
رُوي عن الزبير ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن ﴾ قال : بنخلة، ورسول الله ﷺ يصلي العشاء الآخرة، ﴿ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾ [ الجن : ١٩ ] ﷺ وكانوا سبعة من جن نصيبين «. وروى الحافظ البيهقي في كتابه » دلائل النبوة « عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :» ما قرأ رسول الله ﷺ على الجن ولا رآهم، انطلق رسول الله ﷺ في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ. وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت اليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهمه، فقالوا : ما لكم؟ فقالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب، قالوا : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلاّ شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها وانظروا ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء، فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله ﷺ، وهو بنخلة عامداً إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا : هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء فهناك حين رجعوا إلى قومهم ﴿ فقالوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يهدي إِلَى الرشد فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً ﴾ « [ الجن : ١-٢ ]، أنزل الله على نبيّه ﷺ ﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن ﴾ [ الجن : ١ ] وإنما أوحي إليه قول الجن، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : هبطوا على النبي ﷺ وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة فلما سمعوه، قالوا : أنصتوا، قال : صه، وكانوا تسعة، أحدهم زوبعة، فأنزل الله عزَّ وجلَّك ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالوا أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ﴾ - إلى - ﴿ ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ فهذا مع رواية ابن عباس يقتضي أن رسول الله ﷺ لم يشعر بحضورهم في هذه المرة، وإنما استعموا قراءته ثم رجعوا إلى قومهم، ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالاً، قوماً بعد قوم، وفوجاً بعد فوج، قال الحافظ البيهقي : وهذا الذي حكاه ابن عباس رضي الله عنهما إنما هو أول ما سمعت الجن قراءة رسول الله ﷺ وعلمت حاله، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم، ثم بعد ذلك أتاه داعي الجن فقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله عزَّ وجلَّ.
روى الإمام مسلم، عن عامر قال : سألت علقمة : هل كان ابن مسعود رضي الله عنه شهد مع رسول الله ﷺ ليلة الجن؟ قال : فقال علقمة : أنا سألت ابن مسعود رضي الله عنه فقلت :

« هل شهد أحد منكم مع رسول الله ﷺ ليلة الجن؟ قال : لا، ولكنا كنا مع رسول الله ﷺ ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقيل : استطير؟ اغتيل؟ قال، فبتنا بشر ليلة بات بها قومٌ، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حرَاء، قال، فقلنا : يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فقال :» أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن «، قال : فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد، فقال :» كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم «، قال رسول الله ﷺ :» فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم « » وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال، « سمعت رسول الله ﷺ يقول :» بت الليلة أقرأ على الجن واقفاً بالحجون « ( طريق أُخرى ) : قال ابن جرير، عن ابن شهاب، عن أبي عثمان بن شبة الخزاعي وكان من أهل الشام قال :» إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ لأصحابه وهو بمكة :« من أحب منكم أن يحضر أمر الجن الليلة فليفعل »، فلم يحضر منهم أحد غيري، قال، فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة خط برجله خطاً، ثم أمرني أن أجلس فيه، ثم انطلق حتى قام، فافتتح القرآن، فغشيته أسودة كثيرة جالت بين وبينه، حتى ما أسمع صوته، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين، حتى بقي منهم رهط ففرغ رسول الله ﷺ مع الفجر، فانطلق فتبرز، ثم أتاني فقال :« ما فعل الرهط؟ » قلت : هم أولئك يا رسول الله، فأعطاهم عظماً وروثاً زاداً، ثم نهى أن يستطيب أحد بروث أو عظم «. وعن قتادة في قوله تعالى :﴿ وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن ﴾ قال :» ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من ( نينوى ) وأن نبي الله ﷺ قال :« إني أمرت أن أقرأ على الجن، فأيكم يتبعني؟ » فأطرقوا، ثم استتبعهم، فأطرقوا، ثم استتبعهم الثالثة، فقال رجل : يا رسول الله إن ذاك لذو ندبة، فأتبعه ابن مسعود رضي الله عنه أخو هذل، قال : فدخل ﷺ شعباً يقال له ( شعب الحجون ) وخط عليه، وخط على ابن مسعود رضي الله عنه خطاً ليثبته بذلك، قال : فجعلت أُهال وأرى أمثال النسور تمشي في دفوفها، وسمعت لغطاً شديداً حتى خفت على نبي الله ﷺ، ثم تلا القرآن، فلما رجع رسول الله ﷺ، قلت : يا رسول الله صلى الله ما اللغط الذين سمعت؟ قال ﷺ :« اختصموا في قتيل بينهم بالحق » «.
صفحة رقم 2337
فهذه الطريق تدل على أنه ﷺ ذهب إلى الجن قصداً، فتلا عليهم القرآن ودعاهم إلى الله عزَّ وجلَّ، أما الجن الذين لقوه بنخلة فجن نينوى، وأما الجن الذين لقوه بمكة فجن نصيبين، وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي :« كان أبو هريرة رضي الله عنه يتبع رسول الله ﷺ بإداوة لوضوئه وحاجته، فأدركه يوماً فقال :» من هذا؟ «، قال : أنا أبو هريرة، قال ﷺ :» ائتني بأحجار أستنج بها ولا تأتني بعظم ولا روثة «، فأتيته بأحجار في ثوبي، فوضعتها إلى جنبه، حتى ذا فرغ وقام اتبعته، فقلت : يا رسول الله ما بال العظم والروثة؟ قال ﷺ :» أتاني وفد جن نصيبين فسألوني الزاد، فدعوت الله تعالى لهم أن لا يمروا بروثة ولا عظم، ألاّ وجدوه طعاماً «. وقال سفيان الثوري، عن ابن مسعود رضي الله عنه : كانوا تسعة أحدهم زوبعة، أتوه من أصل نخلة، وفي رواية أنهم كانوا على ستين راحلة، وقيل كانوا ثلثمائة، فلعل هذا الاختلاف دليل على تكرر وفادتهم عليه ﷺ. ومما يدل على ذلك ما قاله البخاري في » صحيحه «، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : ما سمعت عمر رضي الله عنه يقول لشيء قط إني لأظنه هكذا، إلاّ كان كما يظن، بينماعمر بن الخطاب رضي الله عنه جالس إذ مر به رجل جميل، فقال لقد أخطأ ظني، أوأن هذا على دينه في الجاهلية، أو لقد كان كاهنهم، عليَّ بالرجل، فدعي له، فقال له ذلك، فقال : ما رأيت كاليوم أستقبل به رجل مسلم، قال : فإني أعزم عليك إلاّ ما أخبرتني، قال : كنت كاهنهم في الجاهلية، قال فما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟ قال بينما أنا يوماً في السوق جائتني أعرف فيها الفزع، فقالت :
وقوله تبارك وتعالى ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن ﴾ أي طائفة من الجن، ﴿ يَسْتَمِعُونَ القرآن فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالوا أَنصِتُواْ ﴾ أي استمعوا وهذا أدب منهم، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال :« قرأ رسول الله ﷺ سورة الرحمن حتى ختمها، ثم قال :» ما لي أراكم سكوتاً؟ للجِنُّ كانوا أحسن منكم رداً، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة ﴿ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [ الرحمن : ١٣ ] إلاّ قالوا : ولا بشيء من آلائك أو نعمتك ربنا نكذب فلك الحمد « ». وقوله عزّ وجلّ :﴿ فَلَمَّا قُضِيَ ﴾ أي فرغ كقوله تعالى :﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة ﴾ [ الجمعة : ١٠ ]، ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٠٠ ]، ﴿ وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ﴾ أي رجعوا إلى قومهم فأنذروهم ما سمعوه من رسول الله ﷺ كقوله جلّ وعلا :﴿ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [ التوبة : ١٢٢ ]، وقد استدل بهذه الآية على أنه في الجن نُذُرٌ وليس فيهم رسل، فأما قوله تبارك وتعالى في الأنعام :﴿ يَامَعْشَرَ الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ ﴾ [ الآية : ١٣٠ ] ؟ فالمراد من مجموع الجنسين فيصدق على أحدهما وهو الإنس، كقوله :﴿ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ ﴾ [ الرحمن : ٢٢ ] أي أحدهما، ثم إنه تعالى فسر إنذار الجن لقومهم، فقال مخبراً عنهم :﴿ قَالُواْ ياقومنآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى ﴾ ولم ذكروا عيسى، لأن عيسى عليه السلام أنزل عليه الإنجيل، فيه مواعظ وقليل من التحليل والتحريم، وهو في الحقيقة كالمتمم لشريعة التوراة، فالعمدة هو التوارة، فلهذا قالوا ﴿ أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى ﴾ ﴿ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ أي من الكتب المنزلة على الأنبياء قبله، ﴿ يهدي إِلَى الحق ﴾ أي في الاعتقاد والإخبار، ﴿ وإلى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ في الأعمال فإن القرآن مشتمل على : خبر وطلب، فخبره صدق، وطلبه عدل كما قال تعالى :﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً ﴾ [ الأنعام : ١١٥ ]، وهكذا قالت الجن ﴿ يهدي إِلَى الحق ﴾ في الاعتقادات، ﴿ وإلى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ أي في العمليات ﴿ ياقومنآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله ﴾ فيه دلالة على أنه تعالى أرسل محمداً ﷺ إلى الثقلين، الجن والإنس، وحيث دعاهم إلله تعالى وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين وتكليفهم ووعدهم ووعيدهم وهي « سورة الرحمن »، ولهذا قال :﴿ أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله وَآمِنُواْ بِهِ ﴾.
وقد حكي فيهم أقوال غريبة، فمن الناس من زعم أنهم في الجنة يراهم بنو آدم ولا يروا بني آدم، بعكس ما كانوا عليه في الدار الدنيا، ومن الناس من قال : لا يأكلون في الجنة ولا يشربون، وإنما يلهمون التسبيح والتحميد والتقديس عوضاً عن الطعام والشراب، كالملائكة لأنهم من جنسهم، وكل هذه الأقوال فيها نظر، ولا دليل عليها، ثم قال مخبراً عنهم :﴿ وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ الله فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرض ﴾ أي بل قدرة الله شاملة له ومحيطة له ﴿ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ ﴾ أي لا يجيرهم منه أحد ﴿ أولئك فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ وهذا مقام تهديد وترهيب، فدعوا قومهم بالترغيب الترهيب، ولهذا نجع في كثير منهم، وجاءوا إلى رسول الله ﷺ وفوداً وفوداً كما تقدم بيانه، والله أعلم.
ولحوقها بالقلاص وأحلاسها... قال عمر رضي الله عنه : صدق، » بينما أنا نائم عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل، فذبحه، فصرخ به صارخ لم أسمع صارخاً قط أشد صوتاً منه، يقول : يا جليح، أمر نجيح رجل فصيح يقول : لا إله إلاّ الله، قتال : فوثب القوم فقلت : لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى : يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول : لا إله إلاّ الله، فقمت فما نشبنا أن قيل : هذا نبي «.
صفحة رقم 2338
ألم تر الجن وإبلاسها ويأسها من بعد إنكاسها
وقوله تعالى :﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ ﴾ قبل إن ﴿ مِّن ﴾ ههنا زائدة، وفيه نظر، وقيل إنها للتبعيض، ﴿ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ أي ويقيكم من عذابه الأليم، ومؤمنو الجن يدخلون الجنة كمؤمني الإنس، ويدل عليه قوله تعالى :﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾ [ الرحمن : ٤٦ ] فقد امتن تعالى على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة، ولم يرد نص صريح ولا ظاهر عن الشارع، أن مؤمني الجن لا يدخلون الجنة وإن إجيروا من النار، ولو صح لقلنا به.