
شاهدوا من الآيات المنصوبة فى الأنفس والآفاق، فلم يكن سماعهم سماع إدراك، ولا إبصارهم إبصار اعتبار.
عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن فقال مه، قالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال نعم أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت بلى، قال: فذلك لك، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اقرءوا إن شئتم (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) الآية. أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما
، وقد وردت أحاديث كثيرة فى صلة الرحم.
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ٢٤ الى ٣١]
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١)

تفسير المفردات
يتدبرون القرآن: أي يتصفحون ما فيه من المواعظ والزواجر حتى يقلعوا عن الوقوع فى الموبقات، ارتدوا على أدبارهم: أي رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر، سوّل لهم: أي سهّل لهم وزين، وأملى لهم: أي مدّ لهم فى الأمانى والآمال، يضربون وجوههم وأدبارهم: أي يتوفونهم وهم على أهوال الأحوال وأفظعها، والأضغان: واحدها ضغن، وهو الحقد الشديد، وتضاغن القوم واضطغنوا إذا أبطنوا الأحقاد، قال:
قل لابن هند ما أردت بمنطق | ساء الصديق وشيّد الأضغانا؟ |
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن أولئك المنافقين أبعدهم الله عن الخير، فأصمهم فلم ينتفعوا بما سمعوا وأعمى أبصارهم فلم يستفيدوا بما أبصروا- بين أن حالهم دائرة بين أمرين: إما أنهم لا يتدبرون القرآن إذا وصل إلى قلوبهم، أو أنهم يتدبرون ولكن لا تدخل معانيه فى قلوبهم لكونها مقفلة ثم ذكر أنهم رجعوا إلى الكفر بعد أن تبين لهم الهدى بالدلائل الواضحة، والمعجزات الباهرة، وقد زين لهم الشيطان ذلك وخدعهم بباطل الأمانى، ثم بين سبب ارتدادهم وهو قولهم لبنى قريظة والنّضير من اليهود: سنطيعكم فى بعض أحوالكم وهو ما حكى عنهم فى قوله: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ» والله يعلم ما يصدر عنهم من كل قبيح. صفحة رقم 68

ثم أردف هذا ذكر ما يصادفونه من الأهوال إذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم بسبب اتباعهم أهواءهم وعمل ما يغضب ربّهم، ومن ثم أحبط أعمالهم، وهل يعتقد هؤلاء المنافقون أن الله لا يكشف أمرهم لعباده المؤمنين؟ بل إنه سيوضح ذلك لذوى البصائر، ولو نشاء لأريناك أشخاصهم فعرفتهم عيانا، ولكن لم نفعل ذلك، سترا منا على عبادنا، وحملا للأمور على ظاهر السلامة، وردّا للسرائر إلى عالمها، وإنك لتعرفنّهم فيما يبدو من كلامهم الدالّ على مقاصدهم، بمغامز يضعونها أثناء حديثهم، وقد كان يفهمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويفهم مراميها فلا تخفى عليه.
ثم ذكر أنه يبتلى عباده بالجهاد وغيره، ليعلم الصادق فى إيمانه، الصابر على مشاقّ التكاليف، من غيره، ويختبر أعمالهم حسناتهم وسيئاتهم فيجازيهم بما قدموا «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ».
الإيضاح
(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها؟) أي أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون مواعظ الله التي وعظ بها فى آي كتابه، ويتفكرون فى حججه التي بيّنها فى تنزيله فيعلموا خطأ ما هم عليه مقيمون، أم هم قد أقفل الله على قلوبهم فلا يعقلون ما أنزل فى كتابه من العبر والمواعظ؟
والخلاصة- إنهم بين أمرين كلاهما شر، وكلاهما فيه الدمار، والمصير إلى النار، فإما أنهم يعقلون ولا يتدبرون، أو أنهم سلبوا العقول فهم لا يعون شيئا.
ولما أخبر بإقفال قلوبهم بيّن منشأ ذلك فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) أي إن الذين رجعوا القهقرى على أعقابهم كفارا من بعد ما تبين لهم الهدى

وقصد السبيل، فعرفوا واضح الحجج، ثم آثروا الضلال على الهدى عنادا لأمر الله- الشيطان زين لهم ذلك وخدعهم بالآمال، وحسّن لهم ما فى الدنيا من لذة يتمتعون بها إلى حين، ثم يعودون كما كانوا مؤمنين، إلى نحو ذلك من وساوسه التي لا تدخل تحت الحصر، ولا يبلغها العدّ.
ثم ذكر كيف إنهم ضلوا فقال:
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) أي ذلك الضلال من قبل أنهم مالئوا اليهود من بنى قريظة والنضير وناصحوهم سرا على المؤمنين كما هو شأن المنافقين فى كل زمان، والله يعلم ما يسرون وما يخفون، وهو مطلع عليهم وعالم بهم.
ولا يخفى ما فى ذلك من الوعيد وشديد التهديد.
ونحو الآية قوله: «وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ».
ثم ذكر أن هذه الحيل إن أجدت فى حياتهم فماذا هم فاعلون حين وفاتهم فقال:
(فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) أي فكيف يفعلون إذا جاءتهم ملائكة الموت لقبض أرواحهم على أقبح الوجوه وأفظعها، وقد مثل ذلك بحال يخافونها فى الدنيا، ويجبنون عن القتال من أجلها، وهو الضرب على الوجوه والأدبار، إذ فى يوم الوفاة لا نصرة لهم ولا مفرّ، فكيف يحترزون من الأذى، ويبتعدون من العذاب؟.
ثم بين سبب التوفى على تلك الحال الشنيعة فقال:
(ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) أي ذلك الهول الذي يرونه من أجل أنهم انهمكوا فى المعاصي، وزينت لهم الشهوات، وكرهوا ما يرضى الله من الإيمان به والعمل على طاعته والإخلاص له فى السر والعلن، فأحبط ما عملوه من البر والخير، كالصدقات، والأخذ بيد الضعيف، ومساعدة البائس الفقير،

وإغاثة الملهوف إلى نحو أولئك، إذ هم فعلوه وهم مشركون فلم تكن لله ولا بأمره، بل بأمر الشيطان للفخر وحسن الأحدوثة بين الناس.
ثم بالغ فى توبيخ المنافقين، وإظهار خباياهم، وإعلان نواياهم فقال:
(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ) أي بل أحسب أولئك المنافقون الذين فى قلوبهم حقد وعداوة للمؤمنين أن الله لا يكشف أستارهم ويبرز أحقادهم، بلى سيبرزها للرسول صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين فلا تبقى مستورة، وقد أنزل الله فى فضائحهم وما يبطنون من الأفعال سورة براءة، ولذا تسمى الفاضحة كقوله فيهم: «وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ» وقوله:
«فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا».
ثم أكد ما فهم من سالف الكلام وأنه سيظهرها فقال:
(وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) أي ولو نشاء أيها الرسول لعرّفناك أشخاصهم، فعرفتهم عيانا بعلامات هى غالبة عليهم، ولكنه لم يفعل ذلك فى جميع المنافقين للستر على خلقه، وردّا للسرائر إلى عالمها، وحرصا على ألا يؤذى ذوى قرباهم من المخلصين.
(وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) أي ولتعرفنهم فيما يداورونه من القول، فيعدلون عن التصريح بمقاصدهم إلى التعريض والإشارة، وإياه عنى القائل فى مدح محبوبته فقال:
منطق صائب وتلحن أحيا | نا وخير الحديث ما كان لحنا |
وقد كانوا يخاطبون الرسول صلّى الله عليه وسلّم بألفاظ ظاهرها الحسن وهم يعنون بها القبيح. قال الكلبي: فلم يتكلم بعد نزولها عند النبي صلّى الله عليه وسلّم منافق صفحة رقم 71

إلا عرفه، وقال أنس: فلم يخف منافق بعد هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، عرّفه الله ذلك بوحي أو علامة عرفها بتعريف الله إياه.
وفى الحديث: «ما أسرّ أحد سريرة إلا كساه الله جلبابها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر».
وروى أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان قال: ما أسرّ أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه، وفلتات لسانه.
وقد ثبت فى الحديث تعيين جماعة من المنافقين، فقد روى أحمد عن عقبة ابن عامر قال: «خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطبة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
إن فيكم منافقين فمن سميت فليقم، ثم قال: قم يا فلان، قم يا فلان، قم يا فلان حتى سمى ستة وثلاثين رجلا، ثم قال: إن فيكم منافقين فاتقوا الله، قال فمرّ عمر رضى الله عنه برجل ممن سمى مقنّع قد كان يعرفه، فقال مالك؟ فحدّثه بما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال بعدا لك سائر الدهر».
ثم وعد سبحانه وأوعد، وبشر وأنذر فقال:
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) فيجازيكم بما قدمتم من خير أو شر، إذ لا يضيع عمل عامل عدلا منه ورحمة.
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) أي ولنختبرنكم بالأمر بالجهاد وسائر التكاليف الشاقة حتى يتميز المجاهد الصابر من غيره، ويعرف ذو البصيرة فى دينه من ذى الشك والحيرة فيه، والمؤمن من المنافق، ونبلو أخباركم فنعرف الصادق منكم فى إيمانه من الكاذب.
قال إبراهيم بن الأشعث: كان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى وقال:
اللهم لا تبتلنا، فإنك إذا بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا.