
يقول تعالى مخبراً عن المؤمنين، أنهم تمنوا شرعية الجهاد، لما فرضه الله عزَّ جلَّ وأمر به، نكل عنه كثير من الناس كقوله تبارك وتعالى :﴿ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القتال لولا أَخَّرْتَنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ ﴾ [ النساء : ٧٧ ] وقال عزَّ وجلَّ هاهنا :﴿ وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ ﴾ أي مشتملة على القتال ﴿ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القتال رَأَيْتَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت ﴾ أي من فزعهم ورعبهم وجبنهم من لقاء الأعداء، ثم قال مشجعاً لهم :﴿ فأولى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ﴾ أي وكان الأولى بهم أن يسمعوا ويطيعوا، أي في الحالة الراهنة ﴿ فَإِذَا عَزَمَ الأمر ﴾ أي جد الحال، وحضر القتال ﴿ فَلَوْ صَدَقُواْ الله ﴾ أي أخلصوا له النية ﴿ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ﴾، وقوله سبحانه وتعالى :﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ ﴾ أي عن الجهاد ونكلتم عنه ﴿ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض وتقطعوا أَرْحَامَكُمْ ﴾ ؟ أي تعودوا إلى ما كنتم فيه من الجاهلية الجهلاء، تسفكون الدماء وتقطعون الأرحام، ولهذا قال تعالى :﴿ أولئك الذين لَعَنَهُمُ الله فَأَصَمَّهُمْ وأعمى أَبْصَارَهُمْ ﴾ وهذا نهي عن الإفساد في الأرض عموماً، وعن قطع الأرحام خصوصاً، بل قد أمر الله تعالى بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام، وقد وردت الأحاديث بذلك عن رسول الله ﷺ، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال :« خلق الله تعلى الخلق، فلما فرغ منه قامت الرحم، فأخذت بحقوي الرحمن عزَّ وجلَّ، فقال : مه، فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال تعالى : ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت : بلى، قال : فذاك لك » قال أبو هريرة رضي الله عنه : اقرأوا إن شئتم ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض وتقطعوا أَرْحَامَكُمْ ﴾. وروى الإمام أحمد عن أبي بكرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« ما من ذنب أحرى أن يعجل الله تعالى عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم » وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال :« جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال : يا رسول الله إن لي ذوي أرحام : أصل ويقطعون، وأعفو ويظلمون، وأحسن ويسيئون، أفكافئهم؟ قال ﷺ :» لا، إذن تتركون جميعاً، ولكنْ جُدْ بالفضل وصلهم، فإنه لن يزال معك ظهير من الله عزَّ وجلَّ ما كنت على ذلك « » وقال الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال، قال رسول الله ﷺ :
صفحة رقم 2349
« إن الرحم معلقة بالعرش، وليس الواصل بالمكافىء، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها »، وفي الحديث القدسي :« قال الله عزَّ وجلَّ أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسماً من اسمي، فمن يصلها أصله، ومن يقطعها أقطعه فأبتُّه »، وقال رسول الله ﷺ :« الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف » وفي الحديث قال رسول الله ﷺ :« إذا ظهر القول وخزن العمل وائتلفت الألسنة وتباغضت القلوب، وقطع كل ذي رحم رحمه، فعند ذلك لعنهم الله وأصمهم وأعمى أبصارهم »، والأحاديث في هذا كثيرة، والله أعلم.
صفحة رقم 2350