهو التعب والإثم والهلاك، ولكنه لا يطيعكم في غالب ما تريدون قبل اتضاح الأمور، ولا يسارع إلى العمل بما يبلغه قبل النظر والتأمل فيه.
وإنما قال: يُطِيعُكُمْ بلفظ الاستقبال دون: أطاعكم، للدلالة على استمراره في التثبت والتحقق مما ينقل إليه من الأخبار، بدليل قوله: فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ أي في كثير مما عنّ لهم من الآراء والأهواء، فلو أرادوا منه الاستمرار في طاعته لهم، لوقعوا في الإثم والهلاك.
وفي قوله فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ مراعاة لجانب المؤمنين حيث لم ينسب جميع آرائهم إلى الخطأ، وفيه أيضا تعليم حسن وتأديب جميل في باب التخاطب، وإشارة إلى تصويب رأي بعضهم، ولهذا استدرك مشيرا إلى رأي بعضهم في ضرورة التريث إلى أن يتبين أمر بني المصطلق، فقال:
وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ، وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ، أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ أي ولكن اللَّه حبّب أي قرّب الإيمان إلى بعضكم، وإلا لم يحسن الاستدراك ب لكِنَّ فلم يقع في ورطة التسرع في الأخبار، وعدم التثبت فيها، وكانوا أبرياء من اتهام الآخرين، لأن اللَّه جعل الإيمان أحب الأشياء إليكم، وحسّنه بتوفيقه وتثبيته في أعماق قلوبكم، وجعل كلا من الكفر (جحود الخالق وتكذيب الرسل) والفسوق (الخروج عن حدود الدين) والعصيان (المخالفة وعدم الطاعة) مكروها عندكم.
وهؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين استقاموا على طريق الحق، ومقتضى الشرع، وأدب الدين، فلم ينزلقوا في اتهام غيرهم دون تثبت.
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي إن اللَّه حبّب إليكم الإيمان، وكرّه إليكم الأمور الثلاثة المتقدمة تفضلا منه عليكم، وإنعاما من لدنه، واللَّه عليم بكل الأمور الحادثة والمستقبلة، حكيم في تدبير شؤون خلقه، وفي أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات الأحكام التالية:
١- وجوب التثبت من الأخبار المنقولة والروايات المروية، أخذا بالحيطة والحذر، ومنعا من إيذاء الآخرين بخطإ فادح، فيصبح المتسرع في الحكم والتصديق نادما على العجلة وترك التأمل والتأني. لذا
كان نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: «التأني من اللَّه، والعجلة من الشيطان» «١».
٢- في هذه الآية: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ دليل على قبول خبر الواحد إذا
كان عدلا، لأنه إنما أمر المسلم في الآية بالتثبت عند نقل خبر الفاسق، ومن ثبت فسقه، بطل قوله في الأخبار إجماعا، لأن الخبر أمانة، والفسق قرينة يبطلها، فالفسق علة التبين، فإن لم يوجد لم يكن علة. واستثنى الإجماع والدعاوي والإنكار والإقرار لغيره بحق على نفسه وإثبات حق مقصود على الغير أي أمور المعاملات، كأن يقال: أرسل فلان إليك كذا أو هذا مالي، ولو كان المخبر كافرا. أما في الإنشاء على غيره فقال الشافعي وغيره: لا يكون الكافر وليا في النكاح. وقال أبو حنيفة ومالك: يكون وليا، لأنه يلي مالها، فيلي تزويجها، وإذا ولي المال فالنكاح أولى، وهو وإن كان فاسقا في دينه إلا أن غيرته موفّرة، وبها يحمي الحريم. ويرى الحنفية قبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض. والخلاصة: أن مراد الآية في الشهادات وإلزام الحقوق وإثبات أحكام الدين في غير الاعتقاد.
٣- استدل بعضهم بالآية على أن الفاسق أهل للشهادة، وإلا لم يكن للأمر بالتبين فائدة، كما قال الألوسي. ومذهب الحنفية: أن الفاسق لا تقبل شهادته، وإن كان أهلا لها، ولو قضى بها القاضي كان عاصيا، وينفذ قضاؤه «١».
٤- استدل الحنفية بالآية على قبول خبر الواحد المجهول الحال، لأن الآية دلت على أن الفسق شرط وجوب التثبت والتبين، فيقتصر فيه على محل وروده، ويبقى ما وراءه على الأصل، وهو القبول.
٥- في الآية أيضا دلالة على أن خبر الواحد لا يوجب العلم (أي اليقين) بدليل وجوب التثبت فيه، إذ لو كان يوجب العلم بحال، لما احتيج فيه إلى التثبت «٢».
(٢) المرجع السابق: ص ٣٩٩
٦- قال ابن العربي: ومن العجب أن يجوّز الشافعي ونظراؤه إمامة الفاسق. ومن لا يؤتمن على حبّة مال، كيف يصح أن يؤتمن على قنطار دين؟! ومن صلّى خلف الفاسق تجب عليه الإعادة سرا في نفسه، ولكن لا ينبغي لأحد أن يترك الصلاة خلف من لا يرضى من الأئمة «١».
٧- إذا كان الفاسق واليا ينفذ من أحكامه ما وافق الحق، ويردّ ما خالفه، ولا ينقض حكمه الذي أمضاه بحال.
٨- لا خلاف في قبول قول الفاسق إذا كان رسولا عن غيره في قول يبلغه أو شيء يوصله أو إذن يعلمه، وهذا جائز للضرورة الداعية إليه. لكن لا يقبل قوله فيما إذا تعلق بقول الفاسق حق للغير.
٩- استدل بعضهم بالآية على أن من الصحابة من ليس بعدل، لأن اللَّه تعالى أطلق الفاسق على الوليد بن عقبة، فإنها نزلت فيه، ولا يمكن إخراج سبب النزول من اللفظ العام، وهو صحابي بالاتفاق. وقال أكثر العلماء:
الصحابة كلهم عدول.
١٠- الفاسق نوعان: فاسق غير متأول، وهذا لا خلاف في أنه لا يقبل خبره. وفاسق متأول كالجبرية والقدرية، ويقال له: المبتدع بدعة واضحة، وفي هذا خلاف، فمن الأصوليين كالشافعي: من ردّ شهادته وروايته معا، ومنهم من قبلهما وهم جمهور الفقهاء والمحدثين، لأن رد شهادته لتهمة الكذب، والفسق اعتقاد لا يمنع الصدق، وأما الرواية فمن احترز عن الكذب على غير الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، فهو على الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم أشد تحرزا.
١١- إن قضى الفاسق بما يغلب على الظن، كالقضاء بالشاهدين العدلين، لم
يكن ذلك عملا بجهالة، وإنما العمل بجهالة: قبول قول من لا يحصل غلبة الظن بقوله.
١٢- إن وجود الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم في أصحابه ركن تثبت وأناة وتأن، فيمنع التسرع في إصدار الأحكام، فإنه لو قتل القوم الذين سعى بهم الوليد بن عقبة إليه، لكان خطأ، ووقع في العنت (الإثم والمشقة والهلاك) من أراد إيقاع الهلاك بأولئك القوم لعداوة كانت بينه وبينهم. ويكون المراد من قوله تعالى:
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ألا تكذبوا، فإن اللَّه تعالى يعلم رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم أنباءكم، فتفتضحون.
١٣- ذكر اللَّه الإيمان وقابله بأمور ثلاثة كرهها إليهم وهي الكفر والفسوق والعصيان، والإيمان اسم لثلاثة أشياء: التصديق بالجنان، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح (الأعضاء). والكفر: هو الإنكار وهو يقابل الإذعان بالجنان، والفسوق يقابل الإقرار باللسان، والعصيان يقابل العمل البدني، فهو ترك العمل بالطاعات والأحكام الشرعية ويشمل جميع المعاصي وهذا يعني أن المؤمن المتثبت لا يكذب.
١٤- استدلت الأشاعرة بقوله حَبَّبَ وَكَرَّهَ على مسألة خلق الأفعال، أي أن اللَّه تعالى خلق أفعال العباد وذواتهم وصفاتهم وألسنتهم وألوانهم، لا شريك له، لقوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [الصافات ٣٧/ ٩٦].
وهذا رد على القدرية «١» والإمامية والمعتزلة الذين يقولون: إن الإنسان يخلق
إن اللَّه تعالى مجبر للعبد على فعله، وليس لإرادة الإنسان واختياره دخل حقيقي فيها وتقول الثانية: إن العبد خالق لأفعاله، دون أن يكون لله عليه سلطان فيها (الشافي شرح أصول الكافي للشيخ عبد اللَّه المظفر: ٢/ ٢٣٦، والكافي تأليف العلامة محمد بن يعقوب الكليني الرازي).
أفعال نفسه. ويؤولون آية حَبَّبَ | وَكَرَّهَ على اللطف والتوفيق. |
وفي تسميتهم بالراشدين إشارة إلى أنهم أقاموا على اتباع أمر الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، والتزموا إرشاده، وعرفوا مقامه ومكانه بينهم، فاستحقوا الرشد، وكانوا راشدين. وفيه تعريض بالفريق الآخر حيث ابتعدوا عما يوصلهم إلى الرشد.
١٦- إن اللَّه تعالى عليم بكل شيء، يعلم من يتحرى الخير ومن لا يتحراه، ومن يريد الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم على ما لا تقتضي به الحكمة ومن لا يريده، وهو فوق هذا يعلم الأشياء، ويعلم الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم بها، ويأمره بما تقضي به الحكمة، فيجب الوقوف عند أمره، واجتناب الاقتراح عليه.
١٧- كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في دعائه يدعو دائما بمضمون الآية [٧] أخرج الإمام أحمد والنسائي عن أبي رفاعة الزرقي عن أبيه قال: لما كان يوم أحد، وانكفأ المشركون،
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «استووا حتى أثني على ربي عز وجل، فصاروا خلفه صفوفا، فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم:
اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرّب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت.
اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول. صفحة رقم 233