الكنى كلام نفيس ذكرناه في الطراز المذهب فمن أراده فليرجع وَمَنْ لَمْ يَتُبْ عما نهى عنه من التنابز أو من الأمور الثلاثة السابقة أو مطلقا ويدخل ما ذكر فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
بوضع العصيان موضع الطاعة وتعريض النفس للعذاب، والإفراد أولا والجمع ثانيا مراعاة للفظ ومراعاة للمعنى.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ أي تباعدوا منه، وأصل اجتنبه كان على جانب منه ثم شاع في التباعد اللازم له، وتنكير كَثِيراً ليحتاط في كل ظن ويتأمل حتى يعلم أنه من أي القبيل، فإن من الظن ما يباح اتباعه كالظن في الأمور المعاشية، ومنه ما يجب كالظن حيث لا قاطع فيه من العمليات كالواجبات الثابتة بغير دليل قطعي وحسن الظن بالله عز وجل، ومنه ما يحرم كالظن في الإلهيات والنبوات وحيث يخالفه قاطع وظن السوء بالمؤمنين،
ففي الحديث «أن الله تعالى حرم من المسلم دمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء»
وعن عائشة مرفوعا من أسماء بأخيه الظن فقد أساء بربه الظن إن الله تعالى يقول: اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ ويشترط في حرمة هذا أن يكون المظنون به ممن شوهد منه التستر والصلاح وأونست منه الأمانة، وأما من يتعاطى الريب والمجاهرة بالخبائث كالدخول والخروج إلى حانات الخمر وصحبة الغواني الفاجرات وإدمان النظر إلى المرد فلا يحرم ظن السوء فيه وإن كان الظان لم يره يشرب الخمر ولا يزني ولا يعبث بالشباب. أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن سعيد بن المسيب قال: كتب إلي بعض اخواني من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظنن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرا وأنت تجد لها في الخير محملا، ومن عرض نفسه للتهم فلا يلومن إلا نفسه، ومن كتم سره كانت الخيرة في يده، وما كافيت من عصى الله تعالى فيك بمثل أن تطيع الله تعالى فيه، وعليك بإخوان الصدق فكن في اكتسابهم فإنهم زينة في الرخاء وعدة عند عظيم البلاء ولا تهاون بالحلف فيهينك الله تعالى، ولا تسألن عما لم يكن حتى يكون ولا تضع حديثك إلا عند من تشتهيه، وعليك بالصدق وإن قتلك، واعتزل عدوك واحذر صديقك إلا الأمين ولا أمين إلا من خشي الله تعالى، وشاور في أمرك الذين يخشون ربهم بالغيب.
وعن الحسن كنا في زمان الظن بالناس حرام وأنت اليوم في زمان اعمل واسكت وظن بالناس ما شئت، واعلم
أن ظن السوء إن كان اختياريا فالأمر واضح، وإذا لم يكن اختياريا فالمنهي عنه العمل بموجبه من احتقار المظنون به وتنقيصه وذكره بما ظن فيه، وقد قيل نظير ذلك في الحسد على تقدير كونه غير اختياري، ولا يضر العمل بموجبه بالنسبة إلى الظان نفسه كما إذا ظن بشخص أنه يريد به سوءا فتحفظ من أن يلحقه منه أذى على وجه لا يلحق ذلك الشخص به نقص، وهو محمل
خبر «إن من الحزم سوء الظن»
وخبر الطبراني «احترسوا من الناس بسوء الظن»
، وقيل:
المنهي عنه الاسترسال معه وترك إزالته بنحو تأويل سببه من خبر ونحوه، وإلا فالأمر الغير الاختياري نفسه لا يكون مورد التكليف،
وفي الحديث «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ثلاث لازمات أمتي الطيرة والحسد وسوء الظن فقال رجل: ما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه؟ قال: إذا حسدت فاستغفر الله وإذا ظننت فلا تحقق وإذا تطيرت فامض»
أخرجه الطبراني عن حارثة بن النعمان إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ تعليل بالأمر بالاجتناب أو لموجبه بطريق الاستئناف التحقيقي، والإثم الذنب الذي يستحق العقوبة عليه، ومنه قيل لعقوبته الأثام فعال منه كالنكال، قال الشاعر:
لقد فعلت هذي النوى بي فعلة | أصاب النوى قبل الممات أثامها |
وَلا تَجَسَّسُوا ولا تبحثوا عن عورات المسلمين ومعايبهم وتستكشفوا عما ستروه، تفعل من الجس باعتبار ما فيه من معنى الطلب كاللمس فإن من يطلب الشيء يجسه ويلمسه فأريد به ما يلزمه، واستعمال التفعل للمبالغة وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن سيرين «ولا تحسسوا» بالحاء من الحس الذي هو أثر الجس وغايته، ولهذا يقال لمشاعر الإنسان الحواس والجواس بالحاء والجيم، وقيل التجسس والتحسس متحدان ومعناهما معرفة الأخبار، وقيل:
التجسس بالجيم تتبع الظواهر وبالحاء تتبع البواطن، وقيل: الأول أن تفحص بغيرك والثاني أن تفحص بنفسك، وقيل:
الأول في الشر والثاني في الخير، وهذا بفرض صحته غير مراد هنا والذي عليه الجمهور أن المراد على القراءتين النهي عن تتبع العورات مطلقا وعدوه من الكبائر.
أخرج أبو داود وابن المنذر وابن مردويه عن أبي برزة الأسلمي قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تتبعوا عورات المسلمين فإن من تتبع عورات المسلمين فضحه الله تعالى في قعر بيته»
وفي رواية البيهقي عن البراء بن عازب أنه صلّى الله عليه وسلّم نادى بذلك حتى اسمع العواتق في الخدر.
وأخرج أبو داود وجماعة عن زيد بن وهب قلنا لابن مسعود: هل لك في الوليد بن عقبة بن معيط تقطر لحيته خمرا؟ فقال ابن مسعود:
قد نهينا عن التجسس فإن ظهر لنا شيء أخذنا به.
وقد يحمل مزيد حب النهي عن المنكر على التجسس وينسى النهي فيعذر مرتكبه كما وقع ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. أخرج الخرائطي في مكارم الأخلاق عن ثور الكندي أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يعس بالمدينة فسمع صوت رجل في بيت يتغنى فتسور عليه فوجد عنده امرأة وعنده خمر فقال: يا عدو الله أظننت أن الله تعالى يسترك وأنت على معصية؟ فقال: وأنت يا أمير المؤمنين لا تعجل علي إن كنت عصيت الله تعالى واحدة فقد عصيت الله تعالى في ثلاث قال سبحانه: وَلا تَجَسَّسُوا وقد تجسست وقال الله تعالى: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها [البقرة ١٨٩:] وقد تسورت وقال جل شأنه: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها [النور: ٢٧] ودخلت علي بغير إذن قال عمر رضي الله تعالى عنه: فهل عندكم من خير ان عفوت عنك؟ قال: صفحة رقم 308
نعم فعفا عنه وخرج وتركه. وفي رواية سعيد بن منصور عن الحسن أنه قال رجل لعمر رضي الله تعالى عنه: إن فلانا لا يصحو فقال: انظر إلى الساعة التي يضع فيها شرابه فأتني فأتاه فقال: قد وضع شرابه فانطلقا حتى استأذنا عليه فعزل شرابه ثم دخلا فقال عمر: والله إني لأجد ريح شراب يا فلان أنت بهذا فقال: يا ابن الخطاب وأنت بهذا لم ينهك الله تعالى أن تتجسس؟ فعرفها عمر فانطلق وتركه، وذكر بعضهم أن انزجار شربة الخمر ونحوهم إذا توقف على التسور عليهم جاز احتجاجا بفعل عمر رضي الله تعالى عنه السابق وفيه نظر، وقد جاء في بعض الروايات عنه ما يخالف ذلك.
أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والخرائطي أيضا عن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف عن المسور بن مخرمة عن عبد الرحمن بن عوف أنه حرس مع عمر رضي الله تعالى عنه ليلة المدينة فبينما هم يمشون شب لهم سراج في بيت فانطلقوا يؤمونه فلما دنوا منه إذا باب مجاف على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولغط فقال عمر: وأخذ بيد عبد الرحمن أتدري بيت من هذا؟ هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف الآن شرب قال: أرى أن قد أتينا ما نهى الله تعالى عنه قال الله تعالى: وَلا تَجَسَّسُوا فقد تجسسنا فانصرف عمر رضي الله تعالى عنه عنهم وتركهم، ولعل القصة إن صحت غير واحدة، ومن التجسس على ما قال الأوزاعي الاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون فهو حرام أيضا.
وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي لا يذكر بعضكم بعضا بما يكره في غيبته
فقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «أتدرون ما الغيبة؟
قالوا: الله ورسوله أعلم قال: ذكرك أخاك بما يكره قيل: أفرأيت لو كان في أخي ما أقول قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم.
والمراد بالذكر الذكر صريحا أو كناية ويدخل في الأخير الرمز والإشارة ونحوهما إذا أدت مؤدى النطق فإن علة النهي عن الغيبة الإيذاء بتفهيم الغير نقصان المغتاب وهو موجود حيث أفهمت الغير ما يكرهه المغتاب بأي وجه كان من طرق الإفهام، وهي بالفعل كان تمشي مشية أعظم الأنواع كما قاله الغزالي، والمراد بما يكره أعم من أن يكون في دينه أو دنياه أو خلقه أو ماله أو ولده أو زوجته أو مملوكه أو خادمه أو لباسه أو غير ذلك مما يتعلق به، وخصه القفال بالصفات التي لا تذم شرعا فذكر الشخص بما يكره مما يذم شرعا ليس بغيبة عنده ولا يحرم، واحتج على ذلك
بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «اذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس»
وما ذكره لا يعول، عليه والحديث ضعيف وقال أحمد منكر، وقال البيهقي: ليس بشيء ولو صح فهو محمول على فاجر معلن بفجوره. والمراد بقولنا: غيبته غيبته عن ذلك الذكر سواء كان حاضرا في مجلس الذكر أو لا، وفي الزواجر لا فرق في الغيبة بين أن تكون في غيبة المغتاب أو بحضرته هو المعتمد، وقد يقال شمول الغيبة للذكر بالحضور على نحو شمول سجود السهو لما كان عن ترك ما يسجد له عمدا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً تمثيل لما يصدر عن المغتاب من حيث صدوره عنه ومن حيث تعلقه بصاحبه على أفحش وجه وأشنعه طبعا وعقلا وشرعا مع مبالغات من فنون شتى، الاستفهام التقريري من حيث إنه لا يقع إلا في كلام هو مسلم عند كل سامع حقيقة أو ادعاء، وإسناد الفعل إلى- أحد- إيذانا بأن أحدا من الأحدين لا يفعل ذلك وتعليق المحبة بما هو في غاية الكراهة، وتمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان، وجعل المأكول أخا للآكل وميتا، وتعقيب ذلك بقوله تعالى: فَكَرِهْتُمُوهُ حملا على الإقرار وتحقيقا لعدم محبة ذلك أو لمحبته التي لا ينبغي مثلها، وفي المثل السائر كني عن الغيبة بأكل الإنسان للحم مثله لأنها ذكر المثالب وتمزيق الاعراض المماثل لأكل اللحم بعد تمزيقه في استكراه العقل والشرع له، وجعله ميتا لأن المغتاب لا يشعر بغيبته، ووصله بالمحبة لما جبلت عليه النفوس من الميل إليها مع العلم بقبحها، وقال أبو زيد السهيلي: ضرب المثل لأخذ العرض بأكل اللحم لأن اللحم ستر على العظم والشاتم لأخيه كأنه يقشر ويكشف ما عليه وكأنه أولى مما في المثل، والفاء في فَكَرِهْتُمُوهُ
فصيحة في جواب شرط مقدر ويقدر معه قد أي إن صح ذلك أو عرض عليكم هذا فقد كرهتموه ولا يمكنكم إنكار كراهته، والجزائية باعتبار التبين، والضمير المنصوب للأكل وقيل: للحم، وقيل: للميت وليس بذاك، وجوز كونه للاغتياب المفهوم مما قبل، والمعنى فاكرهوه كراهيتكم لذلك الأكل، وعبر بالماضي للمبالغة، وإذا أول بما ذكر يكون إنشاء غير محتاج لتقدير قد، وانتصاب مَيْتاً على الحال من اللحم أو الأخ لأن المضاف جزء من المضاف إليه والحال في مثل ذلك جائز خلافا لأبي حيان.
وقرأ أبو سعيد الخدري والجحدري وأبو حيوة
«فكرّهتموه» بضم الكاف وشد الراء، ورواها الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم
، وقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ قيل عطف على محذوف كأنه قيل: امتثلوا ما قيل لكم واتقوا الله.
وقال الفراء التقدير ان صح ذلك فقد كرهتموه فلا تفعلوه واتقوا الله فهو عطف على النهي المقدر، وقال أبو علي الفارسي. لما قيل لهم أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ إلخ كان الجواب لا متعينا فكأنهم قالوا: لا نحب فقيل لهم فَكَرِهْتُمُوهُ ويقدر فكذلك فاكرهوا الغيبة التي هي نظيره واتقوا الله فيكون عطفا على فاكرهوا المقدر، وقيل: هو عطف على فكرهتموه بناء على أنه خبر لفظا أمر معنى كما أشير إليه سابقا ولا يخفى الأولى من ذلك: وقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ تعليل للأمر أي لأنه تعالى تواب رحيم لمن اتقى واجتنب ما نهي عنه وتاب مما فرط منه، وتواب أي مبالغة في قبول التوبة والمبالغة إما باعتبار الكيف إذ يجعل سبحانه التائب كمن لم يذنب أو باعتبار الكم لكثرة المتوب عليهم أو لكثرة ذنوبهم.
أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه كان مع رجلين في سفر يخدمهما وينال من طعامهما وأنه نام يوما فطلبه صاحباه فلم يجداه فضربا الخباء وقالا: ما يريد سلمان شيئا غير هذا أن يجيء إلى طعام معدود وخبار مضروب فلما جاء سلمان أرسلاه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يطلب لهما إداما فانطلق فأتاه فقال: يا رسول الله بعثني أصحابي لتؤدمهم إن كان عندك قال: ما يصنع أصحابك بالإدام؟ لقد ائتدموا فرجع رضي الله تعالى عنه فخبرهما فانطلقا فأتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالا: والذي بعثك بالحق ما أصبنا طعاما منذ نزلنا قال: إنكما قد ائتدمتما بسلمان فنزلت.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال: زعموا أنها نزلت في سلمان الفارسي أكل ثم رقد فنفخ فذكر رجلان أكله ورقاده فنزلت.
وأخرج الضياء المقدسي في المختارة عن أنس قال: كانت العرب تخدم بعضها بعضا في الأسفار وكان مع أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما رجل يخدمهما فناما فاستيقظا ولم يهيء لهما طعاما فقالا: إن هذا لنؤوم فأيقظاه فقالا:
ائت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقل له إن أبا بكر وعمر يقرآنك السلام ويستأدمانك فقال: إنهما ائتدما فجاءا فقالا: يا رسول الله بأي شيء ائتدمنا قال بلحم أخيكما والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين ثنايا كما فقالا: استغفر لنا يا رسول الله قال:
مراه فليستغفر لكما
وهذا خبر صحيح ولا طعن فيه على الشيخين سواء كان ما وقع منهما قبل النزول أو بعده حيث لم يظنا بناء على حسن الظن فيهما ان تلك الكلمة مما يكرهها ذلك الرجل: هذا والآية دالة على حرمة الغيبة. وقد نقل القرطبي وغيره الإجماع على أنها من الكبائر، وعن الغزالي وصاحب العدة أنهما صرحا بأنها من الصغائر وهو عجيب منهما لكثرة ما يدل على أنها من الكبائر، وقصارى ما قيل في وجه القول بأنها صغيرة أنه لو لم تكن كذلك يلزم فسق الناس كلهم إلا الفذ النادر منهم وهذا حرج عظيم. وتعقب بأن فشو المعصية وارتكاب جميع الناس لها فضلا عن الأكثر لا يوجب أن تكون صغيرة، وهذا الذي دل عليه الكلام من ارتكاب أكثر الناس لها لم يكن قبل. على أن الإصرار عليها قريب منها في كثرة الفشو في الناس وهو كبيرة بالإجماع ويلزم عليه الحرج العظيم وإن لم يكن في
عظم الحرج السابق، مع أن هذا الدليل لا يقاوم تلك الدلائل الكثيرة، ولعل الأولى في الاستدلال على ذلك ما
رواه أحمد. وغيره بسند صحيح عن أبي بكرة قال: «بينما أنا أماشي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو آخذ بيدي ورجل عن يساري فإذا نحن بقبرين أمامنا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنهما ليعذبان وما يعذبان بكبير وبكى إلى أن قال: وما يعذبان إلا في الغيبة والبول»
ولا يتم أيضا، فقد قال ابن الأثير: المعنى وما يعذبان في أمر كان يكبر عليهما ويشق فعله لو أراداه لا أنه في نفسه غير كبير، وكيف لا يكون كبيرا وهما يعذبان فيه، فالحق أنها من الكبائر. نعم لا يبعد أن يكون منها ما هو من الصغائر كالغيبة التي لا يتأذى بها كثيرا نحو عيب الملبوس والدابة، ومنها ما لا ينبغي أن يشك في أنه من أكبر الكبائر كغيبة الأولياء والعلماء بألفاظ الفسق والفجور ونحوها من الألفاظ الشديدة الإيذاء، والأشبه أن يكون حكم السكوت عليها مع القدرة على دفعها حكمها، ويجب على المغتاب أن يبادر إلى التوبة بشروطها فيقلع ويندم خوفا من الله تعالى ليخرج من حقه ثم يستحل المغتاب خوفا ليحله فيخرج عن مظلمته، وقال الحسن: يكفيه الاستغفار عن الاستحلال، واحتج بخبر «كفارة من اغتبته أن تستغفر له»، وأفتى الخياطي بأنها إذا لم تبلغ المغتاب كفاه الندم والاستغفار، وجزم ابن الصباغ بذلك وقال: نعم إذا كان تنقصه عند قوم رجع إليهم وأعلمهم أن ذلك لم يكن حقيقة وتبعهما كثيرون منهم النووي، واختاره ابن الصلاح في فتاويه وغيره، وقال الزركشي: هو المختار وحكاه ابن عبد البر عن ابن المبارك وأنه ناظر سفيان فيه، وما يستدل به على لزوم التحليل محمول على أنه أمر بالأفضل أو بما يمحو أثر الذنب بالكلية على الفور، وما ذكر في غير الغائب والميت أما فيهما فينبغي أن يكثر لهما الاستغفار، ولا اعتبار بتحليل الورثة على ما صرح به الخياطي وغيره، وكذا الصبي والمجنون بناء على الصحيح من القول بحرمة غيبتهما.
قال في الخادم: الوجه أن يقال يبقى حق مطالبتهما إلى يوم القيامة أي إن تعذر الاستحلال والتحليل في الدنيا بأن مات الصبي صبيا والمجنون مجنونا ويسقط من حق الله تعالى بالندم، وهل يكفي الاستحلال من الغيبة المجهولة أم لا؟ وجهان، والذي رجحه في الإذكار أنه لا بد من معرفتها لأن الإنسان قد يسمح عن غيبة دون غيبة، وكلام الحليمي. وغيره يقتضي الجزم بالصحة لأن من سمح بالعفو من غير كشف فقد وطن نفسه عليه مهما كانت الغيبة، ويندب لمن سئل التحليل أن يحلل ولا يلزمه لأن ذلك تبرع منه وفضل، وكان جمع من السلف واقتدى بهم والدي عليه الرحمة والرضوان يمتنعون من التحليل مخافة التهاون بأمر الغيبة، ويؤيد الأول
خبر «أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته قال: إني تصدقت بعرضي على الناس».
ومعناه لا أطلب مظلمة منهم ولا أخاصمهم لا أن الغيبة تصير حلالا لأن فيها حقا لله تعالى ولأنه عفو وإباحة للشيء قبل وجوبه، وسئل الغزالي عن غيبة الكافر فقال: هي في حق المسلم محذورة لثلاث علل: الإيذاء، وتنقيص خلق الله تعالى، وتضييع الوقت بما لا يعني. والأولى تقتضي التحريم، والثانية الكراهة، والثالثة خلاف الأولى. وأما الذمي فكالمسلم فيما يرجع إلى المنع عن الإيذاء لأن الشرع عصم عرضه ودمه وماله.
وقد روى ابن حبان في صحيحه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سمع يهوديا أو نصرانيا فله النار»
ومعنى سمعه أسمعه ما يؤذيه ولا كلام بعد هذا في الحرمة. وأما الحربي فغيبته ليست بحرام على الأولى وتكره على الثانية وخلاف الأولى على الثالثة، وأما المبتدع فإن كفر فكالحربي وإلا فكالمسلم وأما ذكره ببدعته فليس مكروها.
وقال ابن المنذر
في قوله صلّى الله عليه وسلّم في تفسير الغيبة: «ذكرك أخاك بما يكره»
: فيه دليل على أن من ليس أخا لك من اليهود والنصارى وسائر أهل الملل ومن أخرجته بدعته إلى غير دين الإسلام لا غيبة له ويجري نحوه في الآية، والوجه تحريم غيبة الذمي كما تقرر وهو وإن لم يعلم من الآية ولا من الخبر المذكور معلوم بدليل آخر ولا معارضة بين ما ذكر
وذلك الدليل كما لا يخفى، وقد تجب الغيبة لغرض صحيح شرعي لا يتوصل إليه إلا بها وتنحصر في ستة أسباب.
الأول التظلم فلمن ظلم أن يشكو لمن يظن له قدرة على إزالة ظلمه لا تخفيفه. الثاني الاستعانة على تغيير المنكر بذكره لمن يظن قدرته على إزالته. الثالث الاستفتاء فيجوز للمستفتي أن يقول للمفتي: ظلمني فلان بكذا فهل يجوز له أو ما طريق تحصيل حقي أو نحو ذلك والأفضل أن يبهمه.
الرابع تحذير المسلمين من الشر كجرح الشهود والرواة والمصنفين والمتصدين لإفتاء أو إقراء مع عدم أهلية فتجوز إجماعا بل تحب، وكأن يشير وإن لم يستشر على مريد تزوج أو مخالطة لغيره في أمر ديني أو دنيوي ويقتصر على ما يكفي فإن كفى نحو لا يصلح لك فذاك وإن احتاج إلى ذكر عيب ذكره أو عيبين فكذلك وهكذا ولا يجوز الزيادة على ما يكفي، ومن ذلك أن يعلم من ذي ولاية قادحا فيها كفسق أو تغفل فيجب ذكر ذلك لمن له قدرة على عزله وتولية غيره الخالي من ذلك أو على نصحه وحثه للاستقامة، والخامس أن يتجاهر بفسقه كالمكاسين وشربه الخمر ظاهرا فيجوز ذكره بما تجاهروا فيه دون غيره إلا أن يكون له سبب آخر مما مر.
السادس للتعريف بنحو لقب كالأعور، والأعمش فيجوز وإن أمكن تعريفه بغيره. نعم الأولى ذلك إن سهل ويقصد التعريف لا التنقيص، وأكثر هذه الستة مجمع عليه ويدل لها من السنة أحاديث صحيحة مذكورة في محلها كالأحاديث الدالة على قبح الغيبة وعظم آثامها وأكثر الناس بها مولعون ويقولون: هي صابون القلوب وإن لها حلاوة كحلاوة التمر وضراوة كضراوة الخمر وهي في الحقيقة كما
قال ابن عباس وعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم: الغيبة إدام كلاب الناس
نسأل الله تعالى التوفيق لما يحب ويرضى.
وما أحسن ما جاء الترتيب في هذه الآية أعني قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إلخ كما قال أبو حيان وفصله بقوله: جاء الأمر أولا باجتناب الطريق التي لا تؤدي إلى العلم وهو الظن ثم نهى ثانيا عن طلب تحقيق ذلك الظن ليصير علما بقوله سبحانه: وَلا تَجَسَّسُوا ثم نهى ثالثا عن ذكر ذلك إذا علم فهذه أمور ثلاثة مترتبة ظن فعلم بالتجسس فاغتياب، وقال ابن حجر عليه الرحمة: إنه تعالى ختم كلا من الآيتين بذكر التوبة رحمة بعباده وتعطفا عليهم لكن لما بدئت الأولى بالنهي ختمت بالنفي في وَمَنْ لَمْ يَتُبْ لتقاربهما ولما بدئت الثانية بالأمر في اجْتَنِبُوا ختمت به في وَاتَّقُوا اللَّهَ إلى إلخ وكان حكمة ذكر التهديد الشديد في الأولى فقط بقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ إلخ أن ما فيها أفحش لأنه إيذاء في الحضرة بالخسرية أو اللمز أو النبز بخلافه في الآية الثانية فإنه أمر خفي إذ كل من الظن والتجسس والغيبة يقتضي الإخفاء وعدم العلم به غالبا انتهى فلا تغفل.
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى من آدم وحواء عليهما السلام فالكل سواء في ذلك فلا وجه للتفاخر بالنسب ومن هذا قوله:
الناس في عالم التمثيل أكفاء | أبوهم آدم والأم حواء |
وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ الشعوب جمع شعب بفتح الشين وسكون العين وهم الجمع العظيم المنتسبون إلى أصل واحد، وهو يجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعمارة بفتح العين وقد تكسر تجمع البطون، والبطن تجمع صفحة رقم 312
الأفخاذ، والفخذ تجمع الفصائل، فخزيمة شعب وكنانة قبيلة وقريش عمارة وقصي بطن وهاشم فخذ والعباس فصيلة وسميت الشعوب لأن القبائل تشعبت منها، وهذا هو الذي عليه أكثر أهل النسب واللغة، ونظم ذلك بعض الأدباء فقال:
قبيلة فوقها شعب وبعدهما | عمارة ثم بطن تلوه فخذ |
وليس يؤوي الفتى إلا فصيلته | ولا سداد لسهم ما له قذذ |
اقصد الشعب فهو أكثر حي | عددا في الحساب ثم القبيلة |
ثم يتلوهما العمارة ثم البطن | ثم الفخذ وبعد الفصيلة |
ثم من بعدها العشيرة لكن | هي في جنب ما ذكرنا قليله |
وقيل: الشعوب عرب اليمن من قحطان والقبائل ربيعة ومضر وسائر عدنان، وقال قتادة ومجاهد والضحاك:
الشعب النسب إلا بعد والقبيلة الأقرب، وقيل: الشعوب الموالي والقبائل العرب، وقال أبو روق: الشعوب الذين ينتسبون إلى المدائن والقرى والقبائل العرب الذين ينتسبون إلى آبائهم لِتَعارَفُوا علة للجعل أي جعلناكم كذلك ليعرف بعضكم بعضا فتصلوا الأرحام وتبينوا الأنساب والتوارث لا لتفاخروا بالآباء والقبائل، والحصر مأخوذ من التخصيص بالذكر والسكوت في معرض البيان. وقرأ الأعمش «لتتعارفوا» بتاءين على الأصل، ومجاهد. وابن كثير في رواية وابن محيصن بإدغام التاء في التاء، وابن عباس وأبان عن عاصم «لتعرفوا» بكسر الراء مضارع عرف، قال ابن جني: والمفعول محذوف أي لتعرفوا ما أنتم محتاجون إليه كقوله:
وما علم الإنسان إلا ليعلما أي ليعلم ما علمه وما أعذب هذا الحذف وما أغربه لمن يعرف مذهبه.
واختير في المفعول المقدر قرابة بعضكم من بعض، وقوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ تعليل للنهي عن التفاخر بالأنساب المستفاد من الكلام بطريق الاستئناف الحقيقي كأنه قيل: إن أكرمكم عند الله تعالى والأرفع منزلة لديه عز وجل في الآخرة والدنيا هو الأتقى فإن فاخرتم ففاخروا بالتقوى. وقرأ ابن عباس «أن» بفتح الهمزة على حذف لام التعليل كأنه قيل: لم لا تتفاخروا بالأنساب؟ فقيل: لأن أكرمكم عند الله تعالى أتقاكم لا أنسبكم فإن مدار كمال النفوس وتفاوت الأشخاص هو التقوى فمن رام نيل الدرجات العلا فعليه بها.
وفي البحر أن ابن عباس قرأ «لتعرفوا وأن أكرمكم» بفتح الهمزة فاحتمل أن يكون «أن أكرمكم» إلخ معمولا لتعرفوا وتكون اللام في لتعرفوا لام الأمر وهو أجود من حيث المعنى، وأما إن كانت لام كي فلا يظهر المعنى صفحة رقم 313
إذ ليس جعلهم شعوبا وقبائل لأن يعرفوا أن أكرمهم عند الله تعالى أتقاهم فإن جعلت مفعولا لتعرفوا محذوفا أي لتعرفوا الحق لأن أكرمكم عند الله أتقاكم ساغ في اللام ان تكون لام كي اهـ وهو كما ترى.
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بكم وبأعمالكم خَبِيرٌ بباطن أحوالكم. روي أنه لما كان يوم فتح مكة أذن بلال على الكعبة فغضب الحارث بن هشام. وعتاب بن أسيد وقالا: أهذا العبد الأسود يؤذن على ظهر الكعبة فنزلت.
وعن ابن عباس سبب نزولها قول ثابت بن قيس لرجل لم يفسح له عند النبي صلّى الله عليه وسلّم يا ابن فلانة فوبخه النبي عليه الصلاة والسلام وقال: إنك لا تفضل أحدا إلا في الدين والتقوى ونزلت
وأخرج أبو داود في مراسيله وابن مردويه وعن البيهقي في سننه عن الزهري قال: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم فقالوا: يا رسول الله أنزوج بناتنا موالينا؟ فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى الآية.
قال الزهري: نزلت في أبي هند خاصة وكان حجام النبي صلّى الله عليه وسلّم
وفي رواية ابن مردويه من طريق الزهري عن عروة عن عائشة أنه عليه الصلاة والسلام قال: أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه ونزلت يا أَيُّهَا النَّاسُ الآية
في ذلك،
وعن يزيد بن شجرة مر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سوق المدينة فرأى غلاما أسود يقول: من اشتراني فعلى شرط لا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف رسول الله عليه الصلاة والسلام فاشتراه رجل فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يراه عند كل صلاة ففقده فسأل عنه صاحبه فقال: محموم فعاده ثم سأل عنه بعد أيام فقال: هو لما به فجاءه وهو في ذمائه فتولى غسله ودفنه فدخل على المهاجرين والأنصار أمر عظيم فنزلت
، وفي القلب من صحة هذا شيء والله تعالى أعلم. وقد دلت على أنه لا ينبغي التفاخر بالأنساب وبذلك نطقت الأخبار.
أخرج ابن مردويه. والبيهقي في شعب الإيمان. وعبد بن حميد.
والترمذي. وغيرهم عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم طاف يوم الفتح على راحلته يستلم الأركان بمحجنه فلما خرج لم يجد مناخا فنزل على أيدي الرجال فخطبهم فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وقال: الحمد صلّى الله عليه وسلّم الذي أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتكبرها يا أيها الناس الناس رجلان بر تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله الناس كلهم بنو آدم وخلق الله آدم من تراب قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى إلى قوله تعالى: خَبِيرٌ ثم قال: أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
وأخرج البيهقي وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في وسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال: يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ ألا هل بلغت؟ قالوا:
بلى يا رسول الله قال: فليبلغ الشاهد الغائب
وأخرج البيهقي عن أبي أمامة قال «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن الله أذهب نخوة الجاهلية وتكبرها بآبائها كلكم لآدم وحواء كطف الصاع بالصاع وإن أكرمكم عند الله أتقاكم فمن أتاكم ترضون دينه وأمانته فزوجوه» وأخرج أحمد وجماعة نحوه لكن ليس فيه «فمن أتاكم» إلخ.
وأخرج البزار عن حذيفة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان»
وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقول الله يوم القيامة أيها الناس إني جعلت نسبا وجعلتم نسبا فجعلت أكرمكم عند الله أتقاكم فأبيتم إلا أن تقولوا: فلان بن فلان وفلان أكرم من فلان وإني اليوم أرفع نسبي واضع نسبكم ألا إن أوليائي المتقون» وأخرج الخطيب عن علي كرم الله تعالى وجهه نحوه مرفوعا.
وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه وأبو يعلى والبغوي وابن قانع والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي ريحانة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من انتسب إلى تسعة آباء كفار يريد بهم عزا وكبرا فهو عاشرهم في النار»
وأخرج
البخاري والنسائي عن أبي هريرة قال: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أي الناس أكرم؟ قال: أكرمهم عند الله أتقاهم قالوا: ليس عن هذا نسألك قال: فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله قالوا: ليس عن هذا نسألك قال: فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم قال: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا»
والأحاديث في هذا الباب أكثر من أن تحصى. وفي الآية إشارة إلى وجه رد التفاخر بالنسب حيث أفادت أن شرف النسب غير مكتسب وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى [النجم: ٣٩] وأنه لا فرق بين النسيب وغيره من جهة المادة لاتحاد ما خلقا منه، ولا من جهة الفاعل لأنه هو الله تعالى الواحد، فليس للنسب شرف يعول عليه ويكون مدارا للثواب عند الله عز وجل، ولا أحد أكرم من أحد عنده سبحانه إلا بالتقوى وبها تكمل النفس وتتفاضل الأشخاص، وهذا لا ينافي كون العرب أشرف من العجم وتفاوت كل من العرب والعجم في الشرف، فقد ذكروا أن الفرس أشرف من النبط، وبنو إسرائيل أفضل من القبط.
وأخرج مسلم. وغيره عن واثلة بن الأسقع قال: «قال صلّى الله عليه وسلّم إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم»
لأن ذلك ليس إلا باعتبار الخصال الحميدة، فشرف العرب على العجم مثلا ليس إلا باعتبار أن الله تعالى امتازهم على من سواهم بفضائل جمة وخصال حميدة كما صحت به الأحاديث، وقد جمع الكثير منها العلامة ابن حجر الهيتمي في كتابه مبلغ الأرب في فضائل العرب، ولا نعني بذلك أن كل عربي ممتاز على كل عجمي بالخصال الحميدة بل إن المجموع ممتاز على المجموع، ثم إن أشرف العرب نسبا أولاد فاطمة رضي الله تعالى عنها لأنهم ينسبون إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم كما صرح به جمع من الفقهاء.
وأخرج الطبراني عن فاطمة رضي الله تعالى عنها قالت: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كل بني آدم ينتمون إلى عصبة إلا ولد فاطمة فأنا وليهم وأنا عصبتهم»
وفي رواية له عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه «كل ابن أنثى كان عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة فأنا عصبتهم وأنا أبوهم» ونوزع في صحة ذلك، ورمز الجلال السيوطي للأول بأنه حسن، وتعقب وليس الأمر موقوفا على ما ذكر لظهور دليله.
وقد أخرج أحمد. والحاكم في المستدرك عن المسور بن مخرمة ولا كلام فيه. قال: «قال صلّى الله عليه وسلّم فاطمة بضعة مني يقبضني ما يقبضها ويبسطني ما يبسطها وإن الأنساب كلها تنقطع يوم القيامة غير نسبي وسببي وصهري»
وحديث بضعية فاطمة رضي الله تعالى عنها مخرج في صحيح البخاري أيضا، قال الشريف السمهودي: ومعلوم أن أولادها بضعة منها فيكونون بواسطتها بضعة منه صلّى الله عليه وسلّم، وهذا غاية الشرف لأولادها، وعدم انقطاع نسبه صلّى الله عليه وسلّم جاء أيضا
في حديث أخرجه ابن عساكر عن عمر رضي الله تعالى عنه مرفوعا بلفظ «كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة الا نسبي وصهري»
والذهبي وإن تعقبه بقوله فيه ابن وكيع لا يعتمد لكن استدرك ذلك بأنه ورد فيه مرسل حسن، ويعلم مما ذكر ونحوه. كما قال المناوي. عظيم نفع الانتساب إليه صلّى الله عليه وسلّم، ولا يعارضه ما في أخبار أخر من حثه عليه الصلاة والسلام لأهل بيته على خشية الله تعالى واتقائه سبحانه وأنه عليه الصلاة والسلام لا يغني عنهم من الله تعالى شيئا حرصا على إرشادهم وتحذيرا لهم من أن يتكلوا على النسب فتقصر خطاهم عن اللحوق بالسابقين من المتقين، وليجتمع لهم الشرفان شرف التقوى وشرف النسب، ورعاية لمقام التخويف خاطبهم عليه الصلاة والسلام
بقوله: «لا أغني عنكم من الله شيئا»
والمراد لا أغني عنكم شيئا بمجرد نفسي من غير ما يكرمني الله تعالى به من نحو شفاعة فيكم ومغفرة منه تعالى لكم، وهو عليه الصلاة والسلام لا يملك لأحد نفعا ولا ضرا إلا بتمليك الله تعالى، والله سبحانه يملكه نفع أمته والأقربون أولى بالمعروف.
فعلى هذا لا بأس بقوله الرجل: أنا من ذرية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على وجه التحدث بالنعمة أو نحو ذلك من المقاصد الشرعية. وقد نقل المناوي عن ابن حجر أنه قال نهيه صلّى الله عليه وسلّم عن التفاخر بالأنساب موضعه مفاخرة تقتضي تكبرا
واحتقار مسلم، وعلى ما ذكرناه أولا
جاء قوله عليه الصلاة والسلام «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل» الحديث،
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب»
إلى غير ذلك، ومع شرف الانتساب إليه عليه الصلاة والسلام لا ينبغي لمن رزقه أن يجعله عاطلا عن التقوى ويدنسه بمتابعة الهوى، فالحسنة في نفسها حسنة وهي من بيت النبوة أحسن، والسيئة في نفسها سيئة وهي من أهل بيت النبوة أسوأ، وقد يبلغ اتباع الهوى بذلك النسيب الشريف إلى حيث يستحي أن ينسب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وربما ينكر نسبه. وعليه قيل لشريف سيىء الأفعال:
قال النبي مقال صدق لم يزل | يحلو لدى الاسماع والأفواه |
إن فاتكم أصل امرئ ففعاله | تنبيكم عن أصله المتناهي |
وأراك تسفر عن فعال لم تزل | بين الأنام عديمة الأشباه |
وتقول إني من سلالة أحمد | أفأنت تصدق أم رسول الله |
ولا ينفع الأصل من هاشم | إذا كانت النفس من باهله |
إذا قيل للكلب يا باهلي | عوى الكلب من شؤم هذا النسب |
مدار الكفاءة وعدمها على العار وعدمه في المعروف بين الناس. فمتى عدوا الباهلية عارا وشاع استنقاصها فيما بينهم وأبتها نفوسهم اعتبر ذلك وإن لم يكن عن أصل أصيل، وهذا نظير ما ذكروا فيما إذا اشترى الشخص دارا فتبين أن الناس يستشئمونها أنه بالخيار مع قول الجل من العلماء بنفي الشؤم المتعارف بين الناس اعتبارا لكون ذلك مما ينقص الثمن بين الناس وإن لم يكن له أصل فتأمله، وبالجملة شرف النسب مما اعتبر جاهلية وإسلاما، أما جاهلية فأظهر من صفحة رقم 316
أن يبرهن عليه، وأما إسلاما فيدل عليه اعتبار الكفاءة في النسب في باب النكاح على الوجه المفصل في كتب الفقه، ولم يخالف في ذلك فيما نعلم إلا الإمام مالك والثوري والكرخي من الحنفية، وبعض ما تقدم من الأخبار يؤيد كلامهم لكن أجيب عنه في محله، وكذا يدل عليه ما ذكروه في بيان شرائط الإمامة العظمى من أنه يشترطها فيها كون الإمام قرشيا، وقد أجمعوا على ذلك كما قال الماوردي، ولا اعتبار بضرار. وأبي بكر الباقلاني حيث شذا فجوزاها في جميع الناس، وقال الشافعية: فإن لم يوجد قرشي أي مستجمع لشروط الإمامة اعتبر كون الإمام كنانيا من ولد كنانة بن خزيمة، فإن تعذر اعتبر كونه من بني إسماعيل عليه السلام، فإن تعذر اعتبر كونه من جرهم لشرفهم بصهارة إسماعيل عليه السلام إلى غير ذلك، ومع هذا كله فالتقوى التقوى فالاتكال على النسب وترك النفس وهواها من ضعف الرأي وقلة العقل، ويكفي في هذا الفصل قوله تعالى لنوح عليه السلام في ابنه كنعان: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ [هود: ٤٦]
وقوله عليه الصلاة والسلام: «سلمان منا أهل البيت»
فالحزم اللائق بالنسيب أن يتقي الله تعالى ويكتسب من الخصال الحميدة ما لو كانت في غير نسيب لكفته ليكون قد زاد على الزبد شهدا وعلق على جيد الحسناء عقدا ولا يكتفى بمجرد الانتساب إلى جدود سلفوا ليقال له: نعم الجدود ولكن بئس ما خلفوا، وقد ابتلى كثير من الناس بذلك فترى أحدهم يفتخر بعظم بال وهو عري كالإبرة من كل كمال. ويقول: كان أبي كذا وكذا وذاك وصف أبيه فافتخاره به نحو افتخار الكوسج بلحية أخيه، ومن هنا قيل:
وأعجب شيء إلى عاقل... أناس عن الفضل مستأخره
إذا سئلوا ما لهم من علا... أشاروا إلى أعظم ناخره
وقال الفاضل السري عبد الباقي أفندي العمري:
أقول لمن غدا في كل وقت... يباهينا بأسلاف عظام
أتقنع بالعظام وأنت تدري... بأن الكلب يقنع بالعظام
وما ألطف قوله:
لم يجدك الحسب العالي بغير تقى... مولاك شيئا فحاذر واتق الله
وابغ الكرامة في نيل الفخار به... فأكرم الناس عند الله أتقاها
وأكثر ما رأينا ذلك الافتخار البارد عند أولاد مشايخ الزوايا الصوفية فإنهم ارتكبوا كل رذيلة وتعروا عن كل فضيلة ومع ذلك استطالوا بآبائهم على فضلاء البرية واحتقروا أناسا فاقوهم حسبا ونسبا وشرفوهم أما وأبا وهذا هو الضلال البعيد والحمق الذي ليس عليه مزيد، ولولا خشية السأم لأطلقنا في هذا الميدان عنان كميت القلم على أن فيما ذكرنا كفاية لمن أخذت بيده العناية والله تعالى أعلم.
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قال مجاهد: نزلت في بني أسد بن خزيمة قبيلة تجاور المدينة أظهروا الإسلام وقلوبهم دغلة إنما يحبون المغانم وعرض الدنيا، ويروى أنهم قدموا المدينة في سنة جدبة فأظهروا الشهادتين وكانوا يقولون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: جئناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان يريدون بذكر ذلك الصدقة ويمنون به على النبي عليه الصلاة والسلام، وقيل: هم مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار قالوا: آمنا فاستحقينا الكرامة فرد الله تعالى عليهم، وأيا ما كان فليس المراد بالأعراب العموم كما قد صرح به قتادة. وغيره، والحلق الفعل علامة التأنيث لشيوع اعتبار التأنيث في الجموع حتى قيل:
لا تبالي بجمعهم... كل جمع مؤنث
والنكتة في اعتباره هاهنا الإشارة على قلة عقولهم على عكس ما روعي في قوله تعالى: وَقالَ نِسْوَةٌ [يوسف: ٣٠].
قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا إكذاب لهم بدعوى الإيمان إذ هو تصديق مع الثقة وطمأنينة القلب ولم يحصل لهم وإلا لما منوا على الرسول صلّى الله عليه وسلّم بترك المقاتلة كما دل عليه آخر السورة وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا فإن الإسلام انقياد ودخول في السلم وهو ضد الحرب وما كان من هؤلاء مشعر به، وكان الظاهر لم تؤمنوا ولكن أسلمتم أو لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا لتحصل المطابقة لكن عدل عن الظاهر اكتفاء بحصولها من حيث المعنى مع إدماج فوائد زوائد، بيان ذلك أن الغرض المسوق له الكلام توبيخ هؤلاء في منّهم بإيمانهم بأنهم خلوا عنه أولا وبأنهم الممتنون إن صدقوا ثانيا، فالأصل في الإرشاد إلى جوابهم قل كذبتم ولكن أخرج إلى ما هو عليه المنزل ليفيد عدم المكافحة بنسبة الكذب، وفيه حمل له عليه الصلاة والسلام على الأدب في شأن الكل ليصير ملكة لأتباعه وأن لا يلبسوا جلد النمر لمن يخاطبهم به وتلخيص ما كذبوا فيه.
ومن الدليل على أنه الأصل قوله تعالى في الآية التالية: أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ تعريضا بأن الكذب منحصر فيهم، وأوثر على لا تقولوا آمنا لاستهجان ذلك لا سيما من النبي صلّى الله عليه وسلّم المبعوث للدعوة إلى الإيمان، على أن إفادة لَمْ تُؤْمِنُوا لمعنى كذبتم أظهر من إفادة لا تقولوا آمنا كما لا يخفى، ثم قوبل بقوله سبحانه: وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا كأنه قيل: قل لم تؤمنوا فلا تكذبوا ولكن قولوا أسلمنا لتفوزوا بالصدق إن فاتكم الإيمان والتصديق ولو قيل: ولكن أسلمتم لم يؤد هذا المعنى، وفيه تلويح بأن إسلامهم وهو خلو عن التصديق غير معتد به ولو قيل ولكن أسلمتم لكان ذلك موهما أن ذلك معتد به والمطلوب كماله بالإيمان ولا يحتاج هذا إلى أن يقال: القول في المنزل مستعمل في معنى الزعم، وقيل: في الآية احتباك. والأصل لم تؤمنوا فلا تقولوا آمنا ولكن أسلمتم فقولوا أسلمنا فحذف من كل من الجملتين ما أثبت في الأخرى والأول أبلغ وألطف وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ حال من ضمير قُولُوا كأنه قيل: قولوا أسلمنا ما دمتم على هذه الصفة، وفيه إشارة إلى توقع دخول الإيمان في قلوبهم بعد فليس هذا النفي مكررا مع قوله تعالى: لَمْ تُؤْمِنُوا وقيل: الجملة مستأنفة ولا تكرار أيضا لأن لما تفيد النفي الماضي المستمر إلى زمن الحال بالإجماع وتفيد أن منفيها متوقع خلافا لأبي حيان ولم- لا تفيد شيئا من ذلك بلا خلاف فلا حاجة في دفع التكرار إلى القول بالحالية وجعل الجملة توقيتا للقول المأمور به وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بالإخلاص وترك النفاق لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ لا ينقصكم شَيْئاً من أجورها أو شيئا من النقص يقال لاته يليته ليتا إذا نقصه، ومنه ما حكى الأصمعي عن أم هشام السلولية الحمد لله الذي لا يفات ولا يلات ولا تصمه الأصوات وقرأ الحسن والأعرج وأبو عمرو «لا يألتكم» من ألت يألت بضم اللام وكسرها ألتا وهي لغة أسد وغطفان، قال الحطيئة:
أبلغ سراة بني سعد مغلغلة... جهد الرسالة لا ألتا ولا كذبا
والأولى لغة الحجاز والفعل عليها أجوف وعلى الثانية مهموز الفاء، وحكى أبو عبيدة ألات يليت إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لما فرط من المطيعين رَحِيمٌ بالتفضل عليهم إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا لم يشكوا من ارتاب مطاوع را به إذا أوقعه في الشك مع التهمة وجعل عدم الارتياب متراخيا عن الإيمان مع أنه لا ينفك عنه لإفادة نفي الشك فيما بعد عند اعتراء شبهة كأنه قيل: آمنوا ثم لم يعترهم ما يعتري الضعفاء بعد حين، وهذا لا يدل على أنهم كانوا مرتابين أولا بل يدل على أنهم كما لم يرتابوا أولا لم يحدث لهم ارتياب ثانيا، والحاصل آمنوا ثم لم يحدث لهم ريبة فالتراخي زماني، وقال بعض الأجلة: عطف عدم الارتياب على الإيمان من باب مَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ [البقرة: ٩٨] تنبيها على أنه الأصل في الإيمان فكأنه شيء آخر أعلى منه كائن فيه، وأوثر ثُمَّ على الواو
للدلالة على أن هذا الأصل حديثه وقديمه سواء في القوة والثبات فهو أبدا على طراوته لا أنه شيء واحد مستمر فيكون كالشيء الخلق بل هو متجدد طري حينا بعد حين، ولا بأس بأن يجعل ترشيحا لما دل عليه معنى العطف لما جعل مغايرا نبه على أنه ليس تغاير ما بين الاستمرار والحدوث بل تغاير شيئين مختلفين ليدل على المعنى المذكور وأنهم في زيادة اليقين آنا فآنا، أما عند من يقول فيه بالقوة والضعف فظاهر، وأما من لم يقل به فلانضمام العيان إلى البيان، والفرق بين الاستمرارين أن الاستمرار على الأول استمرار المجموع نحو قوله تعالى: قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت:
٣٠، الأحقاف: ١٣] أي استمر بذلك إيمانهم مع عدم الارتياب، وعلى الثاني الاستمرار معتبر في الجزء الأخير، وهذا الوجه أوجه، وأيا ما كان ففي الكلام تعريض بأولئك الأعراب وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في طاعته عز وجل على تكثير فنونها من العبادات البدنية المحضة والمالية الصرفة والمشتملة عليهما معا كالحج والجهاد، وتقديم الأموال على الأنفس من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى، ويجوز بأن يقال: قدم الأموال لحرص الكثير عليها حتى أنهم يهلكون أنفسهم بسببها مع أنه أوفق نظرا إلى التعريض بأولئك حيث إنهم لم يكفهم أنهم لم يجاهدوا بأموالهم حتى جاؤوا أو أظهروا الإسلام حبا للمغانم وعرض الدنيا ومعنى جاهَدُوا بذلوا الجهد أو مفعوله مقدر أي العدو أو النفس والهوى أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر من الأوصاف الجميلة هُمُ الصَّادِقُونَ أي الذين صدقوا في دعوى الإيمان لا أولئك الأعراب. روي أنه لما نزلت الآية جاؤوا وحلفوا أنهم مؤمنون صادقون فنزل لتكذيبهم قوله تعالى: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ أي أتخبرونه سبحانه وتعالى بذلك بقولكم آمنا. فتعلمون. من علمت به فلذا تعدى بالتضعيف لواحد بنفسه وإلى الثاني بحرف الجر، وقيل: إنه تعدى به لتضمين معنى الإحاطة أو الشعور فيفيد مبالغة من حيث إنه جار مجرى المحسوس وقوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ حال من مفعول تُعَلِّمُونَ وفيه من تجهيلهم ما لا يخفى، وقوله سبحانه: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تذييل مقرر لما قبله أي مبالغ في العلم بجميع الأشياء التي من جملتها ما أخفوه من الكفر عند إظهارهم الإيمان يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا أي يعتدون إسلامهم منة عليك وهي النعمة التي لا يطلب موليها ثوابا ممن أنعم بها عليه من المن بمعنى القطع لأن المقصود بها قطع حاجته، وقال الراغب: هي النعمة الثقيلة من المن الذي يوزن به وثقلها عظمها أو المشقة في تحملها، وأَنْ أَسْلَمُوا في موضع المفعول. ليمنون. لتضمينه معنى الاعتداد أو هو بتقدير حرف الجر فيكون المصدر منصوبا بنزع الخافض أو مجرورا بالحرف المقدر أي يمنون عليك بإسلامهم، ويقال نحو ذلك في قوله تعالى: قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ فهو إما على معنى لا تعتدوا إسلامكم منة علي أو لا تمنوا علي بإسلامكم، وجوز أبو حيان أن يكون أَنْ أَسْلَمُوا مفعولا من أجله أي يتفضلون عليك لأجل إسلامهم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ أي ما زعمتم في قولكم آمنا فلا ينافي هذا قوله تعالى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا أو الهداية مطلق الدلالة فلا يلزم إيمانهم وينافي نفي الإيمان السابق.
وقرأ عبد الله. وزيد بن علي «إذ هداكم» بإذ التعليلية، وقرىء «إن هداكم» بإن الشرطية إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في ادعاء الإيمان فهو متعلق الصدق لا الهداية فلا تغفل وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أي فلله المنة عليكم، ولا يخفى ما في سياق الآية من اللطف والرشاقة، وذلك أن الكائن من أولئك الأعراب قد سماه الله تعالى إسلاما إظهارا لكذبهم في قولهم: آمنا أي أحدثنا الإيمان في معرض الامتنان ونفى سبحانه أن يكون كما زعموا إيمانا فلما منوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما كان منهم قال سبحانه لرسوله عليه الصلاة والسلام: يعتدون عليك بما ليس جديرا بالاعتداد به من حديثهم الذي حق تسميته أن يقال له إسلام فقل لهم: لا تعتدوا علي إسلامكم أي حديثكم المسمى
إسلاما عندي لا إيمانا، ثم قال تعالى: بل الله يعتد عليكم أن أمدكم بتوفيقه حيث هداكم للإيمان على ما زعمتم، وفي قوله تعالى: إِسْلامَكُمْ بالإضافة ما يدل على أن ذلك غير معتد به وأنه شيء يليق بأمثالهم فأنى يخلق بالمنة، وللتنبيه على أن المراد بالإيمان الإيمان المعتد به لم يضفه عز وجل، ونبه سبحانه بقوله جل وعلا: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ على أن ذلك كذب منهم، واللطف في تقديم التكذيب ثم الجواب عن المن مع رعاية النكت في كل من ذلك، وتمام الحسن في التذييل بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ما غاب فيهما وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي في سركم وعلانيتكم فكيف يخفى عليه سبحانه ما في ضمائركم، وذلك ليدل على كذبهم وعلى اطلاعه عز وجل خواص عباده من النبي صلّى الله عليه وسلّم وأتباعه رضي الله تعالى عنهم. وقرأ ابن كثير. وابان، عن عاصم «يعملون» بياء الغيبة والله تعالى أعلم.
ومن باب الإشارة في بعض الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلخ إشارة إلى لزوم العمل بالشرع ورعاية الأدب وترك مقتضيات الطبع، وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا يشير إلى أنه إن سولت النفس الأمارة بالسوء وجاءت بنبإ شهوة من شهوات الدنيا ينبغي التثبت للوقوف على ربحها وخسرانها أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً من القلوب وصفاتها بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا صباح يوم القيامة عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ فإن ما فيه شفاء النفوس وحياتها فيه مرض القلوب ومماتها وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ إلخ يشير إلى رسول الإلهام الرباني في الأنفس بلهم فجورها وتقواها، ويشير قوله تعالى: فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ إلى أن النفس إذا ظلمت القلب باستيلاء شهواتها يجب أن تقاتل حتى تثخن بالجراحة بسيوف المجاهدة فإن استجابت بالطاعة عفي عنها لأنها هي المطية إلى باب الله عز وجل إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ إشارة إلى رعاية حق الاخوة الدينية ومنشأ نطفها صلب النبوة وحقيقتها نور الله تعالى فإصلاح ذات بينهم برفع حجب أستار البشرية عن وجوه القلوب ليتصل النور بالنور من روزنة القلب فيصيروا كنفس واحدة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ يشير إلى ترك الإعجاب بالنفس والنظر إلى أحد بعين الاحتقار فإن الظاهر لا يعبأ به والباطن لا يطلع عليه فرب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله تعالى لأبره قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا إلى آخره فيه إشارة إلى أنه ينبغي ترك رؤية الأعمال والعلم بأن المنة في الهداية لله الملك المتعال، وفيه إرشاد إلى كيفية مخاطبة الجاهلين والرد على المحجوبين كما سلفت الإشارة إليه، هذا ونسأل الله تعالى التوفيق لما يرضاه يوم العرض عليه.