
النبي والمؤمنين على غرّة قبل أن يتمّ عقد الصلح وما كان من تنبّه النبي والمؤمنين لهم وردّهم وأسر بعضهم على ما ذكرناه في الخلاصة التي أوردناها قبل لظروف وبواعث سفرة الحديبية ومشاهدها. وقد روى الترمذي ومسلم عن أنس «أن ثمانين هبطوا على رسول الله ﷺ وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الصبح وهم يريدون قتله فأخذوا أخذا فأعتقهم رسول الله ﷺ فأنزل الله وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً» «١» والمتبادر أن المقصد من جملة فأنزل الله هو كون هذه الآية في صدد ذلك.
والمتبادر أن الآية قد استهدفت بيان كون ما تمّ من ذلك إنما كان بقضاء الله ولحكمة فيها الخير والمصلحة للمسلمين.
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦)
. (١) الهدى معكوفا أن يبلغ محلّه: الأنعام المنذورة لتكون قرابين لله محبوسة عن البلوغ إلى المحل الذي يجب ذبحها عنده أو يحلّ ذبحها عنده.
(٢) أن تطأوهم: أن تدوسوهم وتصيبوهم بالأذى.
(٣) معرة: تبعة فيها إثم وعار. أو تعروكم من جرّائهم مشقة وهمّ.
(٤) لو تزيّلوا: لو تميزوا وانفردوا عن الكفار.

تعليق على الآية هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ والآية التالية لها وما فيهما من صور
الآيتان استمرار للخطاب الموجه للمؤمنين كسابقاتهما وجزء من السياق.
وقد استهدفتا ما استهدفته الآيات السابقات من تثبيت وتطمين. وقد انطوتا على تقرير ما يلي:
(١) إن الكفار مستحقون لعذاب الله تعالى. ولقد كان قادرا على إنزال النكال الشديد بهم حالا لما بدا منهم. فهم كافرون من جهة. وقد صدوا المسلمين عن زيارة المسجد الحرام. وصدوا الهدي المنذور لله عن المكان الذي يحل فيه نحره من جهة. ولعبت في رؤوسهم نزوة الجاهلية وحميتها من جهة.
(٢) ولكن حكمة الله العليم بكل شيء قضت بأن ينتهي الموقف إلى ما انتهى إليه. فأنزل السكينة على رسوله وعلى المؤمنين. وهدّأ من سورة غضبهم وغيظهم. وألزمهم كلمة التقوى التي هي الأمثل بهم لأنهم أهلها والأحق بها.
وألهمهم الرضاء بما فيه الخير والمصلحة. ولا سيما أنه كان في مكة فريق من المؤمنين والمؤمنات لا يعلمهم المؤمنون الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان من المحتمل أن يدوسوهم وينالهم أذى أثناء الاشتباك فيقعوا بذلك في الإثم والمشاكل.
وهذه ناحية رئيسية من حكمة الله تعالى في كفّ أيدي الفريقين عن بعض.
ولقد احتوت الآيتان إشارات خاطفة متوافقة مع ما ذكر الرواة تفصيله وأوردنا خلاصته قبل في صدد بعض مشاهد سفرة الحديبية والمفاوضات التي جرت بين النبي ﷺ ومندوبي قريش وما كان من تعنّت قريش وإصرارهم على الشروط التي كان الحافز عليها أنفة الجاهلية وحميتها وما كان من هدوء جأش النبي ﷺ وتساهله وموقفه الحازم وانبثاث السكينة في نفسه ونفوس معظم المسلمين ومسايرتهم لهذه الشروط التي لا تهضمها النفوس بسهولة لولا إلهام الله وسكينته التي أنزلها على قلوبهم وإلزامه إياهم كلمة التقوى والحق والمصلحة.
الجزء الثامن من التفسير الحديث ٣٩

وفي الآية الأولى خبر وجود فريق من المؤمنين والمؤمنات في مكة. وروح العبارة يلهم أوّلا أنهم كانوا يكتمون إيمانهم وأنهم لم يكونوا قليلين بحيث كان من الصعب أن يختفوا وأن يسلموا من الأذى لو وقع اشتباك حربي بين المسلمين وقريش في مكة. وليس في العبارة القرآنية معنى تأنيبي في حقهم حيث يلهم ذلك أنهم كانوا معذورين في البقاء في مكة. ولعلّهم أو لعلّ منهم من أشارت إليه آية النساء هذه وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥) وآيات النساء هذه إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩) ويكاد يكون من المتفق عليه أن العباس رضي الله عنه عمّ النبي ﷺ وأسرته كانوا من المؤمنين وقد ظلّوا في مكة إلى يوم الفتح. والمرجح أن بقاءه كان بإذن رسول الله ﷺ ولمصلحة كان يراها «١».
ولقد روى البخاري عن ابن عباس قوله «كنت أنا وأمي من المستضعفين وفي