آيات من القرآن الكريم

إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ
ﯘﯙﯚﯛﯜﯝ

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ) هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: أي: ليس يسألكم الإنفاق من أموالكم، وإنما يسألكم من ماله يستمتعوا بمال غيره لأنفسكم وتجعلون ذخرًا لأنفسكم غير (إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا)، أي: لو كان يسألكم من أموالكم لبخلتم وتركتم الإنفاق منها.
والثاني: (وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ) أي: ولا يسألكم الإنفاق من جميع أموالكم، ولكن إنما يسألكم الإنفاق من طائفة من أموالكم (إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ... (٣٧) أي: لو يسألكم جميع أموالكم، لحملكم ذلك على البخل وترك الإنفاق، فإن يسألكم الإنفاق من جزء من أموالكم فلماذا بخلتم وتركتم الإنفاق؟!
وقوله: (فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا) يخرج من وجوه:
أحدها: أي: يحملكم على البخل لو سألكم جميع الأموال.
ويحتمل (فَيُحْفِكُمْ) أي: يجعلكم حفاة لا شيء يبقى عندكم: الإحفاء: أن يأخذ كل شيء عنده، وهو من الاستئصال، ومنه إحفاء الشوارب.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الإحفاء: شدة المسألة؛ أي: إن يلح عليكم فيما يوجبه في أموالكم تبخلوا؛ يقال: أحفى في المسألة وألحف وألح واحد، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ) أي: لو أمر بالإنفاق من جميع أموالكم ومن أموالكم حقيقة يظهر ذلك من أضغانكم التي في قلوبكم؛ لأن ذلك الأمر إنما يجري على ألسن الرسل؛ يوجب ذلك إظهار ما في قلوبهم من الضغائن للرسل، عليهم السلام.
فإن كان التأويل هذا فهو في المنافقين؛ فيكون الأمر بالإنفاق سبب إظهار نفاقهم
وضغائنهم وعداوتهم، فكان كالأمر بالقتال؛ كان سببًا لإظهار نفاقهم.
وإن كان في المسلمين فيحتمل أنه قال ذلك؛ تحريضًا لهم على الإنفاق والتصدق، أي: إنه سبب إخراج الضغائن والعداوة؛ لما فيه من التحبب والتودد بإيصال ما هو محبوب إليه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (٣٨) أي: هأنتم يا هَؤُلَاءِ تدعون لتنفقوا في سبيل اللَّه، أي: في إظهار دين اللَّه، أو في طاعة اللَّه، أو في الجهاد؛ لأن الإنفاق في ذلك كله في سبيل اللَّه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) جعل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: الإنفاق لهم حقيقة إذا أنفقوا فيما أمرهم اللَّه - تعالى - بإلإنفاق في طاعته عند ذلك تصير تلك الأموال لهم؛ لأنهم إذا أنفقوا فيما أمر اللَّه - تعالى - انتفعوا

صفحة رقم 287

بها في الدنيا، واستمتعت أنفسهم وتلذذت، وانتفعوا بها - أيضًا - في الآخرة وقت حاجتهم وفقرهم بذلك تتحقق وتحصل لهم تلك الأموال، فأما عند تركهم الإنفاق فيما أمروا بالإنفاق والبذل فلا تتحقق لهم تلك الأموال المجعولة في أيديهم؛ لأنه إما أن تجعل لوارثهم أو يأخذها منهم بلا سبب من غير أن يجعل لهم بذلك نفع يحصل لهم، فيكون ما ذكرنا، فذلك تأويل قوله - تعالى -: (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) - واللَّه أعلم - لما يهلك نفسه بترك الإنفاق منه ولم يتمتع ولم ينتفع به وقت حاجته إليه في الآخرة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ) عن الصدقة والإنفاق في طاعة اللَّه، (وَمَنْ يَبْخَلْ) بالصدقة في طاعة اللَّه (فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) بالجزاء، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ) أي: (وَاللَّهُ الْغَنِيُّ) عن إنفاقكم وعما يأمركم بالإنفاق، (وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ) إلى ما تنفقون؛ أي: أنتم المنتفعون بذلك الإنفاق الذي يأمركم به، لا أنه ترجع منفعة ذلك إليه، أو يأمر لحاجة نفسه، ولكن إنما يأمركم بذلك لحاجتكم إليه يومًا، واللَّه أعلم.
ويحتمل أن يكون يقول: (وَاللَّهُ الْغَنِيُّ) عنكم وعما في أيديكم (وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ) إليه في كل وقت، وكل ساعة، في جميع أحوالكم وأوقاتكم؛ كقوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).
ويحتمل: (وَاللَّهُ الْغَنِيُّ) عن أموالكم، (وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ) إلى مغفرته ورزقه وجنته ورحمته.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: قد تولوا، وهم أهل مكة، واستبدل قومًا غيرهم وهم أهل المدينة، لكن هذا بعيد؛ لأن السورة مدنية؛ فلا يحتمل الخطاب بها لأهل مكة بقوله: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا).
ومنهم من يقول: اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أخبر ووعد أهل المدينة أنهم إن يتولوا استبدل غيرهم أطوع منهم لله - تعالى - فلا تولوا هَؤُلَاءِ ولا استبدل غيرهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو على وجهين:
أحدهما: قوله: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ)، أي: لم تتولوا ولم يستبدل قومًا غيركم.
والوجه الآخر: قد تولوا واستبدل بهم النخع، وأحمس، وناس من كندة، والذين تولوا حنظلة وأسد، وغطفان، وبنو فلان.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) أي: لا يكونوا أمثالكم في الطاعة لله -

صفحة رقم 288

تعالى - بل أطوع له وأخضع، واللَّه أعلم.
وذكر أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سئل عن قوله: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ) فضرب بيده على فخذ سلمان الفارسي، وقال: " والذي نفسي بيده، لو كان الدِّين منوطا بالثريا، لتناوله رجال من فارس ".
وقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " رأيت غيما سوداء، ردفها غيم بيض، فاختلطت بها فتعقب بهن جميعًا " قالوا: يا رسول اللَّه، فما أولت؟ قال: " العجم يشركونكم في دينكم وأنسابكم "، قالوا: العجم يا رسول اللَّه؟! قال: " نعم، لو كان الإيمان معلقًا بالثريا، لناله رجال من العجم، وأسعدهم به أهل فارس " فإن ثبت هذا الخبر، فجائز أن يستدل به على جعل العجم أكفاء العرب؛ لأنه قال: " يشركونكم في أنسابكم " فإذا أشركوهم في أنسابهم صاروا أكفاء لهم.
ويحتمل أن يكون قوله: " يشركونكم في أنسابكم "؛ لأنهم يسبونهم، فيلدون منهم أولادًا فيشتركون فيما ذكر، واللَّه أعلم.
وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: تلا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هذه الآية: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)، قالوا: ومن يستبدل قومًا؟ قال: فضرب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على منكب سلمان، ثم قال: " هذا وقومه هذا "، وقال في حديث آخر: " والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطًا بالثريا، لناله رجال من فارس "، واللَّه أعلم بالصواب، وصلى اللَّه على سيدنا مُحَمَّد وآله أجمعين.
* * *

صفحة رقم 289
تأويلات أهل السنة
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن محمد بن محمود، أبو منصور الماتريدي
تحقيق
مجدي محمد باسلوم
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان
سنة النشر
1426
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
10
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية