
والموعظة الحسنة. وإذا أصرّ العدو على الحفاظ على دينه وأحواله، وجب إبرام المعاهدات التي تنظم العلاقات المختلفة، حتى لا يبغي أحد على أحد، ويطمئن كل طرف إلى وضعه، ومراعاة مصالحه، على قدم المساواة. وهذه آيات تدعو لتنظيم معارك القتال وتسوية آثارها، وتوجيه الطبائع البشرية وجهة صالحة:
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٤ الى ٩]
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨)
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [محمد: ٤٧/ ٤- ٩].
آية وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قال فيها قتادة- كما أخرج ابن أبي حاتم- نزلت يوم أحد، ورسول الله في الشّعب، وقد نشبت فيهم الجراحات والقتل، وقد نادى المشركون يومئذ: اعل هبل (أكبر أصنامهم) ونادى المسلمون: الله أعلى وأجل، فقال المشركون: إن لنا العزّى، ولا عزّى لكم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم.
والمعنى: إذا واجهتم أيها المسلمون الكفار في القتال، فاحصدوهم حصدا بالسيوف، واضربوا الرقاب ضربا. وهذا بمثابة قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: ٩/ ٥] وهذا حكم في أثناء القتال الناشب إذا توافرت أسبابه أو دواعيه المشروعة، وهو قائم على مبدأ المعاملة بالمثل ومراعاة طبيعة القتال وأدواته
(٢) أكثرتم القتل فيهم.
(٣) الوثاق: الحبل كالرباط، والمراد: فأسروهم.
(٤) فلن يحبطها أو يضيعها.
(٥) مصدر منصوب بفعل مضمر، أي هلاكا لهم وخيبة.
(٦) أبطلها.

وهي في الماضي: السلاح الأبيض. وهذه الآية محكمة غير منسوخة مبيّنة لآية فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. قال ابن عمر، وعمر بن عبد العزيز، وعطاء: إن هذه الآية (آية سورة محمد هنا) محكمة مبيّنة لتلك (آية سورة براءة).
ثم بيّن الله حكم الأسر وتوابعه وهو:
حتى إذا أكثرتم فيهم القتل، وتحققت الغلبة لكم عليهم، وانتهت الحرب بتحقيق النصر، فأسروهم وأحكموا القيد عليهم لئلا يفلتوا ويهربوا، ومصيرهم بعد الأسر:
إما المنّ عليهم بإطلاق سراحهم بعوض أو بغير عوض، وإما الفداء بمبادلتهم بالأسرى المسلمين أو بدفع الفداء: وهو المال الذي يفدي به الأسير نفسه من الأسر.
وذلك حتى تضع الحرب أوزارها أي أثقالها وآلاتها: وهذا مجاز عن انتهاء الحرب، أي حتى تنقضي الحرب، بتحقيق الغلبة والنصر.
والمن والفداء ثابت غير منسوخ، صرّح به هنا، ولم يصرح به في آية التوبة السابق ذكرها، وقد منّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ثمامة بن أثال، وفادى أسرى بدر، كما قال الحسن البصري.
وذلك هو الحكم في قتال الكفار، والله قادر على الانتصار من أعدائه، بالانتقام منهم، وإهلاكهم وتعذيبهم، بما شاء من أنواع العذاب كالخسف والرجفة، والغرق دون قتال منكم أيها المؤمنون، ولكن الله أمركم بحربهم ليختبر بعضكم ببعض.
والذين قتلوا في سبيل الله، أي استشهدوا، فلن يضيع الله تعالى أجرهم، ولا يبطل ولا يحبط أعمالهم كإحباط أعمال الكفار وهذا أحد أنواع ثواب الشهداء.
ومن فضل الله على الشهداء: أنه تعالى يوفقهم قبل موتهم للعمل بما يحبه ويرضاه، وسيهديهم إلى طريق الجنة، ويصلح شأنهم أو موضع نظرهم وفكرهم وهو القلب. ويرشدهم إلى طريق الجنة التي قد عرّفها وبيّنها لهم، وأعلمهم بها، أي

جعلهم يعرفون منازلهم منها.
أخرج البخاري من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «.. والذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله في الدنيا».
ثم بشّرهم الله بالنصر بشرطه: وهو يا أيها المؤمنون بالله والقرآن والإسلام، إن تنصروا دين الله ورسوله، بجدّكم وإيمانكم، ينصركم الله بخلق القدرة لكم والجرأة وغير ذلك من المعارف.
والذين كفروا بالله ورسوله، فهلاكا وعثارا وخيبة لهم، وأبطل الله أعمالهم، فلا ثواب لهم، ولا خير يرتجى منها في الآخرة. وقوله: فَتَعْساً لَهُمْ مقابل تثبيت أقدام المؤمنين المنتصرين، الناصرين لدين الله ورسوله.
ذلك التعس أو الهلاك، وإضلال الأعمال أو إبطالها بسبب كراهيتهم القرآن، أي ما أنزل الله في قرآنه على نبيه المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، من التكاليف الإلهية، فهم لا يريدونه ولا يحبونه، فأبطل الله ثواب أعمالهم بذلك السبب. والمراد بالأعمال المحبطة أو الملغاة: أعمال الخير أو الحسنات حال الكفر، لأن عمل الكافر لا يقبل قبل إسلامه، وإنما تفيدهم هذه الأعمال الخيرية في الدنيا. وإذا أسلم الكافر يضاف عمله الخيري إلى حسناته في الإسلام.
الاعتبار بآثار الماضين
رغّب القرآن الكريم في مناسبات مختلفة في النظر في آثار الأمم المتقدمة، والتأمل في أحوال أهل الإيمان وأهل الكفر، للعبرة والاتعاظ، بقصد إصلاح الأفراد والجماعات، حين يعلمون أن الله ناصر المؤمنين، وخاذل الكافرين، ثم يكافئ أهل الإيمان بجنان الخلد، لانحيازهم إلى الحق وإيمانهم به، ويعاقب أهل الضلال أو الكفر