وذكر الخفاجي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعث إلى قوم من العرب هم بنو العنبر سرية أميرها عيينة بن حصن فهربوا وتركوا النساء والذراري فسباهم وقدم بهم عليه عليه الصلاة والسلام فجاء رجالهم راجين إطلاق الأسارى فنادوا من وراء الحجرات فخرج صلّى الله عليه وسلّم فأطلق النصف وفادى الباقي، وظاهر كلامه أنهم ليسوا من بني تميم وإن كانت هذه السرية متحدة مع السرية التي أشار إليها الواقدي فيما تقدم، ويقال: إن عيينة في الكلامين هو عيينة بن حصن بن بدر إلا أنه نسب هناك إلى جده وهنا إلى أبيه كان ذلك الكلام ظاهرا في أن القوم كانوا من بني تميم لا أناسا آخرين، وفي القاموس العنبر أبو حي من تميم فبنو العنبر عليه منهم فلم يخرج الأمر عنهم.
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أي ولو ثبت صبرهم وانتظارهم حتى تخرج لكان الصبر خيرا له من الاستعجال لما فيه من حفظ الأدب وتعظيم النبي صلّى الله عليه وسلّم الموجبين للثناء والثواب أو لذلك والإسعاف بالمسئول على أوفق وجه وأوقعه عندهم بناء على حديث الأسارى بأن يطلق عليه الصلاة والسلام الجميع من غير فداء، فأن المفتوحة المؤولة بالمصدر هنا فاعل فعل مقدر وهو ثبت كما اختاره المبرد والقرينة عليه معنى الكلام، فإن أن تدل على الثبوت وهو إنما يكون في الماضي حقيقة ولذا يقدر الفعل ماضيا. وضمير (كان) للمصدر الدال عليه صَبَرُوا كما في قولك: من كذب كان شرا له أي الكذب ومذهب سيبويه أن المصدر في موضع المبتدأ فقيل:
خبره مقدر أي لو صبرهم ثابت وقيل: لا خبر له وأنت تعلم أن في تقدير الفعل إبقاء لَوْ على ظاهرها من دخولها على الفعل فإنها في الأصل شرطية مختصة به، وجوز كون ضمير (كان) لمصدر الفعل المقدر أي لكان ثبوت صبرهم، وصنيع الزمخشري يقتضي أولويته.
وأوثرت حَتَّى هنا على- إلى- لأنها موضوعة لما هو غاية في نفس الأمر ويقال له الغاية المضروبة أي المعينة وإلى لما هو غاية في نفس الأمر أو بجعل الجاعل، وإليه يرجع قول المغاربة وغيرهم: إن مجرور حتى دون مجرور إلى لا بد من كونه آخر جزء نحو أكلت السمكة حتى رأسها أو ملاقيا له نحو سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر: ٥] ولا يجوز سهرت البارحة حتى ثلثيها أو نصفها فيفيد الكلام معها أن انتظارهم إلى أن يخرج صلّى الله عليه وسلّم أمر لازم
ليس لهم أن يقطعوا أمرا دون الانتهاء إليه، فإن الخروج لما جعله الله تعالى غاية كان كذلك في الواقع، وإلى هذا ذهب الزمخشري، وتوهم ابن مالك أنه لم يقل به أحد غيره، واعترض عليه بقوله:
عينت ليلة فما زلت حتى | نصفها راجيا فعدت يؤوسا |
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا
أخرج أحمد وابن أبي الدنيا والطبراني وابن منده وابن مردويه بسند جيد عن الحارث بن أبي ضرار الخزاعي قال: قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدعاني إلى الإسلام فدخلت فيه وأقررت به ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها وقلت: يا رسول الله أرجع إلى قومي فادعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي جمعت زكاته وترسل إلي يا رسول الله رسولا لإبان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبعث إليه احتبس الرسول فلم يأت فظن الحارث أن قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام فدعا سروات قومه فقال لهم: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان وقت لي وقتا يرسل إلى رسوله ليقبض ما كان عندنا من الزكاة وليس من رسول الله عليه الصلاة والسلام الخلف ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة فانطلقوا بنا نأتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الوليد بن عقبة بن أبي معيط وهو أخو عثمان رضي الله تعالى عنه لأمه إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة فلما أن سار الوليد إلى أن بلغ بعض الطريق فرق فرجع فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي فضرب صفحة رقم 296
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم البعث إلى الحارث فأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبله الحارث وقد فصل عن المدينة قالوا: هذا الحارث فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله قال: لا والذي بعث محمدا بالحق ما رأيته بتة ولا أتاني فلما دخل الحارث على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟ قال: لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا رآني ولا أقبلت إلا حين احتبس على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خشية أن يكون سخطة من الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فنزل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ إلى قوله سبحانه: حَكِيمٌ
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال: أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا نبي الله إن بني فلان حيا من أحياء العرب وكان في نفسه عليهم شيء وكان حديث عهد بالإسلام قد تركوا الصلاة وارتدوا وكفروا بالله تعالى فلم يعجل رسول الله عليه الصلاة والسلام ودعا خالد بن الوليد فبعثه إليهم ثم قال: ارمقهم عند الصلوات فإن كان القوم قد تركوا الصلاة فشأنك بهم وإلا فلا تعجل عليهم فدنا منهم عند غروب الشمس فكمن حتى يسمع الصلاة فرمقهم فإذا هو بالمؤذن قد قام عند غروب الشمس فإذن ثم أقام الصلاة فصلوا صلاة المغرب فقال خالد: ما أراهم إلا يصلون فلعلهم تركوا صلاة غير هذه ثم كمن حتى إذا جنح الليل وغاب الشفق أذن مؤذنهم فصلوا فقال: لعلهم تركوا صلاة أخرى فكمن حتى إذا كان في جوف الليل تقدم حتى أطل الخيل بدورهم فإذا القوم تعلموا شيئا من القرآن فهم يتهجدون به من الليل ويقرؤونه ثم أتاهم عند الصبح فإذا المؤذن حين طلع الفجر قد أذن وأقام فقاموا وصلوا فلما انصرفوا وأضاء لهم النهار إذا هم بنواصي الخيل في ديارهم فقالوا: ما هذا؟ قالوا: خالد بن الوليد قالوا: يا خالد ما شأنك؟ قال: أنتم والله شأني أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقيل له: إنكم تركتم الصلاة وكفرتم بالله تعالى فجثوا يبكون فقالوا: نعوذ بالله تعالى أن نكفر أبدا فصرف الخيل وردها عنهم حتى أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الآية
قال الحسن: فو الله لئن كانت نزلت في هؤلاء القوم خاصة إنها لمرسلة إلى يوم القيامة ما نسخها شيء، والرواية السابقة أصح وأشهر، وكلام صاحب الكشف مصرح بأن بعث خالد بن الوليد كان في قضية الوليد بن عقبة، وأن النبي عليه الصلاة والسلام بعثه إلى أولئك الحي من خزاعة بعد رجوع الوليد وقوله ما قال، والقائل بذلك قال: إنهم سلموا إليه الصدقات فرجع، والخطاب بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شامل للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين من أمته الكاملين منهم محاسن آداب وغيرهم، وتخصيص الخطاب بحسب ما يقع من الأمر بعده إذ يليق بحال بعضهم لا يخرجه عن العموم لوجوده فيما بينهم فلا تغفل، والفاسق الخارج عن حجر الشرع من قولهم: فسق الرطب إذا خرج عن قشرة، قال الراغب: والفسق أعم من الكفر ويقع بالقليل من الذنوب والكثير لكن تعورف فيما كانت كثيرة، وأكثر ما يقال الفاسق لمن التزم حكم الشرع وأقر به ثم أخل بجميع أحكامه أو ببعضها، وإذا قيل للكافر الأصلي فاسق فلأنه أخل بحكم ما ألزمه العقل واقتضته الفطرة.
ووصف الإنسان به- على ما قال ابن الأعرابي- لم يسمع في كلام العرب، والظاهر أن المراد به هنا المسلم المخل بشيء من أحكام الشرع أو المروة بناء على مقابلته بالعدل وقد اعتبر في العدالة عدم الإخلال بالمروءة، والمشهور الاقتصار في تعريفه على الإخلال بشيء من أحكام الشرع فلا تغفل، والتبين طلب البيان والتعرف وقريب منه التثبت كما في قراءة ابن مسعود وحمزة، والكسائي «فتثبتوا» وهو طلب الثبات والتأني حتى يتضح الحال
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال يوم نزلت الآية: التثبت من الله تعالى والعجلة من الشيطان»
وتنكير فاسِقٌ للتعميم لأنه نكرة في سياق الشرط وهي كالنكرة في سياق النفي تفيد العموم كما قرر في الأصول وكذا نبأ، وهو- كما في القاموس- الخبر، وقال الراغب: لا يقال للخبر في الأصل نبأ حتى يكون ذا فائدة عظيمة
يحصل به علم أو غلبة ظن، وقوله تعالى: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا تنبيه على أنه إذا كان الخبر شيئا عظيما وما له قدر فحقه أن يتوقف فيه وإن علم أو غلب صحته على الظن حتى يعاد النظر فيه ويتبين فضل تبين، ولما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والذين معن بالمنزلة التي لا يجسر أحد أن يخبرهم بكذب وما كان يقع مثل ما فرط من الوليد إلا في الندرة قيل: إِنْ جاءَكُمْ بحرف الشك، وفي النداء ب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا دلالة على أن الإيمان إذا اقتضى التثبت في نبأ الفاسق فأولى أن يقتضي عدم الفسق، وفي إخراج الفاسق عن الخطاب ما يدل على تشديد الأمر عليه من باب «لا يزني الزاني وهو مؤمن» والمؤمن لا يكذب، واستدل بالآية على أن الفاسق أهل للشهادة وإلا لم يكن للأمر بالتبين فائدة، ألا ترى أن العبد إذا شهد ترد شهادته ولا يتثبت فيها خلافا للشافعي. وعلى جواز قبول خبر العدل الواحد، وقرره الأصوليون بوجهين: أحدهما أنه لو لم يقبل خبره لما كان عدم قبوله معللا بالفسق، وذلك لأن خبر الواحد على هذا التقدير يقتضي عدم القبول لذاته وهو كونه خبر واحد فيمتنع تعليل عدم قبوله بغيره لأن الحكم المعلل بالذات لا يكون معللا بالغير إذ لو كان معللا به اقتضى حصوله به مع أنه حاصل قبله لكونه معللا بالذات وهو باطل لأنه تحصيل للحاصل أو يلزم توارد علتين على معلول واحد في خبر الفاسق، وامتناع تعليله بالفسق باطل للآية فإن ترتب الحكم على الوصف المناسب يغلب على الظن أنه علة له والظن كاف هنا لأن المقصود هو العمل فثبت أن خبر الواحد ليس مردودا وإذا ثبت ذلك ثبت أنه مقبول يعمل به. ثانيهما أن الأمر بالتبين مشروط بمجيء الفاسق ومفهوم الشرط معتبر على الصحيح فيجب العمل به إذا لم يكن فاسقا لأن الظن يعمل به هنا، والقول بالواسطة منتف والقول بأنه يجوز اشتراك أمور في لازم واحد فيعلق بكل منهما بكلمة إن مع أنه لا يلزم من انتفاء ذلك الملزوم انتفاء اللازم غير متوجه لأن الشرط مجموع تلك الأمور وكل واحد منها لا يعد شرطا على ما قرر في الأصول. نعم قال ابن الحاجب وعضد الدين: قد استدل من قبلنا على وجوب العمل بخبر الواحد بظواهر لا تفيد إلا الظن ولا يكفي في المسائل العلمية وذكرا من ذلك الآية المذكورة، ثم إن للقائلين بوجوب العمل به اختلافا كثيرا مذكورا في محله.
واستدل الحنفية بها على قبول خبر المجهول الذي لا تعلم عدالته وعدم وجوب التثبت لأنها دلت على أن الفسق شرط وجوب التثبت فإذا انتفى الفسق انتفى وجوبه وهاهنا قد انتفى الفسق ظاهرا ونحن نحكم به فلا يجب التثبت.
وتعقب بأنا لا نسلم أنه هاهنا انتفى الفسق بل انتفى العلم به ولا يلزم من عدم العلم بالشيء عدمه والمطلوب العلم بانتفائه ولا يحصل إلا بالخبرة به أو بتزكية خبير به له، قال العضد: إن هذا مبني على أن الأصل الفسق أو العدالة والظاهر أنه الفسق لأن العدالة طارئة ولأنه أكثر. واستدل بها على أن من الصحابة رضي الله تعالى عنهم من ليس بعدل لأن الله تعالى أطلق الفاسق على الوليد بن عقبة فيها، فإن سبب النزول قطعي الدخول وهو صحابي بالاتفاق فيرد بها على من قال: إنهم كلهم عدول ولا يبحث عن عدالتهم في رواية ولا شهادة، وهذا أحد أقوال في المسألة وقد ذهب إليه الأكثر من العلماء السلف والخلف. وثانيها أنهم كغيرهم فيبحث عن العدالة فيهم في الرواية والشهادة إلا من يكون ظاهرها أو مقطوعها كالشيخين. وثالثها أنهم عدول إلى قتل عثمان رضي الله تعالى عنه ويبحث عن عدالتهم من حيث قتله لوقوع الفتن من حينئذ وفيهم الممسك عن خوضها. ورابعها أنهم عدول إلا من قاتل عليا كرم الله تعالى وجهه لفسقه بالخروج على الإمام الحق وإلى هذا ذهبت المعتزلة.
والحق ما ذهب إليه الأكثرون وهم يقولون: إن من طرأ له منهم قادح ككذب أو سرقة أو زنا عما بمقتضاه في حقه إلا أنه لا يصر على ما يخل بالعدالة بناء على ما جاء في مدحهم من الآيات والأخبار وتواتر من محاسن الآثار، فلا
يسوغ لنا الحكم على من ارتكب منهم مفسقا بأنه مات على الفسق. ولا ننكر أن منهم من ارتكب في حياته مفسقا لعدم القول بعصمتهم وأنه كان يقال له قبل توبته فاسق لكن لا يقال باستمرار هذا الوصف فيه ثقة ببركة صحبة النبي صلّى الله عليه وسلّم ومزيد ثناء الله عز وجل عليهم كقوله سبحانه وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: ١٤٣] أي عدولا وقوله سبحانه: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: ١١٠] إلى غير ذلك، وحينئذ إن أريد بقوله: إن من الصحابة من ليس بعدل ان منهم من ارتكب في وقت ما ما ينافي العدالة فدلالة الآية عليه مسلمة لكن ذلك ليس محل النزاع، وإن أريد به أن منهم من استمر على ما ينافي العدالة فدلالة الآية عليه غير مسلمة كما لا يخفى فتدبر فالمسألة بعد تتحمل الكلام وربما تقبل زيادة قول خامس فيها. هذا ثم اعلم أن الفاسق قسمان: فاسق غير متأول وهو ظاهر ولا خلاف في أنه لا يقبل خبره وفاسق متأول كالجبري والقدري ويقال له المبتدع بدعة واضحة، فمن الأصوليين من رد شهادته وروايته للآية ومنهم الشافعي والقاضي، ومنهم من قبلهما، أما الشهادة فلأن ردها لتهمة الكذب والفسق من حيث الاعتقاد لا يدل عليه بل هو إمارة الصدق لأن موقعه فيه تعمقه في الدين، والكذب حرام في كل الأديان لا سيما عند من يقول بكفر الكاذب أو خروجه من الإيمان وذلك يصده عنه إلا من يدين بتصديق المدعي المتحلي بحليته كالخطابية، وكذا من اعتقد بحجية الإلهام،
وقد قال عليه الصلاة والسلام: نحن نحكم بالظاهر
وأما الرواية فلأن من احترز عن الكذاب على غير الرسول صلّى الله عليه وسلّم فاحترازه من الكذب عليه صلّى الله عليه وسلّم أولى إلا من يعتقد حل وضع الأحاديث ترغيبا أو ترهيبا كالكرامية أو ترويجا لمذهبه كابن الراوندي، وأصحابنا الحنفية قبلوا شهادتهم لما مر دون روايتهم إذا دعوا الناس إلى هواهم، وعلى هذا جمهور أئمة الفقه والحديث لأن الدعوة إلى ذلك داعية إلى النقول فلا يؤتمنون على الرواية ولا كذلك الشهادة. ورجح ما ذهب إليه الشافعي والقاضي بأن الآية تقتضيه والعمل بها أولى من العمل بالحديث لتواترها وخصوصها، والعام يحتمل التخصيص ولأنها لم تخصص إذ كل فاسق مردود، والحديث خص منه خبر الكافر.
وأجيب بأن مفهومها أن الفسق هو المقتضي للتثبت فيراد به ما هو إمارة الكذب لا ما هو إمارة الصدق فافهم، وليس من الفسق نحو اللعب بالشطرنج من مجتهد يحله أو مقلد له صوبنا أو خطأنا لوجوب العمل بموجب الظن ولا تفسيق بالواجب. وحد الشافعي عليه الرحمة شارب النبيذ ليس لأنه فاسق بل لزجره لظهور التحريم عنده، ولذا قال: أحده وأقبل شهادته، وكذا الحد في شهادة الزنا لعدم تمام النصاب لا يدل على الفسق بخلافه في مقام القذف فليحفظ.
أَنْ تُصِيبُوا تعليل للأمر بالتبين أن فتبينوا كراهة أن تصيبوا أو لئلا تصيبوا قَوْماً أي قوم كانوا بِجَهالَةٍ ملتبسين بجهالة لحالهم، ومآله جاهلين حالهم، فَتُصْبِحُوا فتصيروا بعد ظهور براءتهم عما رموا به عَلى ما فَعَلْتُمْ في حقهم نادِمِينَ مغتمين غما لازما متمنين أنه لم يقع، فإن الندم الغم على وقوع شيء مع تمني عدم وقوعه، ويشعر باللزوم وكذا سائر تصاريف حروفه وتقاليبها كمدن بمعنى لزم الإقامة ومنه المدينة وأدمن الشيء أدام فعله، وزعم بعضهم أن في الآية إشارة إلى أنه يجب على الإنسان تجديد الندم كلما ذكر الذنب ونسب إلى الزمخشري وليس بشيء، وفي الكشف التحقيق أن الندم غم خاص ولزومه قد يقع لقوته في أول الأمر وقد يكون لعدم غيبة موجبه عن الخاطر، وقد يكون لكثرة تذكره ولغير ذلك من الأسباب، وان تجديد الندم لا يجب في التوبة لكن التائب الصادق لا بد له من ذلك.
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ عطف على ما قبله، وأَنَّ بما في حيزها ساد مسد مفعولي اعْلَمُوا باعتبار ما قيد به من الحال وهو قوله عز وجل: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ أي لوقعتم في الجهد والهلاك فإنه حال من أحد الضميرين في فِيكُمْ الضمير المستتر المرفوع وهو ضمير الرسول أو البارز المجرور وهو ضمير المخاطبين، وتقديم خبر أن للحضر المستتبع زيادة التوبيخ، وصيغة المضارع للاستمرار- فلو- لامتناع استمرار طاعته
عليه الصلاة والسلام لهم في كثير مما يعن لهم من الأمور، وكون المراد استمرار الامتناع نظير قيل في قوله تعالى:
وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: ٣٨ وغيرها] من أن المراد استمرار النفي ليس بذاك، وفي الكلام إشعار بأنهم زينوا بين يدي الرسول صلّى الله عليه وسلّم الإيقاع بالحرث وقومه وقد أريد أن ينعى عليهم ذلك بتنزيلهم منزلة من لا يعلم أنه عليه الصلاة والسلام بين أظهرهم فقيل: واعلموا أنه فيكم لا في غيركم كأنهم حسبوه لعدم تأدبهم وما بدر منهم الفرطة بين أظهر أقوام آخرين كائنا على حال يجب عليكم تغييرها أو وأنتم على كذلك وهو ما تريدون من استتباع رأيه لرأيكم وطاعته لكم مع أن ذلك تعكيس وموجب لوقوعكم في العنت، وفيه مبالغات من أوجه: أحدها إيثار لَوْ ليدل على الفرض والتقدير وأن ما بدر من من التزيين كان من حقه أن يفرض كما يفرض الممتنعات، والثاني ما في العدول إلى المضارع من تصوير ما كانوا عليه وتهجينه من التوبيخ بإرادة استمرار ما حقه أن يكون مفروضا فضلا عن الوقوع، والثالث ما في العنت من الدلالة على أشد المحذور فإنه الكسر بعد الجبر والرمز الخفي على أنه ليس بأول بادرة. والرابع ما في تعميم الخطاب والحري به غير الكمل من التمريض ليكون أردع لمرتكبه وأزجر لغيره كأنه قيل: يا أيها الذين آمنوا تبينوا إن جاءكم فاسق ولا تكونوا أمثال هؤلاء ممن استفزه النبأ قبل تعرف صدقه ثم لا يقنعه ذلك حتى يريد أن يستتبع رأي من هو المتبوع على الإطلاق فيقع هو ويقع غيره في العنت والإرهاق واعلموا جلالة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتفادوا عن أشباه هذه الهنات، وقوله عز وجل:
وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ استدراك على ما يقتضيه الكلام فان لَوْ يُطِيعُكُمْ خطاب كما سمعت للبعض الغير الكمل عمم للفوائد المذكورة والمحبب إليهم الإيمان هم الكمل فكأنه قيل: ولكن الله حبب إلى بعضكم الإيمان وعدل عنه لنداء الصفة به، وعليه قول بعض المفسرين هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، والإشارة بقوله تعالى أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ إليهم، وفيه نوع من الالتفات، والخطاب فيه للرسول صلّى الله عليه وسلّم كأنه تعالى يبصره عليه الصلاة والسلام ما هم فيه من سبق القدم في الرشاد أي إصابة الطريق السوي، فحاصل المعنى أنتم على الحال التي ينبغي لكم تغييرها وقد بدر منكم ما بدر ولكن ثم جمعا عما أنتم عليه من تصديق الكاذب وتزيين الإيقاع بالبريء وإرادة أن يتبع الحق أهواءكم برآء لأن الله تعالى حبب إليهم الإيمان إلخ، وهذا أولى من جعل لَوْ يُطِيعُكُمْ إلخ في معنى ما حبب إليهم الإيمان تغليظا لأن من تصدى للإيقاع بالبريء بين يدي الرسول صلّى الله عليه وسلّم وجسر على ارتكاب تلك العظيمة لم يكن محبوبا إليه الإيمان وإن كان ذلك أيضا سديد الشيوع التصرف في الأواخر في مثله، وجعله بعضهم استدراكا ببيان عذرهم فيما بدر منهم، ومآل المعنى لم يحملكم على ما كان منكم اتباع الهوى ومحبة متابعة النبي صلّى الله عليه وسلّم لآرائكم بل محبة الإيمان وكراهة الكفر هي الداعية لذلك، والمناسب لما بعد ما ذكرناه.
وجوز غير واحد من المعربين أن لَوْ يُطِيعُكُمْ استئناف على معنى أنه لما قيل وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ دالا على أنهم جاهلون بمكانه عليه الصلاة والسلام مفرطون فيما يجب من تعظيم شأنه أعلى الله شأنه اتجه لهم أن يسألوا ماذا فعلوا حتى نسبوا إلى التفريط وماذا ينتج من المضرة؟ فأجيبوا بما يصرح بالنتيجة لخفائها ويومىء إلى ما فيها من المعرة من وقوعهم في العنت بسبب استتباع من هو في علو المنصب اقتداء يتخطى أعلى المجرة، وهو حسن لولا أن وَاعْلَمُوا كلام من تتمة الأول كما يؤذن به العطف لا وارد تقريعا على الاستقلال فيأبى التقدير المذكور لتعين موجب التفريط، وأيضا يفوت التعريض وإن ذلك بادرة من بعضهم في قصة ابن عقبة ويتنافر الكلام، هذا وَكَرَّهَ يتعدى بنفسه إلى واحد وإذا شدد زاد له آخر لكنه ضمن في الآية معنى التبغيض فعومل معاملته وحسنه
مقابلته لحبب أو نزل إِلَيْكُمُ منزلة مفعول آخر، والْكُفْرَ تغطية نعم الله تعالى بالجحود، والْفُسُوقَ الخروج عن القصد ومأخذه ما تقدم، وَالْعِصْيانَ الامتناع عن الانقياد، وأصله من عصت النواة صلبت واشتدت، والكلام أعني قوله تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ إلخ ثناء عليهم بما يردف التحبيب المذكور والتكريه من فعل الأعمال المرضية والطاعات والتجنب عن الأفعال القبيحة والسيئات على سبيل الكناية ليقع التقابل موقعه على ما سلف آنفا، وقيل:
الداعي لذلك ما يلزم على الظاهر من المدح بفعل الغير مع أن الكلام مسوق للثناء عليهم وهو في إيثارهم الإيمان وإعراضهم عن الكفر وأخويه لا في تحبيب الله تعالى الإيمان لهم وتكريهه سبحانه الكفر وما معه إليهم. وأنت تعلم أن الثناء على صفة الكمال اختيارية كانت أولا شائع في عرف العرب والعجم، والمنكر معاند على أن ذلك واقع على الجماد أيضا، والمسلم الضروري أنه لا يمدح الرجل بما لم يفعله على أنه فعله، وإليه الإشارة في قوله تعالى: وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا [آل عمران: ١٨٨] أما أنه لا يمدح به على أنه صفة له فليس بمسلم فلا تغفل فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً تعليل للأفعال المستندة إليه عز وجل في قوله سبحانه: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلخ وما في البين اعتراض، وجوز كونه تعليلا للراشدين، وصح النصب على القول باشتراط اتحاد الفاعل أي من قام به الفعل وصدر عنه موجدا له أولا لما أن الرشد وقع عبارة عن التحبيب والتزيين والتكريه مسندة إلى اسمه تبارك اسمه فإنه لو قيل مثلا حبب إليكم الإيمان فضلا منه وجعل كناية عن الرشد لصح فيحسن أن يقال: أولئك هم الراشدون فضلا ويكون في قوة أولئك هم المحببون فضلا أو لأن الرشد هاهنا يستلزم كونه تعالى شأنه مرشدا إذ هو مطاوع أرشد، وهذا نظير ما قالوا من أن الإراءة تستلزم رؤية في قوله سبحانه: يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً [الرعد: ١٢] فيتحد الفاعل ويصح النصب، وجوز كونه مصدرا لغير فعله فهو منصوب إما بحبب أو بالراشدين فإن التحبيب والرشد من فضل الله تعالى وانعامه» وقيل:
مفعول به لمحذوف أي يبتغون فضلا وَاللَّهُ عَلِيمٌ مبالغ في العلم فيعلم أحوال المؤمنين وما بينهم من التفاضل حَكِيمٌ يفعل كل ما يفعل من أفضال وإنعام وغيرهما بموجب الحكمة.
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا أي تقاتلوا، وكان الظاهر. اقتتلتا بضمير التثنية كما في قوله تعالى:
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما أي بالنصح وإزالة الشبهة إن كانت والدعاء إلى حكم الله عز وجل، والعدول إلى ضمير الجمع لرعاية المعنى فإن كل طائفة من الطائفتين جماعة فقد روعي في الطائفتين معناهما أولا ولفظهما ثانيا على عكس المشهور في الاستعمال، والنكتة في ذلك ما قيل: إنهم أولا في حال القتال مختلطون فلذا جمع أولا ضميرهم وفي حال الصلح متميزون متفارقون فلذا ثني الضمير. وقرأ ابن أبي عبلة «اقتتلتا» بضمير التثنية والتأنيث كما هو الظاهر. وقرأ زيد بن علي، وعبيد بن عمير «اقتتلا» بالتثنية والتذكير باعتبار أن الطائفتين فريقان فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما تعدت وطلبت العلو بغير الحق عَلَى الْأُخْرى ولم تتأثر بالنصيحة فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ أي ترجع إِلى أَمْرِ اللَّهِ أي إلى حكمه أو إلى ما أمر سبحانه به وقرأ الزهري حتى «تفي» بغير همز وفتح الياء وهو شاذ كما قالوا في مضارع جاء يجيء بغير همز فإذا أدخلوا الناصب فتحوا الياء أجروه مجرى بفي مضارع وفي شذوذا، وفي تعليق القتال بالموصول للإشارة إلى علية ما في حيز الصلة أي فقاتلوها لبغيها فَإِنْ فاءَتْ أي رجعت إلى أمره تعالى وأقلعت عن القتال حذرا من قتالكم فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ بفصل ما بينهما على حكم الله تعالى ولا تكتفوا بمجرد متاركتهما عسى أن يكون بينهما قتال في وقت آخر، وتقييد الإصلاح هنا بالعدل لأنه مظنة الحيف لوقوعه بعد المقاتلة وقد أكد ذلك بقوله تعالى: وَأَقْسِطُوا أي اعدلوا في كل ما تأتون وما تذرون إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ فيجازيهم أحسن الجزاء. وفي الكشاف في الإصلاح بالعدل والقسط تفاصيل، إن كانت الباغية من قلة العدد بحيث لا منعة لها ضمنت
بعد الفيئة ما جنت، وأن كانت كثيرة ذات منعة وشوكة لم تضمن إلا عند محمد بن الحسن فإنه كان يفتي بأن الضمان يلزمها إذا فاءت، وأما قبل التجمع والتجند أو حين تتفرق عند وضع الحرب أوزارها فما جنته ضمنته عند الجميع فمحمل الإصلاح بالعدل على مذهب محمد واضح منطبق على لفظ التنزيل، وعلى قول غيره وجهه أن يحمل على كون الفئة قليلة العدد، والذي ذكروا من أن الفرض إماتة الضغائن وسل الأحقاد دون ضمان الجنايات ليس بحسن الطباق للمأمور به من أعمال العدل ومراعاة القسط. قال في الكشف، لأن ما ذكروه من إماتة الأضغان داخل في قوله تعالى: فَإِنْ فاءَتْ لأنه من ضرورات التوبة، فاعمال العدل والقسط إنما يكون في تدارك الفرطات ثم قال: والأولى على قول الجمهور أن يقال: الإصلاح بالعدل أنه لا يضمن من الطرفين فإن الباغي معصوم الدم والمال مثل العادل لا سيما وقد تاب فكما لا يضمن العادل المتلف لا يضمنه الباغي الفائي، هذا مقتضى العدل لا تخصيص الضمان بطرف دون آخر. والآية نزلت في قتال وقع بين الأوس والخزرج.
أخرج أحمد والبخاري ومسلم وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أنس قال: قيل للنبي صلّى الله عليه وسلّم لو أتيت عبد الله بن أبي فانطلق إليه وركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون وهي أرض سبخة فلما انطلق إليه قال: إليك عني فو الله لقد آذاني ريح حمارك فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أطيب ريحا منك فغضب لعبد الله رجال من قومه فغضب لكل منهما أصحابه فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال فأنزل الله تعالى فيهم وَإِنْ طائِفَتانِ الآية
وفي رواية أن النبي عليه الصلاة والسلام كان متوجها إلى زيارة سعد بن عبادة في مرضه فمر على عبد الله بن أبي بن سلول فقال ما قال فرد عليه عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه نغضب لكل أصحابه فتقاتلوا فنزلت فقرأها صلّى الله عليه وسلّم عليهم فاصطلحوا
وكان ابن رواحة خزرجيا وابن أبي أوسيا.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال: كان رجل من الأنصار يقال له عمران تحته امرأة يقال لها أم زيد وأنها أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها وجعلها في علية له لا يدخل عليها أحد من أهلها وأن المرأة بعثت إلى أهلها فجاء قومها فأنزلوها لينطلقوا بها وكان الرجل قد خرج فاستعان أهله فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وأهلها فتدافعوا واجتلدوا بالنعال فنزلت فيهم هذه الآية وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فبعث إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأصلح بينهم
وقاموا إلى أمر الله عز وجل، والخطاب فيها على ما في البحر لمن له الأمر وروي ذلك عن ابن عباس وهو للوجوب فيجب الإصلاح ويجب قتال الباغية ما قاتلت وإذا كفت وقبضت عن الحرب تركت،
وجاء في حديث رواه الحاكم. وغيره حكمها إذا تولت قال عليه الصلاة والسلام: «يا ابن أم عبد هل تدري كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة؟ قال: الله تعالى ورسوله أعلم قال: لا يجهز على جريحها ولا يقتل أسيرها ولا يطلب هاربها ولا يقسم فيؤها»
وذكروا أن الفئتين من المسلمين إذا اقتتلا على سبيل البغي منهما جميعا فالواجب أن يمشي بينهما بما يصلح ذات البين ويثمر المكافة والموادعة فإن لم يتحاجزا ولم يصطلحا وأقاما على البغي صيرا إلى مقاتلتهما، وأنهما إذا التحم بينهما القتال لشبهة دخلت عليهما وكلتاهما عند أنفسهما محقة فالواجب إزالة الشبهة بالحجج النيرة والبراهين القاطعة واطلاعهما على مراشد الحق فإن ركبتا متن اللجاج ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا به من اتباع الحق بعد وضوحه فقد لحقتا باللتين اقتتلا على سبيل البغي منهما جميعا، والتصدي لإزالة الشبهة في الفئة الباغية إن كانت لازم قبل المقاتلة، وقيل: الخطاب لمن يتأتى منه الإصلاح ومقاتلة الباغي فمتى تحقق البغي من طائفة كان حكم إعانة المبغي عليه حكم الجهاد، فقد أخرج الحاكم وصححه. والبيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ما وجدت في نفسي من شيء ما وجدت في نفسي من هذه الآية يعني وَإِنْ طائِفَتانِ إلخ إني لم أقاتل هذه
الفئة الباغية كما أمرني الله تعالى- يعني بها معاوية ومن معه الباغين- على علي كرم الله تعالى وجهه، وصرح بعض الحنابلة بأن قتال الباغين أفضل من الجهاد احتجاجا بأن عليا كرم الله تعالى وجهه اشتغل في زمان خلافته بقتالهم دون الجهاد، والحق أن ذلك ليس على إطلاقه بل إذا خشي من ترك قتالهم مفسدة عظيمة دفعها أعظم من مصلحة الجهاد، وظاهر الآية أن الباغي مؤمن لجهل الطائفتين الباغية والمبغي عليها من المؤمنين. نعم الباغي على الإمام ولو جائرا فاسق مرتكب لكبيرة إن كان بغيه بلا تأويل أو بتأويل قطعي البطلان. والمعتزلة يقولون في مثله: إنه فاسق مخلد في النار إن مات بلا توبة، والخوارج يقولون: إنه كافر، والإمامية أكفروا الباغي على علي كرم الله تعالى وجهه المقاتل له واحتجوا بما
روي من قوله صلّى الله عليه وسلّم له: «حربك حربي»
وفيه بحث. وقرأ ابن مسعود «حتى يفيئوا إلى أمر الله فإن فاؤوا فخذوا بينهم بالقسط» إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ استئناف مقرر لما قبله من الأمر بالإصلاح، وإطلاق الاخوة على المؤمنين من باب التشبيه البليغ وشبهوا بالاخوة من حيث انتسابهم إلى أصل واحد وهو الإيمان الموجب للحياة الأبدية، وجوز أن يكون هناك استعارة وتشبه المشاركة في الإيمان بالمشاركة في أصل التوالد لأن كلا منهما أصل للبقاء إذ التوالد منشأ الحياة والإيمان منشأ البقاء الأبدي في الجنان، والفاء في قوله تعالى: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ للإيذان بأن الاخوة الدينية موجبة للإصلاح، ووضع الظاهر موضع الضمير مضافا للمأمورين للمبالغة في تأكيد وجوب الإصلاح والتحضيض عليه، وتخصيص الاثنين بالذكر لإثبات وجوب الإصلاح فيما فوق ذلك بطريق الأولوية لتضاعف الفتنة والفساد فيه، وقيل: المراد بالأخوين الأوس والخزرج اللتان نزلت فيهما الآية سمي كلا منهما أخا لاجتماعهم في الجد الأعلى.
وقرأ زيد بن ثابت وابن مسعود والحسن بخلاف عنه «إخوانكم» جمعا على وزن غلمان.
وقرأ ابن سيرين «إخوتكم» جمعا على وزن غلمة، وروى عبد الوارث عن أبي عمرو القراءات الثلاث، قال أبو الفتح: وقراءة الجمع تدل على أن قراءة الجمهور لفظها لفظ التثنية ومعناها الجماعة أي كل اثنين فصاعدا من المسلمين اقتتلا، والإضافة لمعنى الجنس نحو لبيك وسعديك، ويغلب الاخوان في الصداقة والاخوة في النسب وقد يستعمل كل منهما مكان الآخر وَاتَّقُوا اللَّهَ في كل ما تأتون وما تذرون من الأمور التي من جملتها ما أمرتم به من الإصلاح، والظاهر أن هذا عطف على فَأَصْلِحُوا وقال الطيبي: هو تذييل للكلام كأنه قيل: هذا الإصلاح من جملة التقوى فإذا فعلتم التقوى دخل فيه هذا التواصل، ويجوز أن يكون عطفا على فَأَصْلِحُوا أي واصلوا بين أخويكم بالصلح واحذروا الله تعالى من أن تتهاونوا فيه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لأجل أن ترحموا على تقواكم أو راجين أن ترحموا عليها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ أي منكم مِنْ قَوْمٍ آخرين منكم أيضا، فالتنكير في الموضعية للتبعيض، والسخر الهزؤ كما في القاموس، وفي الزواجر النظر إلى المسخور منه بعين النقص، وقال القرطبي: السخرية الاستحقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص بوجه يضحك منه وقد تكون بالمحاكاة بالفعل والقول أو الاشارة أو الإيماء أو الضحك على كلام المسخور منه إذا تخبط فيه أو غلط أو على صنعته أو قبح صورته، وقال بعض: هو ذكر الشخص بما يكره على وجه مضحك بحضرته، واختير أنه احتقاره قولا أو فعلا بحضرته على الوجه المذكور، وعليه ما قيل المعنى: لا يحتقر بعض المؤمنين بعضا. والآية على ما روي عن مقاتل نزلت في قوم من بني تميم سخروا من بلال.
وسلمان وعمار وخباب وصهيب وابن نهيرة وسالم مولى أبي حذيفة رضي الله تعالى عنهم، ولا يضر فيه اشتمالها على نهي النساء عن السخرية كما لا يضر اشتمالها على نهي الرجال عنها فيما روي أن عائشة وحفصة رأتا أم سلمة ربطت حقويها بثوب أبيض وسدلت طرفه خلفها فقالت عائشة لحفصة تشير إلى ما تجر خلفها: كأنه لسان كلب فنزلت، وما روي عن عائشة أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة الهلالية وكانت قصيرة فنزلت، وقيل: نزلت بسبب عكرمة بن
أبي جهل كان يمشي بالمدينة فقال له قوم: هذا ابن فرعون هذه الأمة فعز ذلك عليه وشكاهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت، وقيل غير ذلك وقوله عز وجل: عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ تعليل للنهي أو لموجبه أي عسى أن يكون المسخور منهم خيرا عند الله تعالى من الساخرين فرب اشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله تعالى لأبره، وجوز أن يكون المعنى لا يحتقر بعض بعضا عسى أن يصير المحتقر- اسم مفعول- عزيز أو يصير المحتقر ذليلا فينتقم منه، فهو نظير قوله:
لا تهين الفقير علك أن | تركع يوما والدهر قد رفعه |
وما أدري وسوف إخال أدري | أقوم آل حصن أم نساء |
وقرأ عبد الله وأبيّ «عسوا أن يكونوا». «وعسين عن أن يكن» فعسى عليها ذات خبر على المشهور من أقوال النحاة، وفيه الاخبار عن الذات بالمصدر أو يقدر مضاف مع الاسم أو الخبر، وقيل: هو في مثل ذلك بمعنى قارب وأن وما معها مفعول أو قرب وهو منصوب على إسقاط الجار وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ لا يعب بعضكم بعضا بقول أو إشارة لأن المؤمنين كنفس واحدة فمتى عاب المؤمن المؤمن فكأنه عاب نفسه، فضمير تَلْمِزُوا للجميع بتقدير مضاف، وأَنْفُسَكُمْ عبارة عن بعض آخر من جنس المخاطبين وهم المؤمنون جعل ما هو من جنسهم بمنزلة أنفسهم وأطلق الأنفس على الجنس استعارة كما في قوله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة: ١٢٨] وقوله سبحانه: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: ٢٩] وهذا غير النهي السابق وإن كان كل منهما مخصوصا بالمؤمنين بناء على أن السخرية احتقار الشخص مطلقا على وجه مضحك بحضرته، واللمز التنبيه على معايبه سواء كان على مضحك أم لا؟ وسواء كان بحضرته أم لا كما قيل في تفسيره، وجعل عطفه عليه من قبيل عطف العام على الخاص صفحة رقم 304
لإفادة الشمول كشارب الخمر وكل فاسق مذموم، ولا يتم إلا إذا كان التنبيه المذكور احتقارا، ومنهم من يقول:
السخرية الاحتقار واللمز التنبيه على المعايب أو تتبعها والعطف من قبيل عطف العلة على المعلول وقيل: اللمز مخصوص بما كان من السخرية على وجه الخفية كالإشارة فهو من قبيل عطف الخاص على العام لجعل الخاص كجنس آخر مبالغة، واختار الزمخشري أن المعنى وخصوا أنفسكم أيها المؤمنون بالانتهاء عن عيبها والطعن فيها ولا عليكم أن تعيبوا غيركم ممن لا يدين بدينكم ولا يسير بسيرتكم، ففي الحديث «اذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس» وتعقب بأنه لا دليل على الاختصاص.
وقال الطيبي: هو من دليل الخطاب لكن ان في هذا الوجه تعسفا والوجه الآخر. يعني ما تقدم. أوجه لموافقته لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ وإِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وفي الكشف أخذ الاختصاص من العدول عن الأصل وهو لا يلمز بعضكم بعضا كأنه قيل: ولا تلمزوا من هو على صفتكم من الإيمان والطاعة فيكون من باب ترتب الحكم على الوصف، وتعقب قول الطيبي بأن الكلام عليه يفيد العلية والاختصاص معا فيوافق ما سبق ويؤذن بالفرق بين السخرية واللمز وهو مطلوب في نفسه وكأنه قيل: لا تلمزوا المؤمنين لأنهم أنفسكم ولا تعسف فيه بوجه إلى آخر ما قال فليتأمل، والإنصاف أن المتبادر ما تقدم، وقيل: المعنى لا تفعلوا ما تلمزون به فإن من فعل ما يستحق به اللمز فقد لمز نفسه فانفسكم على ظاهره والتجوز في تَلْمِزُوا أطلق فيه المسبب على السبب والمراد لا ترتكبوا أمرا تعابون به، وهو بعيد عن السياق وغير مناسب لقوله تعالى: وَلا تَنابَزُوا وكونه من التجوز في الإسناد إذ أسند فيه ما للمسبب إلى السبب تكلف ظاهر، وكذا كونه كالتعليل للنهي السابق لا يدفع كونه مخالفا للظاهر، وكذا كون المراد به لا تتسببوا إلى الطعن فيكم بالطعن على غيركم كما
في الحديث «من الكبائر أن يشتم الرجل والديه»
وفسر بأنه إن شتم والدي غيره شتم الغير والديه أيضا.
وقرأ الحسن والأعرج وعبيد عن أبي عمرو «لا تلمزوا» بضم الميم وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ أي لا يدع بعضكم بعضا باللقب، قال في القاموس: التنابز التعاير والتداعي بالألقاب ويقال نبزه ينبزه نبزا بالفتح والسكون لقبه كنبزه والنبز بالتحريك وكذا النزب اللقب وخص عرفا بما يكرهه الشخص من الألقاب.
وعن الرضي أن لفظ اللقب في القديم كان في الذم أشهر منه في المدح، والنبز في الذم خاصة، وظاهر تفسير التنابز بالتداعي بالألقاب اعتبار التجريد في الآية لئلا يستدرك ذكر الألقاب، ومن الغريب ما قيل: التنابز الترامي أي لا تتراموا بالألقاب ويراد به ما تقدم، والمنهي عنه هو التلقيب بما يتداخل المدعو به كراهة لكونه تقصيرا به وذما له وشينا.
قال النووي: اتفق العلماء على تحريم تلقيب الإنسان بما يكره سواء كان صفة له أو لأبيه أو لأمه أو غيرهما فقد
روي أن الآية نزلت في ثابت بن قيس وكان به وقر فكانوا يوسعون له في مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليسمع فأتى يوما وهو يقول: تفسحوا حتى انتهى إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال لرجل: تنح فلم يفعل فقال: من هذا؟ فقال الرجل:
أنا فلان فقال: بل أنت ابن فلانة يريد أما كان يعير بها في الجاهلية فخجل الرجل فنزلت
فقال ثابت: لا أفخر على أحد في الحسب بعدها أبدا.
وأخرج البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وجماعة عن ابن جبير وابن الضحاك قال: فينا نزلت في بني سلمة وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة فكان إذا دعا أحدا منهم باسم من تلك الأسماء قالوا: يا رسول الله انه يكرهه فنزلت وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: التنابز بالألقاب أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب منها وراجع الحق فنهى الله تعالى أن يعير بما سلف من عمله، وعن ابن مسعود هو أن يقال اليهودي أو النصراني أو المجوسي إذا أسلم يا
يهودي أو يا نصراني أو يا مجوسي، وعن الحسن نحوه، ولعل مأخذه ما روي أنها نزلت في صفية بنت حيي أتت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: إن النساء يقلن لي يا يهودية بنت يهوديين فقال لها: هلا قلت: إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وأنت تعلم أن النهي عما ذكر داخل في عموم لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ على ما سمعت فلا يختص التنابز بقول يا يهودي ويا فاسق ونحوهما، ومعنى قوله تعالى: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب التنابز أن يذكروا بالفسق بعد اتصافهم بالإيمان، وهو ذم على اجتماع الفسق وهو ارتكاب التنابز والإيمان على معنى لا ينبغي أن يجتمعا فإن الإيمان يأبى الفسق كقولهم: بئس الشأن بعد الكبرة الصبوة يريدون استقباح الجمع بين الصبوة وما يكون في حال الشباب من الميل إلى الجهل وكبر السن.
والِاسْمُ هنا بمعنى الذكر من قولهم: طار اسمه في الناس بالكرم أو اللؤم فلا تأبى هذه الآية حمل ما تقدم على النهي عن التنابز مطلقا، وفيها تسميته فسوقا، وقيل: بَعْدَ الْإِيمانِ أي بدله كما في قولك للمتحول عن التجارة إلى الفلاحة: بئست الحرفة الفلاحة بعد التجارة، وفيه تغليظ بجعل التنابز فسقا مخرجا عن الإيمان، وهذا خلاف الظاهر. وذكر الزمخشري له مبني على مذهبه من أن مرتكب الكبيرة فاسق غير مؤمن حقيقة، وقيل: معنى النهي السابق لا ينسبن أحدكم غيره إلى فسق كان فيه بعد اتصافه بضده، ومعنى هذا بئس تشهير الناس وذكرهم بفسق كانوا فيه بعد ما اتصفوا بضده، فيكون الكلام نهيا عن أن يقال ليهودي أسلم يا يهودي أو نحو ذلك، والأول أظهر لفظا وسياقا ومبالغة، والجملة على كل متعلقة بالنهي عن التنابز على ما هو الظاهر، وقيل: هي على الوجه السابق متعلقة بقوله تعالى: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ أو بجميع ما تقدم من النهي، وعلى هذا اقتصر ابن حجر في الزواجر.
ويستثنى من النهي الأخير دعاء الرجل الرجل بلقب قبيح في نفسه لا على قصد الاستخفاف به والإيذاء له كما إذا دعت له الضرورة لتوقف معرفته كقول المحدثين: سليمان الأعمش وواصل الأحدب، وما نقل عن ابن مسعود أنه قال لعلقمة: تقول أنت ذلك يا أعور ظاهر في أن الاستثناء لا يتوقف على دعاء الضرورة ضرورة أنه لا ضرورة في حال مخاطبته علقمة لقوله يا أعور، ولعل الشهرة مع عدم التأذي وعدم قصد الاستخفاف كافية في الجواز، ويقال ما كان من ابن مسعود من ذلك، والأولى أن يقال في الرواية عمن اشتهر بذلك كسليمان المتقدم روي عن سليمان الذي يقال له الأعمش، هذا وغوير بين صيغتي تَلْمِزُوا وتَنابَزُوا لأن الملموز قد لا يقدر في الحال على عيب يلمز به لامزه فيحتاج إلى تتبع أحواله حتى يظفر ببعض عيوبه بخلاف النبز فإن من لقب بما يكره قادر على تلقيب الآخر بنظير ذلك حالا فوقع التفاعل كذا في الزواجر، وقيل: قيل تَنابَزُوا لأن النهي ورد على الحالة الواقعة بين القوم، ويعلم من الآية أن التلقيب ليس محرما على الإطلاق بل المحرم ما كان بلقب السوء، وقد صرحوا بأن التلقيب بالألقاب الحسنة مما لا خلاف في جوازه، وقد لقب أبو بكر رضي الله تعالى عنه بالعتيق
لقوله عليه الصلاة والسلام له: «أنت عتيق الله من النار»
وعمر رضي الله تعالى عنه بالفاروق لظهور الإسلام يوم إسلامه، وحمزة رضي الله تعالى عنه بأسد الله لما أن إسلامه كان حمية فاعتز الإسلام به، وخالد بسيف الله
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم عبد الله خالد بن الوليد سيف من سيوف الله»
إلى غير ذلك من الألقاب الحسنة وألقاب علي كرم الله وجهه أشهر من أن تذكر وما زالت الألقاب الحسنة في الأمم كلها من العرب والعجم تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم ويراعى فيها المعنى بخلاف العلم، ولذلك قال الشاعر: وقلما أبصرت عيناك ذا لقب. إلا ومعناه أن فتشت في لقبه بدخوله في مفهومه لكن الشائع غير ذلك،
وفي الحديث «كنّوا أولادكم»
قال عطاء: مخافة الألقاب وقال عمر رضي الله تعالى عنه: أشيعوا الكنى فإنها سنة، ولنا في