
وقوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الآية، يحتمل أن يتوعدوا به على معنيين: أحدهما هذا هلعهم وجزعهم لفرض القتال وفراع الأعداء، فَكَيْفَ فزعهم وجزعهم إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ؟ والثاني أن يريد: هذه معاصيهم وعنادهم وكفرهم، فَكَيْفَ تكون حالهم مع الله إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ؟ وقال الطبري: المعنى وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ فَكَيْفَ علمه بها إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ. الْمَلائِكَةُ هنا:
ملك الموت والمصرفون معه. والضمير في يَضْرِبُونَ ل الْمَلائِكَةُ، وفي نحو هذا أحاديث تقتضي صفة الحال ومن قال إن الضمير في: يَضْرِبُونَ للكفار الذين يتوفون، فذلك ضعيف. و: ما أَسْخَطَ اللَّهَ هو الكفر. والرضوان هنا: الشرع والحق المؤدي إلى رضوان، وقد تقدم القول في تفسير قوله:
فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ.
وقرأ الأعمش: «فكيف إذا توفاهم الملائكة».
قوله عز وجل:
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٢٩ الى ٣٢]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢)
هذه الآية توبيخ للمنافقين وفضح لهم.
وقوله: أَمْ حَسِبَ توقيف وهي أَمْ المنقطعة، وتقدم تفسير مرض القلب. وقوله: أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ أي يبديها من مكانها في نفوسهم. والضغن: الحقد. وقوله تعالى: وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ مقاربة في شهرتهم، ولكنه تعالى لم يعينهم قط بالأسماء والتعريف التام إبقاء عليهم وعلى قرابتهم، وإن كانوا قد عرفوا ب لَحْنِ الْقَوْلِ وكانوا في الاشتهار على مراتب كعبد الله بن أبيّ والجد بن قيس وغيرهم ممن دونهم في الشهرة. والسيما: العلامة التي كان تعالى يجعل لهم لو أراد التعريف التام بهم. وقال ابن عباس والضحاك: إن الله تعالى قد عرفه بهم في سورة براءة. في قوله: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً [التوبة: ٨٤] وفي قوله: فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا [التوبة: ٨٣].
قال القاضي أبو محمد: وهذا في الحقيقة ليس بتعريف تام، بل هو لفظ يشير إليهم على الإجمال لا أنه سمى أحدا. وأعظم ما روي في اشتهارهم أن رسول الله ﷺ أمر يوما فأخرجت منهم جماعة من المسجد كأنه وسمهم بهذا لكنهم أقاموا على التبري من ذلك وتمسكوا بلا إله إلا الله فحقنت دماؤهم. وروي عن حذيفة ما يقتضي أن النبي عليه السلام عرفه بهم أو ببعضهم، وله في ذلك كلام مع عمر رضي الله عنه. ثم أخبر تعالى أنه سيعرفهم فِي لَحْنِ الْقَوْلِ، ومعناه في مذهب القول ومنحاه

ومقصده، وهذا هو كما يقول لك إنسان معتقده وتفهم أنت من مقاطع كلامه وهيئته وقرائن أمره أنه على خلاف ما يقول، وهذا معنى قوله: فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ومن هذا المعنى قول النبي عليه السلام: «فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض»، الحديث أي أذهب بها في جهات الكلام، وقد يكون هذا اللحن متفقا عليه: أن يقول الإنسان قولا يفهم السامعون منه معنى، ويفهم الذي اتفق مع المتكلم معنى آخر، ومنه الحديث الذي قال سعد بن معاذ وابن رواحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: عضل والقارة وفي هذا المعنى قول الشاعر [مالك بن أسماء] :[الخفيف] وخير الحديث ما كان لحنا أي ما فهمه عنك صاحبك وخفي على غيره، فأخبر الله محمدا رسوله عليه السلام أن أقوالهم المحرقة التي هي على خلاف عقدهم ستتبين له فيعرفهم بها، واحتج بهذه الآية من جعل في التعريض بالقذف.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ مخاطبة للجميع من مؤمن وكافر.
وقرأ جمهور القراء: «ولنبلونكم» بالنون، وكذلك «نعلم» وكذلك «نبلوا»، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: «وليبلونكم الله»، وكذلك «يعلم» «ويبلو». وروى رويس عن يعقوب: «ويبلو» بالرفع على القطع والإعلام بأن ابتلاءه دائم. وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى، وقال: اللهم لا تبتلنا، فإنك إن ابتليتنا فضحتنا وهتكت أستارنا.
وقوله تعالى: حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ أي حتى يعلمهم مجاهدين قد خرج جهادهم إلى الوجود وبان تكسبهم الذي به يتعلق ثوابهم، وعلم الله بالمجاهدين قديم أزلي، وإنما المعنى ما ذكرناه.
وقوله تعالى: وَصَدُّوا يحتمل أن يكون المعنى: وَصَدُّوا غيرهم، ويحتمل أن يكون غير متعد، بمعنى: وصدوهم في أنفسهم.
وقوله: وَشَاقُّوا الرَّسُولَ معناه: خالفوه، فكانوا في شق وهو في شق. وقوله: مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى قالت فرقة: نزلت في قوم من بني إسرائيل فعلوا هذه الأفاعيل بعد تبينهم لأمر محمد عليه السلام من التوراة. وقالت فرقة: نزلت في قوم من المنافقين حدث النفاق في نفوسهم بعد ما كان الإيمان داخلها. وقال ابن عباس: نزلت في المطعمين سفرة بدر، و: «تبين الهدى» هو وجوده عند الداعي إليه.
وقالت فرقة: بل هي عامة في كل كافر، وألزمهم أنه قد تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى من حيث كان الهدى بينا في نفسه، وهذا كما تقول لإنسان يخالفك في احتجاج على معنى التوبيخ له: أنت تخالف في شيء لا خفاء به عليك، بمعنى أنه هكذا هو في نفسه. وقوله: لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ تحقير لهم.
وقوله: وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ إما على قول من يرى أن أعمالهم الصالحة من صلة رحم ونحوه تكتب فيجيء هذا الإحباط فيها متمكنا، وإما على قول من لا يرى ذلك، فمعنى وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ أنها عبارة عن إعدامه أعمالهم وإفسادها، وأنها لا توجد شيئا منتفعا به، فذلك إحباط على تشبيه واستعارة.