
رواية كنت أنا وأمي ممن عذرهم الله» «١».
ويروي الشيعة في مناسبة الآية [٢٥] رواية جاء فيها «قيل للإمام الصادق ألم يكن علي قويّا في دين الله. قال بلى. قيل فكيف ظهر عليه القوم وكيف لم يدفعهم وما منعه من ذلك. قال آية في كتاب الله وهي لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً. لقد كان لله ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين ومنافقين. ولم يكن علي ليقتل الآباء حتى يخرج الودائع. فلما خرجت على عليّ ظهر من ظهر فقتلهم» «٢».
والكلام في صدد عدم مقاتلة علي لأبي بكر وعمر وعثمان وجمهور أصحاب رسول الله الذين يزعم الشيعة أنهم غصبوا حقه وخالفوا وصية رسول الله. وفي هذا من الهراء والسخف ما هو واضح. وننزه الإمام الصادق عن قوله واعتباره جمهور أصحاب رسول الله كافرين ومنافقين والعياذ بالله. ولقد قاتل النبي الكفار ولم يمنعهم احتمال أن يخرج من أصلابهم مؤمنون. ولقد قاتل علي طوائف من المسلمين في ما يسمى في وقائع الجمل وصفّين وحروراء لأنه اجتهد في صواب ذلك ولم يمنعه كونهم مسلمين أو احتمال خروج مؤمنين من أصلابهم ولقد ثبت يقينا أن عليا رضي الله عنه بايع أبا بكر ثم عمر ثم عثمان رضي الله عنهم وتعاون معهم في مختلف ميادين العمل العام ولا شك في أنه يعرف أن النبي لو كان وصّى له لما بايعهم ولقاتلهم لأجل تنفيذ وصية رسول الله دون أن يمنعه أي شيء لأن ذلك واجب ديني. هذا فضلا عن أن أبا بكر وعمر وعثمان والجمهور الأعظم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وسجل الله رضاءه عنهم في القرآن (سورة التوبة الآية ١٠٠) أتقى من أن يجمعوا على مخالفة وصية رسول الله لأن تنفيذها واجب ديني قبل أي شيء.
[سورة الفتح (٤٨) : آية ٢٧]
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧).
(٢) المصدر نفسه.

(١) محلّقين رؤوسكم: بمعنى حلق شعر الرأس جميعه.
(٢) مقصّرين: بمعنى تقصير شعر الرأس تقصيرا دون حلقه. والحلاقة والتقصير هي هنا لأجل التحلل من الإحرام.
تعليق على الآية لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ | وخبر زيارة النبي ﷺ والمسلمين للكعبة |
وهي والحالة هذه جزء من السياق. وقد احتوت:
(١) تصديقا ربانيا لصحة رؤيا النبي ﷺ بأنه زار الكعبة مع أصحابه وكونها حقا.
(٢) وتوكيدا ربانيا بتحقيق هذه الرؤيا وبدخولهم المسجد الحرام وبقيامهم بطقوس الزيارة آمنين مطمئنين. منهم المحلقون ومنهم المقصرون دون ما خوف ولا اضطراب.
(٣) وإشارة إلى ما انتهى إليه سفر الحديبية على سبيل تبرير النهاية: فإذا كان قد انتهى إلى ما انتهى إليه من عدم تحقيق الرؤيا في نفس الرحلة فذلك ناتج عن حكمة الله ولم يعلموها حيث اقتضت أن يكون بدل الزيارة في هذه الرحلة الفتح القريب الذي يسّره لهم.
وفي الآية كما هو ظاهر تأييد للروايات المروية من أن النبي ﷺ إنما اعتزم الخروج لزيارة الكعبة استلهاما من رؤيا رآها في منامه، ورؤياه حق. وهذا الذي جعل بعض المسلمين يذهلون حينما انتهى الموقف بدون تحقيق هذه الزيارة في هذه الرحلة. وقد استهدفت الآية التصديق والتثبيت مع الوعد الرباني بتحقيق الرؤيا. صفحة رقم 612

ولقد تحقق الوعد الرباني فتمّت الزيارة في العام القابل حسب الاتفاق.
وأدّى المسلمون مناسكها آمنين مطمئنين فكان ذلك معجزة من معجزات القرآن.
ومما روي عن ذلك «١» أن النبي ﷺ خرج في ذي القعدة من السنة السابعة على رأس ألفين من أصحابه كان معظمهم ممن شهدوا صلح الحديبية. وقدموا أمامهم الهدي ولم يكن معهم إلا سيوفهم في أغمادها. ولما أقبلوا على مكة خرج أهلها إلى رؤوس الجبال عدا رجال منهم اصطفوا عند دار الندوة لمشاهدة مشهد دخول النبي وأصحابه الذين دخلوا مهلّلين مكبّرين وقد هتف النبي بأصحابه (رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة) ثم أقبل النبي وأصحابه نحو الكعبة فطافوا بها وارتقى بلال فوقها فأذن للصلاة. وارتجز عبد الله بن رواحة بين يدي رسول الله:
خلّوا بني الكفار عن سبيله | خلوا فكل الخير مع رسوله |
نحن ضربناكم على تأويله | كما ضربناكم على تنزيله |
ضربا يزيل الهام عن مقيله | ويذهل الخليل عن خليله |
(٢) روى هذا الشعر وهتاف النبي ﷺ ابن هشام ج ٣ ص ٤٢٤ و ٤٢٥، وابن سعد ج ٣ ص ١٦٧- ١٦٩. وهناك روايات أخرى للشعر رواها ابن كثير فيها زيادات. ولقد قال ابن هشام إن البيت الثالث وما بعده ليس لعبد الله بن رواحة وإنما هو لعمار بن ياسر قاله في غير هذا اليوم. واستدلّ على صحة ذلك قائلا إن الذي يقاتل على التأويل يكون قد اعترف بالتنزيل ولم يكن مشركو قريش اعترفوا بذلك. والتعليل وجيه. على أننا نشك في الشعر كله وفي هتاف النبي صلى الله عليه وسلم. فليس شيء من ذلك واردا في الصحاح. والنبي والمسلمون وصلوا مكة في هذا الظرف بناء على اتفاق الحديبية الذي كان اتفاق صلح أو هدنة. والشعر والهتاف أحرى أن يكونا في ظرف انتصار حربي. ومن المعقول والمحتمل أن يكون ذلك حينما دخل النبي والمسلمون مكة عنوة فاتحين في السنة الثامنة للهجرة على ما سوف يرد شرحه بعد في سياق سورة الحديد. بل لقد روى أن النبي ﷺ قال في خطبته بعد أن تم فتح مكة (لا إله إلّا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)، وهي الفقرة التي يروى أن النبي أمر عبد الله بن رواحة أن يقولها بدلا من شعره...