
سورة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم
وفيها قولان: أحدهما: أنها مدنيّة، قاله الأكثرون، منهم مجاهد، ومقاتل، وحكي عن ابن عباس وقتادة أنها مدنيّة، إلّا آية منها نزلت عليه بعد حجّه حين خرج من مكّة وجعل ينظر إلى البيت، وهي قوله: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ «١». والثاني: أنّها مكّيّة، قاله الضّحّاك، والسّدّيّ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ١ الى ٦]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤)سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦)
قوله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا أي: بتوحيد الله وَصَدُّوا الناس عن الإِيمان به، وهم مشركو قريش، أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أي: أبطلها، ولم يجعل لها ثواباً، فكأنَّها لم تكن، وقد كانوا يُطْعِمُون الطَّعامَ، ويَصِلون الأرحام، ويتصدّقون، ويفعلون ما يعتقدونه قُرْبَةً. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني أصحاب محمّد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وقرأ ابن مسعود: «نَزَّلَ» بفتح النون والزَّاي وتشديدها. وقرأ أبيّ بن كعب ومعاذ القارئ: «أُنْزِلَ» بهمزة مضمومة مكسورة الزَّاي. وقرأ أبو رزين وأبو الجوزاء وأبو عمران: «نَزَلَ» بفتح النون والزاي وتخفيفها، كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي غفرها لهم وَأَصْلَحَ بالَهُمْ أي حالَهم، قاله قتادة، والمبرِّد.
قوله تعالى: ذلِكَ قال الزجاج: معناه: الأمرُ ذلك، وجائز أن يكون: ذلك الإِضلال، لاتِّباعهم الباطل، وتلك الهداية والكفّارات باتِّباع المؤمنين الحقَّ، كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ أي:
كذلك يبيِّن أمثال حسنات المؤمنين وسيِّئات الكافرين كهذا البيان. قوله تعالى: فَضَرْبَ الرِّقابِ إغراء،

والمعنى: فاقتُلوهم «١»، لأن الأغلب في موضع القتل ضربُ العُنق حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ أي: أكثرتُم فيهم القتل فَشُدُّوا الْوَثاقَ يعني في الأسر وإِنما يكون الأسر بعد المبالغة في القتل. و «الوَثاق» اسم من الإِيثاق تقول: أوثقتُه إِيثاقاً ووَثاقاً، إِذا شددتَ أسره لئلا يُفْلِت فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ قال أبو عبيدة: إِمّا أن تُمنُّوا، وإِمّا أن تفادوا، ومثلُه: سَقْياً، ورَعْياً، وإِنما هو سُقِيتَ ورُعِيتَ. وقال الزجاج: إِمَّا منَنَتُم عليهم بعد أن تأسِروهم مَنّاً، وإِمّا أطلقتُموهم بِفِداء.
فصل:
وهذه الآية محكَمة عند عامَّة العلماء. وممَّن ذهب إِلى أنَّ حُكم المَنِّ والفداء باقٍ لم يُنْسَخ ابنُ عمر، ومجاهدٌ، والحسنُ، وابنُ سيرين، وأحمدُ، والشافعيُّ. وذهب قوم إلى نسخ المَنِّ والفداء بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «٢»، وممن ذهب إلى هذا ابن جريح، والسدي، وأبو حنيفة وقد أشرنا إِلى القولين في براءة.
قوله تعالى: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها قال ابن عباس: حتى لا يبقى أحد من المشركين. وقال مجاهد: حتى لا يكون دِينُ إِلاّ دين الإِسلام. وقال سعيد بن جبير: حتى يخرُج المسيح. وقال الفراء:
حتى لا يبقى إلاّ مُسْلِم أو مُسالِم. وفي معنى الكلام قولان:
أحدهما: حتى يضعَ أهلُ الحرب سلاحَهم قال الأعشى:
وَأًَعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ أَوْزَارَهَا:... رِمَاحاً طِوَالاً وَخَيْلاً ذُكُوراَ
وأصل «الوِزْرِ» ما حملته، فسمّى السلاح «أوزاراً» لأنه يُحْمل، هذا قول ابن قتيبة.
والثاني: حتى تضعَ حربُكم وقتالكم أوزارَ المشركين وقبائح أعمالهم بأن يُسْلِموا ولا يعبُدوا إِلاَّ الله، ذكره الواحدي.
قوله تعالى: ذلِكَ أي: الأمر ذلك الذي ذَكَرْنا وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ بإهلاكهم أو تعذيبهم بما شاء وَلكِنْ أمركم بالحرب لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ فيُثيب المؤمن ويُكرمه بالشهادة، ويُخزي الكافر بالقتل والعذاب. قوله تعالى: وَالَّذِينَ قُتِلُوا قرأ أبو عمرو، وحفص عن عاصم: «قٌتِلُوا» بضم القاف وكسر التاء والباقون: «قاتَلُوا» بألف. قوله تعالى: سَيَهْدِيهِمْ فيه أربعة أقوال: أحدها:
(٢) التوبة: ٥.