
قوله تعالى: وَلا تَجَسَّسُوا.. الخ، التجسُّس عن أخبار الناس من علامة الإفلاس، قال القشيري: العارف لا يتفرّغ من شهود الحقِّ إلى شهود الخلق، فكيف يتفرّغ إلى التجسُّس عن أحوالهم؟! لأن مَن اشتغل بنفسه لا يتفرَغ إلى الخلق، ومَن اشتغل بالحق لا يتفرّغ لنفسه، فكيف إلى غيره؟! هـ.
قوله تعالى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، ليست الغيبة خاصة باللسان في حق الخاصة، بل تكون أيضاً بالقلب، وحديث النفس، فيُعاتبون عليها كما تُعاتَب العامةُ على غيبة اللسان، وتذكّر قضية الجنيد مع الفقير الذي رآه يسأل، وهي مشهورة، وتقدّمت حكاية أبي سعيد الخراز، ونقل الكواشي عن أبي عثمان: أنَّ مَن وجد في قلبه غيبةً لأخيه، ولم يعمل في صرف ذلك عن قلبه بالدعاء له خاصة، والتضرُّع إلى الله بأن يُخلِّصَه منه أخاف أن يبتليه الله في نفسه بتلك المعايب. هـ. قال القشيري: وعزيزٌ رؤيةُ مَن لا يغتاب أحداً بين يديك. هـ. وقد أبيحت الغيبة في أمور معلومة، منها: التحرُّز منه لئلا يقع الاغترار بكلامه أو صحبته، والترك أسلم وأنجى.
ثم نهى عن الافتخار بالأنساب، فقال:
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٣]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى آدم وحوّاء، أو: كل واحد منكم من أبٍ وأم فما منكم من أحد إلا وهو يُدلي بما يُدلي به الآخر، سواء بسواء، فلا معنى للتفاخر والتفاضل بالنسب. وفي الحديث: «لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقى» «١». وقال أيضاً: «ثلاثة من أمر الجاهلية الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والدعاء بدعاء الجاهلية» «٢» أو كما قال صلّى الله عليه وسلم.
وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ، الشعوب: رؤوس القبائل، مثل ربيعة ومضر، والأوس والخزرج، واحدها:
شَعب- بفتح الشين، سُمُّوا بذلك لتشعُّبهم كتشعُّب أغصان الشجرة، والقبائل: دون الشعوب، واحدها: قبيلة، كبَكر من ربيعة، وتميم من مضر. ودون القبائل: العمائر، جمع عَمارة بفتح العين، وهم كشيبان من بكر، ودارم من تميم،
(٢) ذكره الهيثمي فى المجمع (٣/ ١٦) بنحوه، وعزاه للطبرانى فى الكبير. عن سلمان مرفوعا، وقال: «فيه عبد الغفور أبو الصباح، وهو ضعيف».

ودون العمائر: البطون، واحدها: بطن، وهي كبني غالب ولؤي من قريش، ودون البطون: الأفخاذ، واحدها: فَخْذ، كهاشم وأمية من بني لؤي، ثم الفصائل والعشائر، واحدها: فصيلة وعشيرة، فالشعب تجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعَمارة تجمع البطون، والبطن يجمع الأفخاذ، والفخذ يجمع الفصائل «١». وقيل: الشعوب من العجم، والقبائل من العرب، والأسباط من بني إسرائيل. لِتَعارَفُوا أي: إنما جعلناكم كذلك ليعرف بعضُكم نسبَ بعض، فلا يتعدّى إلى غير آبائه، لا لتتفاخروا بالأجداد والأنساب.
ثم ذكر الخصلة التي يفضل بها الإنسان، ويكتسب الشرفَ والكرمَ عند الله، فقال: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ أي: لا أنسبكم، فإنَّ مدار كمال النفوس وتفاوت الأشخاص هو التقوى، فمَن رام نيل الدرجات العلا فعليه بالتقوى، قال صلّى الله عليه وسلم: «مَنْ سَرَّهُ أنْ يَكُونَ أكْرَم النَّاسِ فَلْيَتقِ الله» «٢» وروى أنه صلّى الله عليه وسلم طاف يوم فتح مكة، ثم حمد الله، وأثنى عليه، وقال: «الحمْدُ للهِ الَّذِي أذهب [عُبِّيَّةَ] «٣» الجاهلية وتكبُّرها يا أيها الناس إِنما الناس رجلان رجل مؤمن تَقيّ كريمٌ على الله، ورجل فاجر شقي هَيِّن على الله» ثم قرأ الآية «٤».
وعن ابن عباس- رضي الله عنهما: كرم الدنيا الغنى، وكرم الآخرة التقى. وقال قتادة: أكرم الكرم التقى، والأمُ اللؤم الفجور، وسُئل عليه السلام عن خير الناس؟ فقال: «آمرُكم بالمعروف، وأنهاكم عن المنكر، وأوصلكم للرحم» وقال عمر رضي الله عنه: «كرم الرجل: دينه وتقواه، وأصله: عقله، ومروءته: خُلقه، وحَسَبُه: ماله» «٥».
وعن يزيد بن شَجَرَةَ: مرّ رسولُ الله ﷺ في سوق المدينة، فرأى غلاماً أسود، قائماً يُنادَى عليه مَن يزيد في ثمنه، وكان الغلام يقول: مَن اشتراني فعلى شرط ألاَّ يمنعني من الصلوات الخمس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتراه
اقصد الشعب فهو أكثر حى | عددا فى الحواء ثم القبيلة |
ثم تتلوها العمارة ثم ال | بطن والفخذ بعدها والفصيلة |
ثم من بعدها العشيرة لكن | هى فى جنب ما ذكرناه قليله |
(٣) فى الأصول [غيبة] أما عن معناها، فقال ابن الأثير: يعنى الكبر، وتضم عينها وتكسر، وهى فعّولة أو فعّيلة، فإن كانت «فعّولة» فهى من التّعبية، لأن المتكبر ذو تكلف وتعبية، خلاف من يسترسل على سجيته، وإن كانت «فعّلية» فهى من عباب الماء، وهو أوله وارتفاعه. انظر النّهاية (عبب ٣/ ١٦٩)..
(٤) أخرجه بطوله الترمذي فى (التفسير سورة الحجرات، ح ٣٢٧٠)، والبغوي فى تفسيره (٧/ ٣٤٨) وفى شرح السنة (١٣/ ١٢٤) من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
(٥) أخرجه ابن أبى شيبة (٨/ ٥٢٠) والبيهقي فى السنن (١٩٥/ ١٠) من قول سيدنا عمر، موقوفا، بلفظ «حسب الرّجل دينه، ومروءته خلقه، وأصله عقله، وأخرج الإمام مالك فى الموطأ (ص ٤٦٣) عن سيدنا عمر موقوفا: «الكرم التقوى، والحسب والمال... »، وأخرج أحمد (٢/ ٣٦٥) والحاكم (١/ ١٢٣) والبيهقي فى السنن (٧/ ١٣٦) وابن حبان (إحسان- ٤٨٣) والقضاعي فى مسند الشهاب (١٩٠) عن أبى هريرة، مرفوعا: «كرم المرء دينه، ومروءته عقله، وحسبه خلقه» قال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم».

بعضهم، فعادَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثم تُوفي، فتولى رسولُ الله ﷺ غُسله وتكفينَه ودفنَه، فقالت المهاجرون: هاجرنا ديارنا وأموالنا وأهلينا، فما نرى أحداً منا لقي في حياته ولا موته ما لقي هذا الغلام، وقالت الأنصار: آويناه ونصرناه وواسيناه بأموالنا، فآثر علينا عبداً حبشيّاً، فنزلت «١».
وقال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ لا يَنظُرُ إلَى صُوَرِكُم، ولاَ إلى أموالكم، ولكن يَنظُرُ إلَى قُلوبِكُم وأعمَالِكُم، وإنما أنتم بنو آدم، أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ، وأنتم تقولون: فلان بن فلان، وأنا اليوم أرفَع نسبي وأضع أنسابكم، أين المتقون» «٢». وقِيلَ:
يا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أكرمُ الناس؟ قال: «أتقاهم» «٣». هـ وأنشدوا:
مَا يَصْنع الْعَبدُ بعِزّ الْغِنَى | وَالْعِزُّ كُلُّ العزِّ للمُتَّقِي |
مَنْ عرف الله فلم تُغنِه | مَعرفةُ الله فذاك الشَّقِي |
الإشارة: كان سيدنا عليّ رضي الله عنه يقول: «ما لابن آدم والفخر، أوله نُطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وفيما بينهما يحمل العذرة» وكان يُنشد:
الناسُ من جِهة التمثيل أَكْفاءُ | أَبوهم آدمٌ والأم حوّاءٌ |
ومَن يَرْمِ منهُم فَخْراً بذي نَسب | فإن أصْلَهُم الطِّينُ والماءُ |
مَا الفَخْرُ إِلاَّ لأَهْلِ العِلْمِ إِنَّهُمُ | عَلَى الهُدَى لَمن اهتدى أدلاَّءُ |
وَقَدْرُ كل امرئ مَا كَانَ يُتْقِنُهُ | والجَاهِلُون لأَهْلِ العلْمٍ أَعْدَاءُ «٤» |
(٢) أخرجه إلى قوله: «وأعمالكم» مسلم فى (البر والصلة، باب تحريم ظلم المسلم وخذله، رقم ٢٥٦٤، ح ٣٤) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه. والجزء الثاني جاء فى حديث، لفظه: «إذا كان يوم القيامة أمر الله مناديا ينادى: ألا إنى جعلت نسبا وجعلتم نسبا، فجعلت أكرمكم أتقاكم، فأبيتم إلا أن تقولوا: فلان بن فلان خير من فلان بن فلان، فاليوم أرفع نسبى وأضع نسبكم، أين المتقون؟» الحديث أخرجه الطبراني فى الأوسط (ح ٤٥١١) والصغير (٦٣٤) وبنحوه البيهقي فى الشعب (ح ٥١٣٩) عن أبى هريرة رضي الله عنه.
(٣) بعض حديث أخرجه البخاري فى (التفسير، سورة يوسف، باب: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ ح ٤٦٨٩) ومسلم فى (الفضائل، باب من فضائل يوسف عليه السّلام رقم ٢٣٧٨) عن أبى هريرة رضي الله عنه. ولفظ البخاري: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي النّاس أكرم؟ قال: «أكرمهم عند الله أتقاهم» ولفظ مسلم نحوه.
(٤) هكذا فى الأصول، وانظر ديوان «الإمام علىّ» جمع وضبط «نعيم زرزور» (ص ٥- ٦) وتفسير القرطبي (٧/ ٦٣٤٧) وإتحاف السادة المتقين (١/ ٨٨) فقد جاءت الأبيات فيها بأتم من هنا مع اختلاف.