إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ ظرف متعلق بالنفي الصريح أو الضمني في قوله تعالى: فَما أَغْنى وهو ظرف أريد به التعليل كناية أو مجازا لاستواء مؤدى الظرف والتعليل في قولك: ضربته لإساءته وضربته إذ أساء لأنك إنما ضربته في ذلك الوقت لوجود الإساءة فيه، وهذا مما غلب في إذ وحيث من بين سائر الظروف حتى كاد يلحق بمعانيهما الوضعية وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء ويقولون:
فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الأعراف: ٧٠، هود: ٣٢].
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ يا أهل مكة مِنَ الْقُرى كحجر ثمود وقرى قوم صالح، والكلام بتقدير مضاف أو تجوز بالقرى عن أهلها بقوله تعالى: وَصَرَّفْنَا الْآياتِ أي كررناها لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وأمر ما سهل، والترجي مصروف لغيره تعالى أو (لعل) للتعليل أي لكي يرجعوا عما هم فيه من الكفر والمعاصي إلى الإيمان والطاعة فَلَوْلا نَصَرَهُمُ فهلا منعهم من الهلاك الذي وقعوا فيه الَّذِينَ اتَّخَذُوا أي آلهتهم الذين اتخذوهم.
مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً والضمير الذي قدرناه عائدا هو المفعول الأول لاتخذوا. وآلِهَةً هو المفعول الثاني وقُرْباناً بمعنى متقربا بها حال أي اتخذوهم آلهة من دون الله حال كونها متقربا بها إلى الله عزّ وجلّ حيث كانوا يقولون: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: ٣] وهؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: ١٨] وفي الكلام تهكم بهم.
وأجار الحوفي كون قُرْباناً مفعولا من أجله، وأجاز هو أيضا وابن عطية ومكي وأبو البقاء كونه المفعول الثاني لا تخذوا. وجعل آلِهَةً بدلا منه، وقال في الكشاف: لا يصح ذلك لفساد المعنى، ونقل عنه في بيانه أنه لا يصح أن يقال: تقربوا بها من دون الله لأن الله تعالى لا يتقرب به، وأراد كما في الكشف أنه إذا جعل مفعولا ثانيا يكون المعنى فلولا نصرهم الذين اتخذوهم قربانا بدل الله تعالى أو متجاوزين عن أخذه تعالى قربانا إليهم وهو معنى فاسد.
واعترض عليه بجعل دُونِ بمعنى قدام كما قيل به في قوله تعالى: وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [البقرة: ٢٣١]
وبأنه قد قيل: إن قربانا مفعول له فهو غير مختص بالمتقرب به، وجاز أن يطلق على المتقرب إليه وحينئذ يلتئم الكلام.
وأجيب عن الأول بأنه غير قادح لأنه مع نزارة استعمال دون بمعنى قدام لا يصلح ظرف الاتخاذ لأنه ليس بين يدي الله تعالى وإنما التقرب بين يديه تعالى ولأجله سبحانه، واتخاذهم قربانا ليس التقرب به لأن معناه تعظيمهم بالعبادة ليشفعوا بين يدي الله عزّ وجلّ ويقربوهم إليه سبحانه، فزمان الاتخاذ ليس زمان التقرب البتة، وحينئذ ان كان مستقرا حالا لزم ما لزم في الأول.
ولا يجوز أن يكون معمول قُرْباناً لأنه اسم جامد بمعنى ما يتقرب به فلا يصلح عاملا كالقارورة وإن كان فيها معنى القرار، وفيه نظر. وأجيب عن الثاني بأن الزمخشري بعد أن فسر القربان بما يتقرب به ذكر هذا الامتناع على أن قوله تعالى بعد. بَلْ ضَلُّوا إلخ ينادي على فساد ذلك أرفع النداء، وقال بعضهم في امتناع كون قُرْباناً مفعولا ثانيا وآلِهَةً بدلا منه: إن البدل وإن كان هو المقصود لكن لا بد في غير بدل الغلط من صحة المعنى بدونه ولا صحة لقولهم: اتخذوهم من دون الله قربانا أي ما يتقرب به لأن الله تعالى لا يتقرب به بل يتقرب إليه فلا يصح أنهم اتخذوهم قربانا متجاوزين الله تعالى في ذلك، وجنح بعضهم إلى أنه يصح أن يقال: الله تعالى يتقرب به أي برضاه تعالى والتوسل به جل وعلا. وقال الطيبي: إن الزمخشري لم يرد بفساد المعنى إلا خلاف المعنى المقصود إذ لم يكن قصدهم في اتخاذهم الأصنام آلهة على زعمهم إلا أن يتقربوا بها إلى الله تعالى كما نطقت به الآيات فتأمل.
وقرىء «قربانا» بضم الراء بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ أي غابوا عنهم، وفيه تهكم بهم أيضا كأن عدم نصرهم لغيبتهم أو ضاعوا عنهم أي ظهر ضياعهم عنهم بالكلية وقد امتنع نصرهم الذي كانوا يؤملونه امتناع نصر الغائب عن المنصور وَذلِكَ أي ضلال آلهتهم عنهم إِفْكُهُمْ أي أثر إفكهم أي صرفهم عن الحق واتخاذهم إياها آلهة ونتيجة شركهم وَما كانُوا يَفْتَرُونَ أي وأثر افترائهم وكذبهم على الله تعالى أو أثر ما كانوا يفترونه على الله عزّ وجلّ، وقيل: ذلك إشارة إلى اتخاذ الأصنام آلهة أي ذلك الاتخاذ الذي أثره ضلال آلهتهم عنهم كذبهم وافتراؤهم أو والذي كانوا يفترونه وليس بذاك وإن لم يحوج إلى تقدير مضاف. وقرأ ابن عباس في رواية «أفكهم» بفتح الهمزة والافك والأفك مصدران كالحذر والحذر وقرأ ابن الزبير. والصباح بن العلاء الأنصاري وأبو عياض وعكرمة وحنطلة بن النعمان بن مرة ومجاهد وهي رواية عن ابن عباس أيضا «أفكهم» بثلاث فتحات على أن افك فعل ماض وحينئذ الإشارة إلى الاتخاذ أي ذلك الاتخاذ صرفهم عن الحق، وَما كانُوا قيل عطف على ذلك أو على الضمير المستتر وحسن للفصل أو هو مبتدأ والخبر محذوف أي كذلك، والجملة حينئذ معطوفة على الجملة قبلها.
وأبو عياض وعكرمة أيضا كذلك إلا أنهما شددا الفاء للتكثير، وابن الزبير أيضا. وابن عباس فيما ذكر ابن خالويه «آفكهم» بالمد فاحتمل أن يكون فاعل فالهمزة أصلية وأن يكون أفعل والهمزة للتعدية أي جعلهم يأفكون، وجوز أن تكون للوجدان كأحمدته وأن يكون أفعل بمعنى فعل، وحكى في البحر أنه قرىء «أفكهم» بفتح الهمزة والفاء وضم الكاف وهي لغة في الإفك. وقرأ ابن عباس فيما روى قطرب. وأبو الفضل الرازي «آفكهم» اسم فاعل من إفك أي وذلك الاتخاذ صارفهم عن الحق. وقرىء «وذلك إفك مما كانوا يفترون» والمعنى ذلك بعض ما يفترون من الإفك أي بعض أكاذيبهم المفتريات فالافك بمعنى الاختلاف فلا تغفل.
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ أي أملناهم إليك ووجهناهم لك، والنفر على المشهور ما بين الثلاثة والعشرة من الرجال لأنه من النفير والرجال هم الذين إذا حزبهم أمر نفروا لكفايته، والحق أن هذا باعتبار الأغلب فإنه يطلق على ما فوق العشرة في الفصيح، وقد ذكر ذلك جمع من أهل اللغة، وفي المجمل الرهط والنفر يستعمل إلى
الأربعين، وفي كلام الشعبي حدثني بضعة عشر نفرا، وسيأتي إن شاء الله تعالى تفسيره هنا بما زاد على العشرة ولا يختص بالرجال، والأخذ من النفير لا يدل على الاختصاص بهم بل ولا بالناس لإطلاقه على الجن هنا.
والجار والمجرور صفة نَفَراً وقوله تعالى: يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ حال مقدرة منه لتخصصه بالصفة أو صفة له أخرى وضمير الجمع لأنه اسم جمع فهو في المعنى جمع، ولذا قرىء «صرّفنا» بالتشديد للتكثير، وإِذْ معمولة لمقدر لا عطف على أَخا عادٍ أي واذكر لقومك وقت صرفنا إليك نفرا من الجن مقدرا استماعهم القرآن لعلهم يتنبهون لجهلهم وغلطهم وقبح ما هم عليه من الكفر بالقرآن والإعراض عنه حيث إنهم كفروا به وجهلوا أنه من عند الله تعالى وهم أهل اللسان الذي نزل به ومن جنس الرسول الذي جاء به وأولئك استمعوه وعلموا أنه من عنده تعالى وأمنوا به وليسوا من أهل لسانه ولا من جنس رسوله ففي ذكر هذه القصة توبيخ لكفار قريش والعرب، ووقوعها أثر قصة هود وقومه وإهلاك من أهلك من أهل القرى لأن أولئك كانوا ذوي شدة وقوة كما حكي عنهم في غير آية والجن توصف بذلك أيضا كما قال تعالى: قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ [النمل:
٣٩] ووصفهم بذلك معروف بين العرب فناسبت ما قبلها لذلك مع ما قيل أن قصة عاد متضمنة ذكر الريح وهذه متضمنة ذكر الجن وكلاهما من العالم الذي لا يشاهد، وسيأتي الكلام في حقيقتهم.
فَلَمَّا حَضَرُوهُ أي القرآن عند تلاوته، وهو الظاهر وإن كان فيه تجوز، وقيل: الرسول الله عند تلاوته له ففيه التفات قالُوا أي قال بعضهم لبعض أَنْصِتُوا اسكتوا لنسمعه، وفيه تأدب مع العلم وكيف يتعلم فَلَمَّا قُضِيَ أتم وفرغ عن تلاوته. وقرأ أبو مجلز وحبيب بن عبد الله «قضى» بالبناء للفاعل وهو ضمير الرسول الله، وأيد بذلك عود ضمير حَضَرُوهُ إليه عليه الصلاة والسلام.
وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ مقدرين إنذارهم عند وصولهم إليهم، قيل: إنهم تفرقوا في البلاد فأنذروا من رأوه من الجن، وكان هؤلاء كما جاء في عدة روايات من جن نصيبين وهي من ديار بكر قريبة من الشام، وقيل: من نينوى وهي أيضا من ديار بكر لكنها قريبة من الموصل، وذكر أنهم كانوا من الشيصبان وهم أكثر الجن عددا وعامة جنود إبليس منهم، وكان الحضور بوادي نخلة على نحو ليلة من مكة المكرمة. فقد أخرج أحمد وعبد بن حميد والشيخان والترمذي والنسائي وجماعة عن ابن عباس قال: انطلق النبي صلّى الله عليه وسلّم في طائفة من أصحابه إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب قالوا ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو وأصحابه بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو عليه الصلاة والسلام يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء فهناك حين رجعوا إلى قومهم.
وفي رواية ابن المنذر عن عبد الملك أنهم لما حضروه قالوا: أنصتوا فلما قضى وفرغ صلّى الله عليه وسلّم من صلاة الصبح ولوا إلى قومهم منذرين مؤمنين لم يشعر بهم حتى نزل قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ [الجن: ١].
وفي الصحيحين عن مسروق عن ابن مسعود أنه آذنته صلّى الله عليه وسلّم بهم شجرة وكانوا على ما روي عن ابن عباس سبعة وكذا قال زر وذكر منهم زوبعة، وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد أنهم كانوا سبعة. ثلاثة من أهل حران، وأربعة من نصيبين وكانت أسماؤهم حسى. ومسى. وشاصر. وماصر. والاردوانيان. وسرق. والأحقم. بميم آخره، وفي رواية عن كعب الأحقب بالباء، وذكر صاحب الروض بدل حسى. ومسى. منشىء. وناشىء.
وأخرج ابن جرير والطبراني. وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في هؤلاء النفر: كانوا تسعة عشر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رسلا إلى قومهم، والخبر السابق يدل على أنه صلّى الله عليه وسلّم كان حين حضر الجن مع طائفة من أصحابه، وأخرج عبد بن حميد وأحمد ومسلم والترمذي وأبو داود عن علقمة قال قلت لابن مسعود: هل صحب النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجن منكم أحد؟ قال: ما صحبه منا أحد ولكنا كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب فقلنا: استطير أو اغتيل فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء فأخبرناه فقال أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم فهذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن معه أحد من أصحابه ولم يشعر به أحد منهم.
وأخرج أحمد عن ابن مسعود أنه قال: قمت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجن وأخذت إداوة ولا أحسبها إلا ماء حتى إذا كنا بأعلى مكة رأيت أسودة مجتمعة قال: فخط لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: قم هاهنا حتى آتيك ومضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم فرأيتهم يتثورون إليه فسمر معهم ليلا طويلا حتى جاءني مع الفجر فقال لي: هل معك من وضوء قلت:
نعم ففتحت الإداوة فإذا هو نبيذ فقلت: ما كنت أحسبها إلا ماء فإذا هو نبيذ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ثمرة طيبة وماء طهور فتوضأ منها ثم قام يصلي فأدركه شخصان منهم فصفهما خلفه ثم صلى بنا فقلت: من هؤلاء يا رسول الله؟ قال:
جن نصيبين
فهذا يدل على خلاف ما تقدم والجمع بتعدد واقعة الجن، وقد أخرج الطبراني في الأوسط. وابن مردويه عن الحبر أنه قال: صرفت الجن إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرتين، وذكر الخفاجي أنه قد دلت الأحاديث على أن وفادة الجن كانت ست مرات ويجمع بذلك اختلاف الروايات في عددهم وفي غير ذلك،
فقد أخرج أبو نعيم. والواقدي عن كعب الأحبار قال: انصرف النفر التسعة من أهل نصيبين من بطن نخلة وهم فلان وفلان وفلان والاردوانيان. والأحقب جاؤوا قومهم منذرين فخرجوا بعد وافدين إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم ثلاثمائة فانتهوا إلى الحجون فجاء الأحقب فسلم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن قومنا قد حضروا الحجون يلقونك فواعده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لساعة من الليل بالحجون.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة أنه قال في الآية: هم اثنا عشر ألفا من جزيرة الموصل، وفي الكشاف حكاية هذا العدد أيضا وأن السورة التي قرأها صلّى الله عليه وسلّم عليهم اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: ١]، ونقل في البحر عن ابن عمر. وجابر ابن عبد الله رضي الله تعالى عنهم أنه عليه الصلاة والسلام قرأ عليهم سورة الرحمن فكان إذا قال: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن] قالوا: لا بشيء من آيات ربنا نكذب ربنا لك الحمد، وأخرج أبو نعيم في الدلائل. والواقدي عن أبي جعفر قال: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجن في ربيع الأول سنة إحدى عشر من النبوة وفي معناه ما قيل: كانت القصة قبل الهجرة بثلاث سنين بناء على ما صح عن ابن عباس أنه صلّى الله عليه وسلّم مكث بمكة يوحى إليه ثلاث عشرة سنة وفي المسألة خلاف والمشهور ما ذكر.
وقيل: كان استماع الجن في ابتداء الإيحاء قالُوا أي عند رجوعهم إلى قومهم يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً جليل الشأن أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ذكروه دون عيسى عليهما السلام لأنه متفق عليه عند أهل الكتابين ولأن الكتاب المنزل عليه أجل الكتب قبل القرآن وكان عيسى عليه السلام مأمورا بالعمل بمعظم ما فيه أو بكله، وقال عطاء: لأنهم كانوا على اليهودية ويحتاج إلى نقل صحيح، وعن ابن عباس أن الجن لم تكن سمعت بأمر عيسى عليه السلام فلذا قالوا ذلك، وفيه بعد فإن اشتهار أمر عيسى عليه السلام وانتشار أمر دينه أظهر من أن يخفى لا سيما على الجن، ومن هنا قال أبو حيان: إن هذا لا يصح عن ابن عباس مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من التوراة أو جميع الكتب الإلهية السابقة يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ من العقائد الصحيحة وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ من الأحكام الفرعية أو ما يعمها وغيرها من العقائد على أنه من ذكر العام بعد الخاص.
يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ أرادوا به ما سمعوه من الكتاب ووصفوه بالدعوة إلى الله تعالى بعد ما وصفوه بالهداية إلى الحق والطريق المستقيم لتلازمهما، وفي الجمع بينهما ترغيب لهم في الإجابة أي ترغيب، وجوز أن يكون أرادوا به الرسول صلّى الله عليه وسلّم وَآمِنُوا بِهِ أي بداعي الله تعالى أو بالله عز وجل يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي بعض ذنوبكم قيل: وهو ما كان خالص حقه عز وجل فإن حقوق العباد لا تغفر بالإيمان. وتعقبه ابن المنير بأن الحربي إذا نهب الأموال وسفك الدماء ثم حسن إسلامه جب إسلامه إثم ما تقدم بلا إشكال ثم قال ويقال: إنه لم يرد وعد المغفرة للكافرين على تقدير الإيمان في كتاب الله تعالى إلا مبعضة وهذا منه فإن لم يكن لاطراده كذلك سر فما هو إلا أن مقام الكافرين قبض لا بسط فلذلك لم يبسط رجاؤه في مغفرة جملة الذنوب، وقد ورد في حق المؤمنين كثيرا، ورده صاحب الإنصاف بأن مقام ترغيب الكافر في الإسلام بسط لا قبض وقد أمر الله تعالى أن يقول لفرعون: قَوْلًا لَيِّناً [طه: ٤٤] وقد قال تعالى: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [الأنفال: ٣٨] وهي غير مبعضة و «ما» للعموم لا سيما وقد وقعت في الشرط.
وقال بعض أجلة المحققين: إن الحربي وإن كان إذا أسلم لا تبقى عليه تبعة أصلا لكن الذمي إذا أسلم تبقى عليه حقوق الآدميين، والقوم- كما نقل عن عطاء- كانوا يهودا فتبقى عليهم تبعاتهم فيما بينهم إذا أسلموا جميعا من غير حرب فلما كان الخطاب معهم جيء بما يدل على التبعيض، وقيل: جيء به لعدم علم الجن بعد بأن الإسلام يجب إثم ما قبله مطلقا وفيه توقف، وقد يقال: أرادوا بالبعض الذنوب السالفة ولو لم يقولوا ذلك لتوهم المخاطبون أنهم إن أجابوا داعي الله تعالى وآمنوا به يغفر لهم ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر، وقيل: من زائدة أي يغفر لكم ذنوبكم وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ معد للكفرة، وهذا ونحوه يدل على أن الجن مكلفون، ولم ينص هاهنا على ثوابهم إذا أطاعوا وعمومات الآيات تدل على الثواب، وعن ابن عباس لهم ثواب وعليهم عقاب يلتقون في الجنة ويزدحمون على أبوابها، ولعل الاقتصار هنا على ما ذكر لما فيه من التذكير بالذنوب والمقام مقام الإنذار فلذا لم يذكر فيه شيء من الثواب، وقيل: لا ثواب لمطيعيهم إلا النجاة من النار فيقال لهم: كونوا ترابا فيكونون ترابا، وهذا مذهب ليث بن أبي سليم. وجماعة ونسب إلى الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وقال النسفي في التيسير: توقف أبو حنيفة في ثواب الجن في الجنة ونعيمهم لأنه لا استحقاق للعبد على الله تعالى ولم يقل بطريق الوعد في حقهم إلا المغفرة والإجارة من العذاب، وأما نعيم الجنة فموقوف على الدليل.
وقال عمر بن عبد العزيز إن مؤمني الجن حول الجنة في ربض وليسوا فيها، وقيل: يدخلون الجنة ويلهمون التسبيح والذكر فيصيبون من لذة ذلك ما يصيبه بنو آدم من لذائذهم، قال النووي في شرح صحيح مسلم: والصحيح أنهم يدخلونها ويتنعمون فيها بالأكل والشرب وغيرهما، وهذا مذهب الحسن البصري. ومالك بن أنس والضحاك وابن أبي ليلى وغيرهم وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ إيجاب للإجابة بطريق الترهيب إثر إيجابها بطريق الترغيب وتحقيق لكونهم منذرين وإظهار داعي الله من غير اكتفاء بأحد الضميرين بأن يقال: يجبه أو يجب داعيه للمبالغة في الإيجاب بزيادة التقرير وتربية المهابة وإدخال الروعة.
وتقييد الإعجاز بكونه في الأرض لتوسيع الدائرة أي فليس بمعجز له تعالى بالهرب وإن هرب كل مهرب من أقطارها أو دخل في أعماقها، وقوله تعالى: وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ بيان لاستحالة نجاته بواسطة الغير إثر بيان استحالة نجاته بنفسه وجمع الأولياء باعتبار معنى مَنْ فيكون من باب مقابلة الجمع بالجمع لانقسام الآحاد على الآحاد، ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عامر أنه قرأ وليس لهم بضمير الجمع فإنه لمن باعتبار معناها، وكذا الجمع
في قوله سبحانه: أُولئِكَ بذلك الاعتبار أي أولئك الموصوفون بعدم إجابة داعي الله فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي ظاهر كونه ضلالا بحيث لا يخفى على أحد حيث أعرضوا عن إجابة من هذا شأنه أَوَلَمْ يَرَوْا الهمزة للإنكار والواو على أحد القولين عطف على مقدر دخله الاستفهام يستدعيه المقام، والرؤية قلبية أي ألم يتفكروا ولم يعلموا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ أي لم يتعب بذلك أصلا من عيي كفعل بكسر العين، ويجوز فيه الإدغام بمعنى تعب كأعيا، وقال الكسائي: أعييت من التعب وعييت من انقطاع الحيلة والعجز والتحير في الأمر وأنشدوا:
عيوا بأمرهم كما... عيت ببيضتها الحمامة
أي لم يعجز عن خلقهن ولم يتحير فيه، واختار بعضهم عدم الفرق، وقرأ الحسن «ولم يعي» بكسر العين وسكون الياء، ووجهه أنه في الماضي فتح عين الكلمة كما قالوا في بقي بقي بفتح القاف وألف بعدها وهي لغة طيء، ولما بني الماضي على فعل مفتوح العين بني مضارعه على يفعل مسكورها فجاء يعي فلما دخل الجازم حذف الياء فبقي يعي بنقل حركة الياء إلى العين فسكنت الياء، وقوله تعالى: بِقادِرٍ في حيز الرفع لأنه خبر أن والباء زائدة فيه، وحسن زيادتها كون ما قبلها في حيز النفي، وقد أجاز الزجاج ما ظننت أن أحدا بقائم قياسا على هذا، قال أبو حيان: والصحيح قصر ذلك على السماع فكأنه قيل هنا: أو ليس الله بقادر عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ولذلك أجيب عنه بقوله تعالى: بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تقريرا للقدرة على وجه عام يكون كالبرهان على المقصود، ولذا قيل: إن هذا مشير إلى كبرى لصغرى سهلة الحصول فكأنه قيل: إحياء الموتى شيء وكل شيء مقدور له فينتج أن إحياء الموتى مقدور له، ويلزمه أنه تعالى «قادر على أن يحيي الموتى».
وقرأ الجحدري وزيد بن علي وعمرو بن عبيد وعيسى والأعرج بخلاف عنه ويعقوب «يقدر» بدل بِقادِرٍ بصيغة المضارع الدال على الاستمرار وهذه القراءة على ما قيل موافقة أيضا للرسم العثماني.
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ظرف عامله قول مضمر مقوله تعالى: أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ أي ويقال: يَوْمَ يُعْرَضُ إلخ، والظاهر أن الجملة معترضة، وقيل: هي حال، والتقدير وقد قيل، وفيه نظر، وقد مر آنفا الكلام في العرض بطوله، والإشارة إلى ما يشاهدونه حين العرض من حيث هو من غير أن يخطر بالبال لفظ يدل عليه فضلا عن تذكيره وتأنيثه إذ هو اللائق بتهويله وتفخيمه، وقيل: هي إلى العذاب بقرينة التصريح به بعد، وفيه تهكم بهم وتوبيخ لهم على استهزائهم بوعد الله تعالى ووعيده، وقولهم: وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [الشعراء: ١٣٨، سبأ: ٣٥، الصافات: ٥٩].
قالُوا بَلى وَرَبِّنا تصديق بحقيته وأكدوا بالقسم كأنهم يطمعون في الخلاص بالاعتراف بحقية ذلك كما في الدنيا وأنى لهم. وعن الحسن أنهم ليعذبون في النار وهم راضون بذلك لأنفسهم يعترفون أنه العدل.
قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بسبب استمراركم على الكفر في الدنيا، ومعنى الأمر الإهانة بهم فهو تهكم وتوبيخ وإلا لكان تحصيلا للحاصل، وقيل: هو أمر تكويني والمراد إيجاب عذاب غير ما هم فيه وليس بذاك، والفاء في قوله تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ واقعة في جواب شرط مقدر أي إذا كان عاقبة أمر الكفرة ما ذكر فاصبر على ما يصيبك من جهتهم أو إذا كان الأمر على ما تحققته من قدرته تعالى الباهرة فَاصْبِرْ وجوز غير واحد كونها عاطفة لهذه الجملة على ما تقدم، والسببية فيها ظاهرة واقتصر في البحر على كونها لعطف
هذه الجملة على إخبار الكفار في الآخرة وقال: المعنى بينهما مرتبط كأنه قيل: هذه حالهم فلا تستعجل أنت واصبر ولا تخف إلا الله عز وجل، والعزم يطلق على الجد والاجتهاد في الشيء وعلى الصبر عليه، ومِنَ بيانية كما في فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج: ٣٠] والجار والمجرور في موضع الحال من الرُّسُلِ فيكون أولو العزم صفة جميعهم، وإليه ذهب ابن زيد والجبائي وجماعة أي فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ الرسل المجدون المجتهدون في تبليغ الوحي الذين لا يصرفهم عنه صارف ولا يعطفهم عنه عاطف والصابرون على أمر الله تعالى فيما عهده سبحانه إليهم أو قضاه وقدره عز وجل عليهم بواسطة أو بدونها. وعن عطاء الخراساني والحسن بن الفضل والكلبي ومقاتل وقتادة وأبي العالية وابن جريج، وإليه ذهب أكثر المفسرين أن مِنَ للتبعيض فأولو العزم بعض الرسل عليهم السلام، واختلف في عدتهم وتعيينهم على أقوال، فقال الحسن بن الفضل: ثمانية عشر وهم المذكورون في سورة الأنعام لأنه سبحانه قال بعد ذكرهم: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: ٩٠] وقيل: تسعة نوح عليه السلام صبر على أذى قومه طويلا. وإبراهيم عليه السلام صبر على الإلقاء في النار. والذبيح عليه السلام صبر على ما أريد به من الذبح. ويعقوب عليه السلام صبر على فقد ولده. ويوسف عليه السلام صبر على البئر والسجن وأيوب عليه السلام صبر على البلاء. وموسى عليه السلام قال له قومه: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء: ٦١] فقال إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: ٦٢] وداود عليه السلام بكى على خطيئته أربعين سنة وعيسى عليه السلام لم يضع لبنة على لبنة وقال: إنها يعني الدنيا معبرة فاعبروها ولا تعمروها، وقيل:
سبعة آدم ونوح وإبراهيم وموسى وداود وسليمان وعيسى عليهم السلام، وقيل: ستة وهم الذين أمروا بالقتال وهم نوح وهود وصالح وموسى وداود وسليمان، وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس، وعن مقاتل أنهم ستة ولم يذكر حديث الأمر بالقتال وقال: هم نوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب ويوسف وأيوب وأخرج ابن عساكر عن قتادة أنهم نوح وهود وإبراهيم وشعيب وموسى عليهم السلام وظاهره القول بأنهم خمسة وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عنه أنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وظاهره القول بأنهم أربعة وهذا أصح الأقوال. وقول الجلال السيوطي: إن أصحها القول بأنهم خمسة هؤلاء الأربعة ونبينا صلّى الله عليه وسلّم وعليهم أجمعين وأخرج ذلك ابن أبي حاتم. وابن مردويه عن ابن عباس وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله من أئمة أهل البيت رضي الله تعالى عنهم ونظمهم بعض الأجلة فقال:
أولو العزم نوح والخليل الممجد | وموسى وعيسى والحبيب محمد |
الإشارة إلى ما ذكر من المدة التي لبثوا فيها كأنه قيل: تلك الساعة بلاغهم كما قال تعالى: مَتاعٌ قَلِيلٌ [آل عمران:
١٩٧، النحل: ١١٧] وقال أبو مجلز: بَلاغٌ مبتدأ خبره قوله تعالى: لَهُمْ السابق فيوقف على وَلا تَسْتَعْجِلْ ويبتدأ بقوله تعالى: لَهُمْ وتكون الجملة التشبيهية معترضة بين المبتدأ والخبر والمعنى لهم انتهاء وبلوغ إلى وقت فينزل بهم العذاب وهو ضعيف جدا لما فيه من الفصل ومخالفة الظاهر إذ الظاهر تعلق لَهُمْ بتستعجل. وقرأ الحسن وزيد بن علي وعيسى «بلاغا» بالنصب بتقدير بلغ بلاغا أو بلغنا بلاغا أو نحو ذلك. وقرأ الحسن أيضا «بلاغ» بالجر على أنه نعت لنهار.
فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن الاتعاظ أو عن الطاعة، وفي الآية من الوعيد والإنذار ما فيها.
وقرأ ابن محيصن فيما حكى عنه ابن خالويه «يهلك» بفتح الياء وكسر اللام. وعنه أيضا «يهلك» بفتح الياء واللام وماضيه هلك بكسر اللام وهي لغة، وقال أبو الفتح: هي مرغوب عنها. وقرأ زيد بن ثابت «نهلك» بنون العظمة من الإهلاك «القوم الفاسقين» بالنصب، وهذه الآية أعني قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ إلى الآخر جاء في بعض الآثار ما يعشر بأن لها خاصية من بين آي هذه السورة.
أخرج الطبراني في الدعاء عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا طلبت حاجة وأحببت أن تنجح فقل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي العظيم لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحليم الكريم بسم الله الذي لا إله إلا هو الحي الحليم سبحان الله رب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها. كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون اللهم إني اسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والسلامة من كل إثم والغنيمة من كل بر والفوز بالجنة والنجاة من النار اللهم لا تدع لي ذنبا إلا غفرته ولا هما إلا فرجته ولا دينا إلا قضيته ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها برحمتك يا أرحم الراحمين»