
المدائنيُّ، / انتهى.
وقوله تعالى في المؤمنين: وَأَصْلَحَ بالَهُمْ قال قتادة: معناه: حالهم «١»، وقال ابن عباس: شأنهم «٢».
وتحريرُ التفسيرِ في اللفظة أَنَّها بمعنى الفِكْرِ والموضعِ الذي فيه نظرُ الإنْسَانِ، وهو القلب، فإذا صَلُحَ ذلك منه، فقد صَلُحَ حالُهُ، فكأَنَّ اللفظة مُشِيرَةٌ إلى صلاح عقيدتهم، وغيرُ ذلك من الحال تَابِعٌ، فقولك: خَطَرَ في بالي كذا، وقولك: أصْلَحَ اللَّهُ بَالَكَ: المرادُ بهما واحدٌ ذكره المُبَرِّدُ، والبَالُ: مصدر كالحال والشأن، ولا يُسْتَعْمَلُ منه فِعْلٌ، وكذلك عُرْفُهُ لا يثنى ولا يُجْمَعُ، وقد جاء مجموعا شاذّا في قولهم: «بآلات».
والْباطِلَ هنا: الشيطانُ، وكُلُّ ما يأمر به قاله مجاهد «٣»، والْحَقَّ هنا: الشرع ومحمّد ع.
وقوله: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ: الإشارة إلى الأتباع المذكورين من الفريقين.
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٤ الى ٩]
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨)
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩)
وقوله سبحانه: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ... الآية: قال أَكْثَرُ العلماءِ: إنَّ هذه الآية وآيةَ السَّيْفِ، وهي قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: ٥] مُحْكَمَتَانِ، فقوله هنا: فَضَرْبَ الرِّقابِ بمثابة قوله هنالك:
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، وصرَّح هنا بذكر المَنِّ والفداء، ولم يُصَرِّحْ به هنالك، فهذه مُبَيِّنَةٌ لِتِلْكَ، وهذا هو القولُ القويُّ، وقوله: فَضَرْبَ الرِّقابِ مصدر بمعنى
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٣٠٤) برقم: (٣١٣٣٥) بمعناه، (٣١٣٣٦) عن مجاهد، وذكره ابن عطية (٥/ ١٠٩)، وابن كثير (٤/ ١٧٢).
(٣) أخرجه الطبري (١١/ ٣٠٥) برقم: (٣١٣٤٠)، وذكره ابن عطية (٥/ ١١٠)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٢٠)، وعزاه إلى عبد بن حميد.

الفِعْل، أي: فاضربوا رقابهم وعَيَّنَ مِنْ أنواع القَتْلِ أَشْهَرَهُ، والمراد: اقتلوهم بأَيِّ وجه أَمكَنَ وفي «صحيح مسلم» عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يَجْتَمِعُ كَافِرٌ وَقَاتِلهُ في النَّارِ أبدا» «١».
وفي «صحيح البخاري» عنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَا اغْبَرَّتْ/ قَدَمَا عَبْدٍ في سَبِيلِ اللَّهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ» «٢» انتهى.
والإثخان في القوم أنْ يكثر فيهم القتلى والجرحى، ومعنى: فَشُدُّوا الْوَثاقَ أي:
بمن لم يُقْتَلْ، ولم يترتَّب فيه إلاَّ الأسْرُ، ومَنًّا وفِدَاءً: مصدران منصوبانِ بفعلَيْن مُضْمَرَيْنِ.
وقوله: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها معناه: حتى تذهبَ الحربُ وتزولَ أثقالُهَا، والأوزار: الأثقال ومنه قول عَمْرِو بنِ مَعْدِ يكرِبَ: [من المتقارب]
وَأَعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ أَوْزَارَهَا | رِمَاحاً طِوَالاً وَخَيْلاً ذُكُورَا «٣» |
(٢) أخرجه البخاري (٦/ ٣٥) كتاب «الجهاد والسير» باب: من اغبرت قدماه في سبيل الله، وقول اللَّهَ عَزَّ وجلَّ: مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- إلى قوله- إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [التوبة: ١٢٠] (٢٨١١)، والبيهقي (٩/ ١٦٢) كتاب «السير» باب: فضل المشي في سبيل الله.
(٣) البيت للأعشى ميمون بن قيس، وهو في «ديوانه» (٧١)، «مشاهد الإنصاف» (١/ ٢٥١)، «التهذيب» (١٣/ ٢٤٤) (وزر)، «اللسان» (وزر)، و «البحر المحيط» (٨/ ٧٥) منسوبا لعمرو بن معدي كرب، وقال: أنشده ابن عطية لعمرو هذا، وأنشده الزمخشري للأعشى. ينظر: «الكشاف» (٤/ ٣١٧)، و «الدر المصون» (٦/ ١٤٧).
(٤) أخرجه الطبري (١١/ ٣٠٨) برقم: (٣١٣٥٤- ٣١٣٥٥)، وذكره ابن عطية (٥/ ١١١)، وذكره ابن كثير (٤/ ١٧٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٢١)، وعزاه إلى عبد بن حميد.
(٥) أخرجه الطبري (١١/ ٣٠٨) برقم: (٣١٣٥٣)، وذكره ابن عطية (٥/ ١١١)، وابن كثير (٤/ ١٨٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٢١)، وعزاه إلى الفريابي، وعبد بن حميد.
(٦) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١١١).

وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ أي: بعذابٍ مِنْ عنده، ولكن أراد سبحانه اختبار المؤمنين، وأنْ يَبْلُوَ بعضَ الناس ببعضٍ، وقرأ الجمهور: قاتلوا وقرأ عاصم بخلاف عنه: قتلوا- بفتح القاف والتاء-، وقرأ أبو عمرو وحَفْصٌ: قُتِلُوا- بضم القاف وكسر التاء «١» -، قال قتادة: نزلَتْ هذه الآيةُ فيمَنْ قُتِلَ يوم أُحُدٍ من المؤمنين «٢».
وقوله سبحانه: سَيَهْدِيهِمْ أي: إلى طريقِ الجَنَّةِ.
ت: ذكر الشيخ أبو نُعَيْمٍ الحافظُ أنَّ مَيْسَرَةَ الخادمَ قال: غزونا في بعض الغَزَوَاتِ، فإذا فتًى إلى جانِبي، وإذا هو مُقَنَّعٌ بالحديد، فَحَمَلَ على/ المَيْمَنَةِ، فَثَنَاها، ثُمَّ على المَيْسَرَةِ حتى ثَنَاهَا، وحَمَلَ عَلَى القَلْبِ حتى ثناه، ثم أنشأ يقول: [الرجز]
أَحْسِنْ بِمَوْلاَكَ سَعِيدُ ظَنَّا | هَذا الَّذِي كُنْتَ لَهُ تمنى |
تَنَحِّ يَا حُورَ الْجِنَانِ عَنَّا | مَالَكِ قَاتَلْنَا وَلاَ قُتِلْنَا |
لَكِنْ إلى سَيِّدِكُنَّ اشتقنا | قَدْ عَلِمَ السِّرَّ وَمَا أَعْلَنَّا |
قَدْ كُنْتُ أَرْجُو وَرَجَائِي لَمْ يَخِبْ | أَلاَّ يَضِيعَ الْيَوْمَ كَدِّي وَالطَّلَبْ |
يَا مَنْ مَلاَ تِلْكَ الْقُصُورَ باللُّعَبْ | لَوْلاَكَ مَا طَابَتْ وَلا طَابَ الطَّرَبْ |
يَا لُعْبَةَ الخُلْدِ قِفِي ثُمَّ اسمعي | مَالَكِ قَاتَلْنَا فَكُفِّي وارجعي |
ثُمَّ ارجعي إلَى الْجِنَانِ واسرعي | لاَ تَطْمَعِي لاَ تَطْمَعِي لاَ تَطْمَعِي |
(٢) أخرجه الطبري (١١/ ٣٠٩) برقم: (٣١٣٥٨- ٣١٣٥٩)، وذكره ابن عطية (٥/ ١١١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٢٣)، وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم.

وقوله تعالى: عَرَّفَها لَهُمْ قال أبو سعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وقتادة، ومجاهد «١» : معناه:
بَيَّنَهَا لهم، أي: جعلهم يعرفون منازلهم منها، وفي نحو هذا المعنى قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
«لأَحَدُكُمْ بِمَنْزِلِهِ في الجَنَّة أَعْرَفُ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ في الدّنْيَا» «٢» قال القرطبيُّ في «التذكرة» : وعلى هذا القولِ أكثرُ المفسِّرين قال: وقيل: إنَّ هذا التعريفَ إلى المنازِلِ هو بالدليلِ، وهو المَلَكُ المُوَكَّلُ بِعَمَلِ العَبْدِ، يمشي بين يَدَيْهِ، ، انتهى، وقالت فرقة: معناه: سَمَّاها لهم، ورَسَمَهَا كُلُّ منزل باسم صاحبه، فهذا نحو من التعريف، وقالت فرقة: معناه/ شَرَّفَهَا لهم ورفعها وعلاَّها، وهذا من الأَعْرَافِ التي هي الجبال، ومنه أعرافُ الخَيْلِ، وقال مُؤَرِّجٌ وغيره:
معناه: طَيَّبَهَا مأخوذٌ من العَرْفِ، ومنه طَعَامٌ مُعَرَّفٌ، أي: مُطَيَّبٌ، وعَرَّفْتُ القِدْرَ: طَيَّبْتُها بالمِلْحِ والتَّابِلِ، قال أبو حيَّان «٣» :«وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ» البال: الفِكْرُ ولا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ، انتهى.
وقوله سبحانه: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ أي: دينَ اللَّه يَنْصُرْكُمْ بخلق القوَّةِ لكم وغَيْرِ ذلك من المعاون، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ أي: في مواطن الحَرْبِ، وقيل: على الصراط في القيامة.
وقوله: فَتَعْساً لَهُمْ معناه: عِثَاراً وهَلاَكاً لهم، وهي لفظة تقالُ للعَاثِرِ، إذا أُرِيدَ به الشَّرُّ قال ابن السِّكِّيتِ: التَّعْسُ: أنْ يَخِرَّ على وجهه.
وقوله تعالى: كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ يريد: القرآن فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ قال ع «٤» : ولا خلافَ أَنَّ الكافر له حَفَظَةٌ يكتبون سَيِّئاتِهِ، واختلف الناسُ في حَسَنَاتِهِمْ، فقالت فرقة: هي مُلْغَاةٌ يثابُونَ عليها بِنِعَمِ الدنيا فقَطْ، وقالت فرقة: هي مُحْصَاةٌ من أجل ثواب الدنيا، ومن أجل أَنَّهُ قد يُسْلِمُ فينضافُ ذلك إلى حسناته في الإسلام، وهذا أحدُ التأويلَيْنِ في قوله صلّى الله عليه وسلّم لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: «أَسْلَمْتَ على مَا سَلَفَ لك من خير» «٥».
(٢) أخرجه البخاري (١١/ ٤٠٣) كتاب «الرقاق» باب: القصاص يوم القيامة، وهي الحاقة، لأن فيها الثواب، وحواقّ الأمور، برقم: (٦٥٣٥). [.....]
(٣) ينظر: «البحر المحيط» (٨/ ٧٠).
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ١١٢).
(٥) أخرجه البخاري (٤/ ٤٨٠) كتاب «البيوع» باب: شراء المملوك من الحربي وهبته وعتقه (٢٢٢٠)، (٥/ ٢٠٠) كتاب «العتق» باب: عتق المشرك (٢٥٣٨)، (٣/ ٣٥٤) كتاب «الزكاة» باب: من تصدق في الشرك ثم أسلم (١٤٣٦)، (١٠/ ٤٣٨) كتاب «الأدب» باب: من وصل رحمه في الشرك ثم أسلم-