
«وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ» خيبة وسقوطا وبعدا وشقاء وعثرة في الدّنيا والآخرة «وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ» (٨) محقها وحرمهم من ثوابها وأنسى النّاس ذكرها الحسن «ذلِكَ» الإضلال والإتعاس «بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ» من الذكر على رسوله وتأففوا منه وزعموا أنه مشاق فعله عليهم «فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ» (٩) اذهب ذكرها وأجرها بالكلية، لأنها صادرة عن شهواتهم الخسيسة لم يرد بها وجه الله «أَفَلَمْ يَسِيرُوا» هؤلاء الكفرة «فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» من كفار الأمم الماضية كيف «دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» مساكنهم بما فيها من مال ونشب، فأهلكهم دفعة واحدة هم وما يملكون «وَلِلْكافِرِينَ» بك يا سيد الرّسل «أَمْثالُها» (١٠) أمثال تلك العاقبة والعقوبة إذا أصروا على كفرهم وماتوا عليه
«ذلِكَ» الإهلاك والتدمير يكون للكافرين فقط «بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا» يجرهم منه «وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ» (١١) في الدّنيا يتمكن وقايتهم منه، لأن مولاهم الشّيطان أو بعضهم، وكلّ منهم ضعيف لا يقدر على خلاص نفسه مما بها في الدّنيا وفي الآخرة، كذلك لا مولى لهم يخلصهم من عذاب الله أو يجيرهم منه «إِنَّ اللَّهَ» مولى المؤمنين «يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» تمر في جوانبها يمينا وشمالا. وأماما ووراء وهم مشرفون عليها بحيث لا تخفى على من فيها «وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ» في الدّنيا فعلا «وَيَأْكُلُونَ» من نعيمها «كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ» التي لا هم لها إلا بطونها وفروجها، ساهون عما يراد منهم في الآخرة، وقد شبههم الله بها بجامع عدم التمييز بين الخير والشّر والنّفع والضّر والتدبير في العواقب في كل «وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ» (١٢) وبئس المثوى النّار.
مطلب الآية المكية وصفة الجنّة وعلامات السّاعة وحال أهل الجنّة وأهل النّار:
وهذه الآية التي نزلت في الطّريق أثناء الهجرة المنوه عنها في الآية ٨٧ من سورة العنكبوت في ج ٢ «وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ» وأعظم «قُوَّةً مِنْ» أهل «قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ» (١٣)

وذلك أنه ﷺ بعد أن خرج من الغار وسار مع صاحبه أبي بكر وخرج من عمران مكة التفت إليها وقال أنت أحب البلاد إلى الله وأحبها إلي، ولولا أن المشركين أخرجوني لم أخرج منك، وقد وضعت هنا كغيرها باشارة من السّيد جبريل وأمر من النّبي ﷺ كما هي في علم الله، وتعد مكية لأن المدني، ما نزل في المدينة بعد وصله إليها أو في غيرها، وكذلك المكي هو ما نزل قبل الهجرة في مكة أو غيرها كما أشرنا إليه في المقدمة، وإنما قال أخرجوني لأنهم أرادوا إخراجه حين مذاكرتهم في دار النّدوة، وقد خرج بارادة الله تعالى ليس إلّا كما أشرنا إليه في الآية الآنفة الذكر من سورة العنكبوت لأن الله تعالى قدّر على خروجه منها ظهور دينه للناس أجمع وعلو شأنه على غيره وفتح مكة على يده، ولأنه لو لم يخرج بطوعه على الصّورة المذكورة لأدى بقاؤه فيها إلى مقاتلة بينه وبين قومه وهو لا يريد قتالهم مع قوته بعشيرته، وتعهد الله له بالنصر عليهم.
قال تعالى «أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ» وهو محمد وأصحابه «كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ» من الكفار «وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» (١٤) في إخراج حضرة الرّسول واختيار عبادة الأصنام على عبادة الملك العلام كلا لا يستوون عند الله، وبينهما كما بين ما أعده الله لكل منهما. وما قيل إن المراد بهذه الآية أبو جهل أو غيره من الكفرة المحرّضين على إخراج الرّسول من مكة لا يقيدها بهم، بل هي عامة فيهم وفي غيرهم من الكفار، على أن أبا جهل قتل في حادثة بدر الأولى الكائنة في السّنة الثانية من الهجرة وهذه السّورة نزلت في ذي القعدة السّنة السابعة منها، فبينهما خمس سنين وشهران، لأن غزوة بدر في رمضان، ولكن الآية مكية فيجوز إدخال أبو جهل واضرابه فيها، إذ نزلت على أثر ما دبروه في قصته صلى الله عليه وسلم. قال تعالى «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ» متغير الطّعم ولا منتن من طول المكث أو طرح شيء فيها كأنهار الدّنيا، بل هي صافية طيبة عذبة «وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ» لأن التغيير من خصائص الدّنيا وما فيها، أما الآخرة فلا تغير فيها، كما أنها هي لا تتغير على كر الأزمان «وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ»

لا حامضة ولا مرة ولا حريقة ولم تدنس بعصر الأيدي ولا بدوس الأرجل كخمر الدنيا ولا غول فيها يذهب العقل ويصدع الرّأس ويقيء الطّعام، راجع الآية ٤٤ من سورة الصّافات ج ٢ تجد ما يتعلق بالفرق بينهما «وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى» لا شمع فيه ولم يخرج من بطون النّحل فيوجد منه ميتا فيه مما تستقذره النفس، بل هو خالص من كلّ الشّوائب جاء عن حكيم بن معاذ عن أبيه عن النبي ﷺ قال إن في الجنّة بحر الماء وبحر العسل وبحر اللّبن وبحر الخمر، ثم تشقق الأنهار بعد- أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح- وروى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ سيحان (نهر اورقه غير سيحون) وجيحان (نهر المصيصة في بلاد الأرمن غير جيحون) والفرات ونيل مصر كلّ من أنهار الجنّة أي مادتها من مادة أنهار الجنّة من حيث الطّعم واللّون، لا أن منبعها من هناك لأن منابعها الظّاهرة في الدّنيا مشهودة ومعلومة ومشهورة، وان قول حضرة الرسول من أنهار الجنّة لا يعني أن منابعها منها بالنسبة لما نراه وبالنظر لواقع الحال أما في الحقيقة فلا يعلمها إلّا الله لأن ظاهر علمنا يقتصر عند ظاهر منابعها ولا نعلم من أين يأتي ذلك، وليس محالا على الله أو مستحيلا عليه إن جعل أصل منبعها من الجنّة أو من فوقها أو من تحتها، والله على كلّ شىء قدير. وعلينا أن نصدق بما جاء عن الرّسول في هذه وغيرها لأنه لا ينطق عن هوى، وقد أمرنا الله بأن نأخذ ما يأتينا به وننتهي عما ينهانا عنه كما يأتي في الآية ٧ من سورة الحشر. قال تعالى «وَلَهُمْ فِيها» أي الجنّة ذات الأنهار المذكورة «مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ» مما عرفه البشر أو لم يعرفه يتفكهون فيها «وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ» أيضا زيادة على ذلك كله، ورفع التكاليف عنهم فيما يأكلون ويشربون بخلاف فواكه الدنيا فإنهم قد يحاسبون عليها هل هي من حل أم لا، وهل أسرف فيها أم لا، وهل رزق غيره منها أم لا، أما المغفرة عن الذنوب فتكون لأهل الجنّة قبل دخولها فمثل هؤلاء المؤمنين الكرام ليس «كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ» من الكفرة اللئام «وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ» (١٥) لشدة حرارته. وبعد أن بين تعالى حال أهل الجنّة وأهل النّار طفق يذكر بعض مثالب المنافقين، فقال
صفحة رقم 25
عز قوله «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ» يا حبيبي «قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» من أصحابك «ماذا قالَ آنِفاً» لأنهم لا يعون قوله إذ لا يلقون له بالا تهاونا به قاتلهم الله، وتغافلا عنه، لذلك لا يقهمونه «أُولئِكَ» الّذين لا يفطنون لكلام رسولهم هم «الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ» فلم ينتفعوا بها لذلك لم يصغوا لمواعظ الرّسول وهو معهم فتركوها «وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» (١٦) الباطلة فأمات الله قلوبهم «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا» بهداية الله وعظات رسوله، فسمعوا خطابه ووعوا قوله وانتفعوا به «زادَهُمْ هُدىً» وبصيرة وعلما لم يعلمه غيرهم لأن الله شرح صدورهم «وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ» (١٧) أي
جزاءها الدّنيوي في الآخرة وبينه لهم على لسان رسولهم. ثم شرع يهدد الكافرين والمنافقين، فقال عز قوله «فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً» على حين غفلة وغرة «فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها» علاماتها وأماراتها «فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ» (٨) أي فكيف بهم إذا جاءتهم السّاعة المذكّرة لهم بكل ما وقع منهم، وكيف يكون حالهم في ذلك الوقت عند بروز أعمالهم السّيئة، ومن أين لهم إذ ذاك التذكر والاعتذار والتوبة والإيمان لفوات محلها؟ أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ بادروا بالأعمال سبعا، فهل تنظرون إلّا فقرا منسيا، أو غنى مطغيا، أو مرضا مفسدا، أو هرما مقعدا، أو موتا مجهزا، أو الدّجال، فشرّ غائب ينتظر، أو السّاعة والسّاعة أدهى وأمر. وروى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال رأيت النّبي ﷺ قال بإصبعه هكذا الوسطى والتي تلي الإبهام وقال بعثت أنا والسّاعة كهاتين. ورويا عن أنس مثله بزيادة كفضل إحداهما على الأخرى، وضم السّبابة والوسطى. أي ما بين مبعثه ﷺ وقيام السّاعة شيء يسير كما بين الإصبعين من الطّول.
مطلب عصمة النّساء وصلة الرّحم وتدبر القرآن ومثالب المنافقين والكافرين والبخل وما نفرع عنه:
ورويا عن أنس قال عند قرب وفاته ألا أحدثكم حديثا عن النّبي ﷺ لا يحدثكم به أحد غيري، سمعت رسول الله ﷺ يقول لا تقوم السّاعة، أو قال من أشراط

الساعة أن يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويشرب الخمر، ويفشو الزنى ويذهب الرجال ويبقى النّساء حتى يكون لخمسين امرأة قيم. وفي رواية: ويظهر الزنى ويقل الرّجال وتكثر النّساء. ورويا عن أبي هريرة أن من أشراط السّاعة أن يتقارب الزمان وينقص العلم وتظهر الفتن ويلقى الشّح، أي يلقى البخل والحرص في قلوب النّاس على اختلاف أحوالهم هذا على سكون اللام (فَمَنْ يُلْقى) وعلى فتحه وتشديد القاف يكون المعنى يتلقى البخل ويتعلم ويدعى إليه ويتواصى به، قاله العتبي وصوّبه ابن الأثير. ولا يقال يلقى بمعنى يترك إذ لا يستقيم المعنى لأن المقام مقام ذم، ويكثر الهرج، قالوا وما الهرج يا رسول الله؟ قال القتل.
هذا وقد أسهبنا البحث في هذا في الآية ١٥٨ من سورة الأنعام المارة في ج ٢.
واعلم أن المراد برفع العلم ونقصه موت العلماء وقلة طلبه، لا أنه يرفعه من قلوب العلماء، لأنه أكرم من أن يأخذه ممن يمنحه إياه، يؤيده خبر: إن الله لا ينتزع العلم انتزاعا وإنما يرفعه بموت العلماء. ثم التفت إلى رسوله وخاطبه بقوله «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ» ودم على ما أنت عليه من العلم بهذا التوحيد الخالص، وأعلم أمتك بالمداومة عليه وحثهم على التمسك به، وأن يعضوا على هذه الكلمة بالنواجذ وأعلمهم أن لا خلاص لأحد من عذاب الله إلّا بها، وحرضهم على أن لا يفقوا عنها، وخاصة عند مفارقتهم الدنيا، فمن مات عليها. اللهم أمتنا عليها، وقد وصفها بعضهم بقوله:
مليحة التكرار والتنثى | لا تغفلي عند الوداع عني |