٥- ليوم القيامة أهوال عظام ومخاوف جسام منها:
أن كل أهل ملة يجثون على الركب خوفا من شدة الأمر، قال سلمان الفارسي: إن في يوم القيامة لساعة هي عشر سنين، يخرّ الناس فيها جثاة على ركبهم، حتى إن إبراهيم عليه السلام لينادي: «لا أسألك اليوم إلا نفسي».
ومنها: أن كل أمة تدعى إلى حسابها وكتابها الذي كان يستنسخ لها فيه ما عملت من خير وشر.
ومنها: أن الجزاء على قدر العمل ونوعه من خير أو شر.
ومنها: قطعية الإثبات للأقوال والأفعال، فإن صحائف الأعمال التي تسجلها الملائكة الحفظة على كل إنسان في الدنيا تشهد على أصحابها.
ومنها: المفاجأة بالحقيقة والواقع وهو أن اللَّه كان يأمر ملائكته بنسخ ما يعمله بنو آدم في الدنيا،
قال علي رضي اللَّه عنه: إن لله ملائكة ينزلون كل يوم بشيء يكتبون فيه أعمال بني آدم.
جزاء المؤمنين المطيعين وجزاء الكافرين العصاة
[سورة الجاثية (٤٥) : الآيات ٣٠ الى ٣٧]
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤)
ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧)
الإعراب:
وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها السَّاعَةُ بالرفع: مبتدأ ومعطوف على موضع إِنَّ وما عملت فيه، وقرئ بالنصب عطفا على لفظ اسم إن، وهو وَعْدَ اللَّهِ.
قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ، إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا السَّاعَةُ بالرفع: مبتدأ، وما:
خبره، وقرئ بالنصب على أنه مفعول نَدْرِي وما: زائدة. وإِنْ نَظُنُّ إلا ظنا تقديره: إن نظن إلا ظنا لا يؤدي إلى العلم واليقين. وإنما افتقر إلى هذا التقدير، لأنه لا يجوز أن يقتصر على أن يقال: ما قمت إلا قياما، لأنه بمنزلة: ما قمت إلا قمت، وذلك لا فائدة فيه.
رَبِّ الْعالَمِينَ بدل من رَبِّ الأول.
وَلَهُ الْكِبْرِياءُ، فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَهُ الْكِبْرِياءُ: مبتدأ وخبر مقدم، فِي السَّماواتِ: حال، أي كائنة.
البلاغة:
أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي استفهام توبيخ.
وَقِيلَ: الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا استعارة تمثيلية، مثّل تركهم في العذاب بمن سجن في مكان ثم نسيه السجّان من غير طعام ولا شراب، ووجه الشبه منتزع من متعدد.
والمراد: نترككم في العذاب ونعاملكم معاملة الناسي، لأن اللَّه تعالى لا ينسى.
فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها التفات من الخطاب إلى الغيبة، لإهمالهم وعدم العناية بشأنهم.
المفردات اللغوية:
فِي رَحْمَتِهِ في جنته الْفَوْزُ الْمُبِينُ الظفر البين الظاهر، لخلوصه عن الشوائب أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي أي يقال لهم ذلك، وآياتي: آيات القرآن وما قبله من الكتب المنزلة الثابتة المتضمنة شرائع اللَّه فَاسْتَكْبَرْتُمْ تكبرتم عن الإيمان بها وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ كافرين، فالمجرم: ضد المسلم، فهو المذنب بالكفر.
وَإِذا قِيلَ أي قيل للكفار إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي وعده بالبعث وبأنه محيي الموتى من القبور، ووَعْدَ اللَّهِ: إما الموعود أو المصدر، وحَقٌّ: ثابت كائن لا محالة لا رَيْبَ لا شك إِنْ نَظُنُّ ما نظن أو إن نحن إلا نظن ظنا، دخل حرفا النفي والاستثناء لإثبات الظن ونفي ما عداه وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ بمتحققين أن الساعة آتية.
وَبَدا ظهر لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا ظهر لهم في الآخرة جزاء أو عقوبات أعمالهم، أو عرفوا مدى قبح أعمالهم وَحاقَ بِهِمْ نزل أو حل وأحاط بهم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي الجزاء والعذاب نَنْساكُمْ نترككم في النار كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا تركتم العمل للقاء هذا اليوم، وإضافة اللقاء إلى اليوم: إضافة المصدر إلى ظرفه وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ مانعين منه يخلصونكم من أهواله.
اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً استهزأتم بها ولم تتفكروا فيها، وآياتِ اللَّهِ: القرآن وَغَرَّتْكُمُ خدعتكم الْحَياةُ الدُّنْيا أي زينتها، حتى قلتم: لا بعث ولا حساب لا يُخْرَجُونَ مِنْها الفعل مبني للمجهول، وقرئ بالبناء للمعلوم، ومنها أي من النار وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ لا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم بأن يرضوه بالتوبة والطاعة، لفوات الأوان، وعدم النفع يومئذ.
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ الشكر والثناء بالجميل على وفاء وعده في المكذبين رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ خالق هذه الأشياء، والعالم: كل ما سوى اللَّه، وجمع لاختلاف أنواعه. وهذه الأشياء نعمة من اللَّه ودالة على كمال قدرته الْكِبْرِياءُ العظمة والسلطان الْعَزِيزُ الذي لا يغلب الْحَكِيمُ فيما قدّر وقضى.
المناسبة:
بعد بيان أحوال القيامة وأهوالها، أبان اللَّه تعالى أحوال المؤمنين الطائعين وما أعد لهم من الرحمة أي الثواب، وأحوال الكافرين وما أعد لهم من العقاب، والتوبيخ على تفريطهم في الدنيا، وما حل بهم جزاء استهزائهم بالعذاب
وانخداعهم بالدنيا، ومعاملتهم معاملة المنسي بتركهم في النار، دون انتظار الخروج منها أو التوبة واسترضاء اللَّه عن الذنوب السالفة.
التفسير والبيان:
هذه الآيات تبين حكم اللَّه في خلقه يوم القيامة، سواء أكانوا مؤمنين أم كافرين، فقال تعالى مبينا حكم الفريق الأول:
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ، ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ أي فأما المصدقون بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، والذين عملوا الأعمال الصالحة وهي الخالصة الموافقة للشرع، فيدخلهم ربهم الجنة، وذلك أي الإدخال فيها هو الظفر بالمطلوب، وهو الفلاح والنجاح الظاهر الواضح.
وسمى الثواب رحمة، والرحمة جنة،
لقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم في الحديث الصحيح: «إن اللَّه تعالى قال للجنة: أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء».
ثم قال تعالى مبينا حكم الفريق الثاني وموبخا إياهم:
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ، فَاسْتَكْبَرْتُمْ، وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ أي وأما الذين أنكروا وحدانية اللَّه والبعث، فيقال لهم تقريعا وتوبيخا: أما قرئت عليكم آيات اللَّه تعالى، فاستكبرتم وأبيتم الإيمان بها، وأعرضتم عن سماعها واتباعها، وكنتم قوما مجرمين في أفعالكم، ترتكبون الآثام والمعاصي، وتكذبون في قلوبكم بالمعاد والثواب والعقاب؟ لذا أردف ذلك بقوله:
وَإِذا قِيلَ: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها، قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ، إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا، وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ أي وإذا قيل لهؤلاء الكفار من طريق الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم والمؤمنين: إن وعد اللَّه بالبعث والحساب، وبجميع
الأمور المستقبلة في الآخرة حق ثابت، وواقع لا محالة، والقيامة لا شك في وقوعها، فآمنوا بذلك، واعملوا لما ينجيكم من العذاب، قلتم: لا نعرف ما القيامة، إن نتوهم وقوعها إلا توهما مرجوحا أو ظنا لا يقين فيه ولا علم، وما نحن بمتحققين ولا موقنين أن القيامة آتية، أي كأنهم نفوا كل الظنون إلا الذي لا ثبوت علم فيه، وأكدوا هذا المعنى بقوله: وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ.
وبعد هذا التوبيخ والنقاش، ذكر اللَّه تعالى ما يفاجؤون به من العذاب:
وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي وظهر لهم قبائح أعمالهم وعقوبة أفعالهم السيئة، وأحاط بهم، ونزل عليهم جزاء أعمالهم بدخولهم النار، وعوقبوا بما كانوا يهزؤون به في دار الدنيا من العذاب والنكال، ويقولون: إنه أوهام وخرافات.
ثم أيأسهم تعالى من النجاة قائلا:
وَقِيلَ: الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا، وَمَأْواكُمُ النَّارُ، وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي ويقال لهم: اليوم نعاملكم معاملة الناسي لكم وكالشيء المنسي الملقى غير المبالى به، فنترككم في العذاب، كما تركتم العمل لهذا اليوم، وتجاهلتم ما جاء عنه في كتب اللَّه، لأنكم لم تصدقوا باليوم الآخر، ومسكنكم ومستقركم الذي تأوون إليه هو النار، وليس لكم من أنصار ينصرونكم فيمنعون عنكم العذاب.
وبذلك جمع اللَّه تعالى عليهم من وجوه العذاب الشديد ثلاثة ألوان هي:
الأول- أنه قطع رحمة اللَّه تعالى عنهم بالكلية.
الثاني- أنه جعل مأواهم النار.
الثالث- فقدان الأعوان والأنصار.
ثبت في الصحيح: «أن اللَّه تعالى يقول لبعض العبيد يوم القيامة: ألم أزوجك، الم أكرمك، ألم أسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟
فيقول: بلى يا رب، فيقول: أفظننت أنك ملاقيّ؟ فيقول: لا، فيقول اللَّه تعالى: فاليوم أنساك كما نسيتني».
ثم ذكر اللَّه تعالى أسباب هذا العقاب أو الجزاء، فقال:
ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً، وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا، فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها، وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي ذلك العذاب الذي وقع بكم بسبب أنكم اتخذتم القرآن هزوا ولعبا، وخدعتكم الدنيا بزخارفها وزينتها، فاطمأننتم إليها، وظننتم ألا دار غيرها، ولا بعث ولا نشور، فاليوم لا يخرجون من النار، ولا يطلب منهم العتبى بالرجوع إلى طاعة اللَّه، واسترضائه، لأنه يوم لا تقبل فيه التوبة، ولا تنفع فيه المعذرة.
وبعد أن أثبت تعالى قدرته على البعث بدلائل الآفاق والأنفس، وذكر حكمه في المؤمنين والكافرين، أثنى على نفسه بما هو أهل له تعليما لنا، فقال:
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ، وَرَبِّ الْأَرْضِ، رَبِّ الْعالَمِينَ أي الحمد الخالص والشكر الكامل على النعم الكثيرة لله خالق ومالك السموات، ومالك الأرض، ومالك ما فيهما من العوالم المختلفة المخلوقة من إنس وجن وحيوان، وأجسام وأرواح، وذوات وصفات.
وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي ولله العظمة والجلال والسلطان في أرجاء السموات والأرض، وهو سبحانه القوي القاهر في سلطانه فلا يغالبه أحد، الحكيم في كل أقواله وأفعاله وشرعه وجميع أقضيته في هذا العالم.
ورد في الحديث القدسي الصحيح عند أحمد ومسلم وأبي داود وابن ماجه عن
أبي هريرة وأبي سعيد رضي اللَّه عنهما عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «يقول اللَّه تعالى: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منهما، أسكنته ناري».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات الكريمات على ما يأتي:
١- إن ثواب المؤمنين الذين عملوا صالح الأعمال، فأدوا الفرائض، واجتنبوا المعاصي والمنكرات هو دخول جنات الخلد والنعيم.
٢- إن جزاء الكافرين الذين أشركوا بالله إلها آخر، واقترفوا المعاصي، وتكبروا عن طاعة اللَّه وقبول أحكامه واتباع شرائعه هو دخول نار جهنم.
وهذا يدل على أن استحقاق العقوبة لا يحصل إلا بعد مجيء الشرع.
٣- يوبخ الكفار ويقرّعون على تركهم اتباع آيات اللَّه في قرآنه وكتبه المنزلة على رسله والاستماع إليها.
٤- إذا قام المؤمنون بتذكير الكفار بوعد اللَّه بالثواب والعقاب وتأكيد أن الساعة آتية لا ريب فيها، أنكروا ذلك وكذبوه، وأجابوا بأنا لا ندري هل الساعة (القيامة) حق أم باطل؟ وإن نحن إلا نظن ظنا لا يؤدي إلى العلم واليقين، ولسنا متحققين ولا واثقين بأن القيامة آتية، وهؤلاء من المشركين هم الفريق الشاكون بالبعث والقيامة، وهم غير أولئك الفريق المذكورين سابقا القاطعين بنفي البعث في قوله تعالى: وَقالُوا: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا...
٥- في الآخرة تنكشف الحقائق وتنجلي الأمور بنحو قاطع، ويظهر لهؤلاء الكفار جزاء سيئات ما عملوا، وقبح جرم ما ارتكبوا، ويحيط بهم إحاطة تامة ما كانوا يستهزئون به من عذاب اللَّه.
٦- للعذاب ألوان ثلاثة: قطع رحمة اللَّه تعالى عنهم بالكلية، وصيرورة مسكنهم ومستقرهم النار، وفقدانهم الأعوان والأنصار.
٧- يقال لهم: استحقاقهم ألوان العذاب الثلاثة المذكورة بسبب إتيانكم ثلاثة أنواع من الأعمال القبيحة: وهي الإصرار على إنكار الدين الحق، والاستهزاء به والسخرية منه، والاستغراق في حب الدنيا، والإعراض بالكلية عن الآخرة والوجهان الأول والثاني داخلان في قوله تعالى: ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً والوجه الثالث هو المراد من قوله تعالى: وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا.
٨- لا خروج إلى الأبد من النار، ولا أمل في استرضاء اللَّه والتوبة والإنابة إليه والاعتذار منه، كما قال تعالى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها [السجدة ٣٢/ ٢٠].
٩- الحمد والثناء بالجميل كله على اللَّه تعالى الخالق والمالك لكل الكون سمائه وأرضه، وعوالمه، والمتفرد بالعظمة والجلال، والبقاء والسلطان، والقدرة والكمال، والحكمة الباهرة والرحمة والفضل والكرم، وذلك يدل على أنه لا إله للخلق إلا هو، ولا رب سواه، ولا محسن ولا متفضل إلا هو.
[الجزء السادس والعشرون]
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأحقافمكيّة، وهي خمس وثلاثون آية.
تسميتها:
سميت (سورة الأحقاف) للحديث فيها عن الأحقاف: وهي مساكن عاد في اليمن الذين أهلكهم اللَّه بريح صرصر عاتية بسبب كفرهم وطغيانهم، في قوله تعالى: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ.. [٢١].
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجوه ثلاثة هي:
١- تطابق مطلع السورتين في: حم، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.
٢- تشابه موضوع السورتين وهو إثبات التوحيد والنبوة والوحي والبعث والمعاد.
٣- ختمت السورة السابقة بتوبيخ المشركين على الشرك، وبدئت هذه السورة بتوبيخهم على شركهم، ومطالبتهم بالدليل عليه، وبيان عظمة الإله الخالق المجيب من دعاه، على عكس تلك الأصنام التي لا تستجيب لدعاتها إلى يوم القيامة. صفحة رقم 5
ما اشتملت عليه السورة:
موضوع هذه السورة كسائر موضوعات السور المكية وهو إثبات أصول العقيدة الإسلامية الثلاثة: وهي التوحيد، والرسالة والوحي، والبعث والجزاء.
بدأت السورة بالحديث عن تنزيل الكتاب وهو القرآن من اللَّه تعالى، وإنما كرر لأنه بمنزلة عنوان الكتب (الكتابة) ثم أقامت الأدلة على وجود الإله والتوحيد والحشر، وذمّت المشركين عبدة الأصنام، وردّت عليهم ردا دامغا مقنعا، وأجابت عن شبهاتهم حول الوحي والنبوة.
ثم ذكرت حال فريقين: فريق أهل الاستقامة الذين أقروا بتوحيد اللَّه واستقاموا على ملّته، وأطاعوا والديهم وأحسنوا إليهم، فكانوا أصحاب الجنة، وفريق الكافرين الخارجين عن هدي الفطرة، المنهمكين في شهوات الدنيا، المنكرين البعث والحساب، العاقين لوالديهم، بالتنكر للإيمان والمعاد، فكانوا أصحاب النار.
ثم ضربت المثل بقصة هود عليه السلام مع قومه «عاد» الطغاة الذين اغتروا بقوتهم، وأصروا على عبادة الأصنام، فأهلكهم اللَّه بريح عاتية، تدمّر كل شيء بأمر ربها، إرهابا لكفار قريش، وتحذيرا من استبدادهم وتكذيبهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وإنذارا بعذاب مماثل جزاء استهزائهم.
كما ذكّرتهم بإهلاك القرى المجاورة، وبمبادرة الجن إلى الإيمان بما سمعوه من آيات القرآن، ودعوة قومهم إلى إجابة نبي اللَّه والإيمان برسالته، فإن من عاند وأعرض عن إجابة داعي اللَّه، فهو في ضلال مبين.
ثم ختمت السورة بالتأكيد على قدرة اللَّه على البعث، لأنه خالق السموات والأرض، وبأن تعذيب الكافرين بالنار حق كائن لا محالة، وبالتهديد بأهوال القيامة، وبأن العذاب أو الهلاك لا يكون إلا للقوم الفاسقين الخارجين عن حدود