آيات من القرآن الكريم

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ۖ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ۖ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا
ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ

ولما بين شرط استحقاقهم للعذاب، بين وقته، وفيه بيان لعلته، فقال: ﴿إذ﴾ أي حين ﴿جعل الذين كفروا﴾ أي ستروا ما تراءى من الحق في مرأى عقولهم ﴿في قلوبهم﴾ أي قلوب أنفسهم ﴿الحمية﴾ أي

صفحة رقم 329

المنع الشديد والأنفة والإباء الذي هو في شدة حره ونفوذه في أشد الأجسام كالسم والنار، ولما كان مثل هذه الحمية قد تكون موجبة للرحمة بأن تكون لله، قال مبيناً معظماً لجرمها، ﴿حمية الجاهلية﴾ التي مدارها مطلق المنع أي سواء كان بحق أو بباطل، فتمنع من الإذعان للحق، ومبناها التشفي على مقتضى الغضب لغير الله فتوجب تخطي حدود الشرع، ولذلك أنفوا من دخول المسلمين مكة المشرفة لزيارة البيت العتيق الذي الناس فيه سواء، ومن الإقرار بالبسملة، فأنتجت لهم هذه الحمية أن تكبروا عن كلمة التقوى وطاشوا وخفوا إلى الشرك الذي هو أبطل الباطل.
ولما كانت هذه الحمية مع الكثرة موجبة ولا بد ذل من تصوب إليه ولا سيما إن كان قليلاً، بين دلالة على أن الأمر تابع لمشيئته لا لجاري العادة أنه تأثر عنها ضد ما تقتضيه عادة، فقال مسبباً عن هذه الحمية: ﴿فأنزل الله﴾ أي الذي لا يغلبة شيء وهو يغلب كل شيء بسبب حميتهم ﴿سكينته﴾ أي الشيء اللائق إضافته إليه سبحانه من الفهم عن الله والروح الموجب لسكون القلب المؤثر للإقدام على العدو والنصر عليه، إنزالاً كائناً ﴿على رسوله﴾ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي عظمته من عظمته،

صفحة رقم 330

ففهم عن الله مراده في هذه القضية فجرى على أتم ما يرضيه ﴿وعلى المؤمنين﴾ رضي الله تعالى عنهم العريقين في الإيمان لأنهم أتباع رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنصار دينه فألزمهم قبول أمره الذي فهمه عن الله وخفي عن أكثرهم حتى فهمتموه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند نزول سورة محمد وحماهم عن همزات الشياطين، ولم يدخلهم ما دخل الكفار من الحمية ليقاتلوا غضباً لأنفسهم فيتعدوا حدود الشرع ﴿وألزمهم﴾ أي المؤمنين إلزام إكرام أو تشريف، لا إلزام إهانة وتعنيف ﴿كلمة التقوى﴾ وهي كل قول أو فعل ناشىء عن التقوى وإعلاء كلمة الإخلاص المتقدم في سورة القتال وهي لا إله إلا الله التي هي أحق الحق، يقتضي التحقق بمدلولها من أنه لا فاعل إلا الله الثبات على كل ما أخبر به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التوحيد والبسملة والرسالة مع تغيير الكتابة بكل منهما لأجل الكفار في ذلك المقام الدحض الذي لا يكاد يثبت فيه قدم، وأضافها إلى التقوى التي هي اتخاذ ساتر يقي حر النار فجعلها وصفاً لازماً لهم غير منفك عنهم لأنها سببها الحامل عليها، ويجمع الحامل على التقوى اعتقاد الوحدانية وهي لا إلا الله فإنها كلمة - كما قال الرازي - أولها نفي الشرك وآخرها تعلق بالإلهية، وهذا من أعلام النبوة، فإن أهل الحديبية الذين ألزموا هذه الكلمة ماتوا كلهم

صفحة رقم 331

على الإسلام ﴿وكانوا﴾ أي جبلة وطبعاً.
ولما كان من الكفار من يستحقها في علم الله فيصير مؤمناً، عبر فأفعل التفضيل فقال تعالى: ﴿أحق بها﴾ أي كلمة التقوى من الكفار والأعرب وغيرهم من جميع الخلق، ولمثل هذا التعميم أطلق الأمر بحذف المفضل عليه. ولما كان الأحق بالشيء قد لا يكون أهله من أول الأمر قال تعالى: ﴿وأهلها﴾ أي ولاتها والملازمون لها ملازمة العشير بعشيره والدائنون لها والآلفون لها. ولما كان الحكم بذلك لا يكون إلا لعالم قال عاطفاً على ما تقديره: لما علم الله من صلاح قلوبهم وصفائها: ﴿وكان الله﴾ أي المحيط بالكائنات كلها علماً وقدرة ﴿بكل شيء﴾ من ذلك وغيره ﴿عليماً *﴾ أي محيط العلم الدقيق والجلي، والآية من الاحتباك: ذكر حمية الجاهلية أولاً دليلاً على ضدها ثانياً، وكلمة التقوى ثانياً دليلاً على ضدها أولاً، وسره أنه ذكر مجمع الشر أولاً ترهيباً منه ومجمع الخير ثانياً ترغيباً فيه. ولما قرر سبحانه وتعالى علمه بالعواقب لإحاطة علمه ووجه أسباب كفه أيدي الفريقين وبين ما فيه من المصالح وما في التسليط من المفاسد من قتل من حكم بإيمانه من المشركين وإصابة

صفحة رقم 332

من لا يعلم من المؤمنين - وغير ذلك إلى ختم بإحاطة علمه المستلزم لشمول قدرته. أنتج ذلك قوله لمن توقع الإخبار عن الرؤيا التي أقلقهم أمرها وكاد بعضهم أن يزلزله ذكرها على سبيل التأكيد: ﴿لقد﴾.
ولما كان للنظر إلى الرؤيا اعتباران: أحدهما من جهة الواقع وهو غيب عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين: والآخر من جهة الإخبار وهو مع الرؤيا شهادة بالنسبة إليه سبحانه وتعالى، عبر بالصدق والحق فقال تعالى: ﴿صدق الله﴾ أي الملك الذي لا كفوء له المحيط بجميع صفات الكمال ﴿رسوله﴾ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي هو أعز الخلائق عنده وهو غني عن الإخبار عما لا يكون أنه يكون، فكيف إذا كان المخبر رسوله ﴿الرؤيا﴾ التي هي من الوحي لأنه سبحانه يرى الواقع ويعلم مطابقتها في أنكم تدخلون المسجد الحرام آمنين يحلق بعض ويقصر آخرون، متلبساً خبره ورؤيا رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿بالحق﴾ لأن مضمون الخبر إذا وقع فطبق بين الواقع وبينه، وكان الواقع يطابقه لا يخرم شيء منه عن شيء منه، والحاصل أنك إذا نسبتها للواقع طابقته فكان صدقاً، وإذا نسبت الواقع إليها طابقها فكانت حقاً.

صفحة رقم 333

ولما أقسم لأجل التأكيد لمن كان يتزلزل، أجابه بقوله مؤكداً بما يفهم القسم أيضاً إشارة إلى عظم الزلزال: ﴿لتدخلن﴾ أي بعد هذا دخولاً قد تحتم أمره ﴿المسجد﴾ أي الذي يطاف فيه بالكعبة ولا يكون دخوله إلى بدخول الحرم ﴿الحرام﴾ أي الذي أجاره الله من امتهان الجبابرة ومنعه من كل ظالم.
ولما كان لا يجب عليه سبحانه وتعالى شيء وإن وعد به، أشار إلى ذلك بقوله تأديباً لهم أن يقول منهم بعد ذلك: ألم يقل أننا ندخل البيت ونحو ذلك، ولغيرهم أن يقول: نحن ندخل: ﴿إن شاء الله﴾ أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال، حال كونكم ﴿آمنين﴾ لا تخشون إلا الله منقسمين بحسب التحليق والتقصير إلى قسمين ﴿محلقين رءوسكم﴾ ولعله أشار بصيغة التفعيل إلى أن فاعل الحق كثير، وكذا ﴿ومقصرين﴾ غير أن التقديم يفهم أن الأول أكثر.
ولما كان الدخول حال الأمن لا يستلزم الأمن بعده قال تعالى: ﴿لا تخافون﴾ أي لا يتجدد لكم خوف بعد ذلك إلى أن تدخلوا عليهم عام الفتح قاهرين لهم بالنصر. ولما كان من المعلوم أن سبب هذا الإخبار إحاطة العلم، فكان التقدير، هذا أمر حق يوثق غاية

صفحة رقم 334

الوثوق لأنه إخبار عالم الغيب والشهادة، صدق سبحانه فيه، وما ردكم عنه هذه الكرة على هذا الوجه إلا لأمور دبرها وشؤون أحكمها وقدرها، قال عاطفاً على ﴿صدق﴾ مسبباً عنه أو معللاً: ﴿فعلم﴾ أي بسبب، أو لأنه علم من أسباب الفتح وموانعه وبنائه على الحكمة ﴿ما لم تعلموا﴾ أي أيها الأولياء ﴿فجعل﴾ أي بسب إحاطة علمه ﴿من دون﴾ أي أدنى رتبة من ﴿ذلك﴾ أي الدخول العظيم في هذا العام ﴿فتحاً قريباً *﴾ يقويكم به من فتح خيبر ووضع الحرب بين العرب بهذا الصلح، واختلاط بعض الناس بسبب ذلك ببعض، الموجب لإسلام بشر كثير تتقوون بهم، فتكون تلك الكثرة والقوة سبب هيبة الكفار المانعة لهم من القتال، فتقل القتلى رفقاً بأهل حرم الله تعالى إكراماً لهذا النبي الكريم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن إغارة وإصابة من عنده من المسلمين المستضعفين من غير علم.

صفحة رقم 335
نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
عرض الكتاب
المؤلف
أبو الحسن، برهان الدين إبراهيم بن عمر بن حسن الرُّبَاط بن علي بن أبي بكر البقاعي
الناشر
دار الكتاب الإسلامي، القاهرة
عدد الأجزاء
22
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية